كانت صيرة، تلك الجزيرة الصغيرة العالقة بين البحر والتاريخ، أشبه بوميض حياة في صدر عدن. المدينة القديمة، مدينة الحنين والجبال والحرارة التي ترتفع في نهاراتها كأنها تخرج من قلب الشمس نفسها. عدن التي ما استقرت فيها جغرافيا ولا هدأت فيها رياح، لكنها وجدت في البحر صديقها القديم الحميم، وملاذها الأخير من ضيق الحر والرطوبة اللاهبة التي تثقل الهواء كغلالة لا تُرى. وكان ساحل الخشب، المقابل (لقصر البراق العبدلي)، واحداً من تلك المنافذ التي يتنفس من خلالها الناس، وتطلق فيها المدينة القديمة زفيرها الطويل، لتستعيد قدرتها على الحياة.
غير أن ما كان متنفساً، صار مطبقاً اليوم. وما كان فضاءً مفتوحاً على الأفق، أُغلق بجدران من الإسمنت، وجثا عليه بناءٌ عشوائي تمدد كما لو أنه لا يرى إلا ذاته.
لم يعد البحر كما كان، ولا السماء كما كانت، ولا النسيم يجد طريقه الى أحياء المدينة القديمة كما كان يفعل. شيء عميق تبدّل، وملامح المكان أخذت تنزاح بعيداً عن أصلها خطوة بعد أخرى، حتى غدا السؤال: أي مدينة ستبقى إذا فقدت هواءها؟
على امتداد الساحل (ساحل الخشب) الممتد من جسر صيرة إلى جولة المحكمة، نشأ حي كامل واستثمارات خرقاء بنيت فوق البحر مباشرة. ردمت مياه الأمواج التي كانت تتقدم وتنسحب كأنها نبض، فتحولت إلى أرض صماء، ثم تحولت الأرض إلى مبانٍ متعددة الأدوار، وإلى أسوار وأحواش وأسمنت، دون خطة أو رؤية أو وعي. لم يكن الدافع حاجةً ضاغطة إلى السكن، كما يحاول البعض ترديده، بل كان رغبة في فرض واقع جديد يستند إلى القدرة المالية والنفوذ المتغطرس وغياب الحسيّة تجاه المكان. من بوسعه أن يبني، بنى. ومن أراد أن يثبت قدماً حيث لا أرض، قرر أن البحر أرض قابلة للامتلاك.
هكذا تقلّص الساحل، ثم تلاشى جزء منه، ثم اختفت معالم المكان القديم. والأخطر من الجمال الذي ضاع، أن البيئة البحرية نفسها تعرضت لاعتداء صريح. ففي غياب شبكات الصرف الصحي المناسبة، حيث كان الاعتداء على الزمان والمكان والذاكرة، صارت مخلفات المنازل والمشاريع التجارية تصب مباشرة في البحر. الماء الذي كان مزارع السمك وملعب الأطفال ومرفأ المراكب الصغيرة، أصبح مصباً للنفايات، وبيئة خانقة تتراجع فيها أشكال الحياة البحرية يوماً بعد يوم. البحر لا يصرخ، لكنه يتغير. ملوحته ترتفع، ألوانه تتبدل، كائناته تتناقص، ورائحته تحمل ما يكفي لقول الحكاية.
ثم يأتي الهواء. عدن مدينة شديدة الحرارة بطبيعتها، عالية الرطوبة على امتداد أيامها. وهي مدينة لا يمكن ترويض مناخها إلا بمرور الهواء القادم من البحر. ذلك الهواء لم يكن مجرد نسيم؛ كان نظام حياة كاملاً، قدرة المدينة على احتمال نفسها. لكن البناء الذي ارتفع دون دراسة، أقام سداً بين المدينة وبين نسيمها. صار الهواء محاصراً، ومساراته مغلقة، والحرارة تتكدس فوق الجدران وفي الأزقة وبين البيوت التي تتجاور دون مسافة للتنفس. الرطوبة التي كانت تُخفف بمرور البحر، أصبحت الآن كالغشاء الكثيف الذي يلتصق بالجلد والروح، ولا ينفك.
هذه ليست أزمة جماليات أو ذوق عمراني فحسب، إنها أزمة صحة وبيئة ومستقبل. فالمدينة التي يُحبس هواؤها، تُحبس حياتها. ومع ذلك، يمر كل هذا في ظل صمت رسمي يوحي بقبول الأمر الواقع.
السلطة المحلية، بحجة التعاطي “الواقعي”، قامت بمد الكهرباء والمياه لتلك المباني، وكأنها تقول: ما بني سيبقى، وما أُخذ من البحر لن يعود. وهكذا تحولت مخالفة المكان إلى واقع، وتحول الاستثناء إلى قاعدة.
يمتد هذا الزحف العمراني اليوم حتى مشارف خورمكسر، يمضي ببطء لكنه ثابت الخطى. ومع كل متر جديد يُبنى، تُغلق نافذة من نوافذ المدينة. ومع كل جدار يرتفع، ينخفض الهواء الذي كان يهب على عدن في الساعة التي تسبق الغروب. صار الغروب الآن أكثر حرارة، والليل أكثر اختناقاً، والنهار أكثر وطأة.
صيرة لم تكن جزيرة فحسب، كانت ذاكرة مدينة، ورئة يتنفس منها الناس. وما يحدث اليوم ليس بناءً جديداً، بل إغلاق لتلك الرئة. وإغلاق الرئة لا يقتل المكان فوراً… لكنه يخنقه، ببطء، بصمت، وبلا قدرة على استعادة النفس.
