
تمثل الممارسات الاقتصادية السائدة في عدن والمناطق المحررة مثالًا واضحًا على “الاقتصاد الريعي المعولم”، الذي يرتهن لتدفقات رأس المال الأجنبي عبر قنوات المنظمات الدولية والكيانات العابرة للحدود، مقابل تهميش القطاعات الإنتاجية المحلية. وقد حوَّل هذا النموذج النشاط الاقتصادي إلى ساحة لتراكم الأرباح النقدية قصيرة الأجل، حيث تستأثر فئات ضيقة – مثل الكوادر العاملة في المؤسسات الدولية والنخب السياسية المرتبطة بالخارج – بامتيازات العملة الأجنبية، بينما تُدفع الأغلبية الساحقة إلى دوامة التضخم المتفاقم وانهيار قيمة العملة المحلية. ولا يقتصر هذا التباين على توزيع الدخل فحسب، بل يتجسد أيضًا في “تمييز مؤسسي” يؤثر على إمكانية الوصول إلى الخدمات الحيوية، كالرعاية الصحية والتعليم، مما يعمِّق “الانقسام الطبقي الممنهج” ويُغذي شعورًا عامًا بالاغتراب عن الهوية الوطنية.
أدت الإجراءات النقدية غير المدروسة – في ظل غياب “الحوكمة الفعالة” – إلى تحوُّل العملة المحلية إلى أداة للصراع السياسي، بدلًا من كونها رمزًا للسيادة الاقتصادية. فقدت المؤسسات النقدية قدرتها على تنظيم السياسة التضخمية، بينما تشير تقديرات الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي إلى أن 78 % من المعاملات المالية تتم خارج القنوات الرسمية، مما يعكس تفشي “اقتصاد الظل” بوصفه آلية بقاء قسرية للسكان. ويُنتج هذا الواقع بيئة خصبة لانتشار الشبكات الاقتصادية الموازية التي تسيطر عليها قوى غير رسمية، مما يُعزِّز دائرة الفساد، ويُضعف شرعية الدولة، ويفتح المجال أمام تصاعد الفوضى وانحسار سلطة المؤسسات الرسمية.
على الصعيد الاجتماعي، أدى تآكل الطبقة الوسطى – التي كانت عماد الاستقرار المجتمعي – إلى بروز ظاهرة “الطبقات الفقيرة الجديدة”، وهي فئات واسعة من السكان الذين انحدروا من وضعية الضمان الاجتماعي إلى هامش البقاء اليومي. وتشير بيانات برنامج الأغذية العالمي إلى أن 82 % من سكان المناطق الحضرية يعتمدون على المساعدات الإنسانية لتأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم الغذائية، بينما تكشف إحصاءات منظمة الصحة العالمية عن انهيار النظام الصحي بنسبة 70 % في المناطق المحررة. هذا التفكك الخدمي يُنتج “مجتمعات موازية” تعتمد على آليات البقاء الفردية، مما يُضعف التماسك الاجتماعي، ويُعزِّز الانتماءات ما دون الوطنية.
ثقافيًّا، أدت الأزمة الاقتصادية إلى تحولات عميقة في النسق القيمي المجتمعي، حيث أصبحت “ثقافة الريع” تهيمن على السلوكيات الاقتصادية. ويتجلى هذا التحول في تراجع قيم العمل المنتج لصالح سباق محموم نحو تحصيل التحويلات النقدية الخارجية، مما أفرز جيلًا جديدًا من الشباب يعاني من “الاغتراب الاقتصادي” – أي الانفصال بين المهارات المكتسبة واحتياجات السوق. وفي الوقت ذاته، أدى انهيار المؤسسات التعليمية إلى بروز “أجيال ضائعة” تفتقر إلى الأدوات المعرفية اللازمة للمشاركة في بناء المستقبل.
تشكل هذه التشابكات المعقدة بين العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تحديًا وجوديًّا للدولة الناشئة، حيث تتحوَّل الأزمة من مجرد اختلالات مالية إلى اختبار حقيقي لشرعية النظام السياسي وقدرته على تجسيد العقد الاجتماعي. إن تفشي المحسوبية وغياب الشفافية في توزيع الموارد حوَّل الدولة من ضامن للحقوق إلى طرف في الصراع الاقتصادي، مما يُغذي السرديات الثورية الداعية إلى التغيير الجذري. وفي هذا السياق، تحذر دراسات مركز الدراسات الاستراتيجية من أن استمرار الوضع الراهن قد يؤدي إلى “تفكك مجتمعي ممنهج” يصعب إصلاحه بالحلول التقليدية، مما يستدعي مقاربة شاملة تعيد الربط بين الأبعاد التنموية والأمنية في بناء السلام المستدام.