
مدينةٌ لم تُبنَ بالحجارة فحسب، بل بالنغم، بالعِطر الذي سال من قوارير العابرين، بالخطوات التي تركت ظلالها في أزقتها، بالأشرعة التي تنحني للريح حين تهمسُ باسمها.
عدنُ لم تكن يومًا خيمةً تُطوى ولا حكايةً تُنسى، بل كانت أنشودةً مفتوحةً على الأبد، كقصيدةٍ لم يُدوَّن آخر أبياتها بعد.
ولكن، وفي صمتٍ مهيب، يظهر السؤال كظلال بعيدة، تلمس أطراف العقل وتدفعه للبحث عن إجابة غائبة، أيُّ يدٍ خفيةٍ فتحتِ الأبوابَ للعبثِ ليخترقَ نسيجَ مدينةٍ كهذه؟ كيف يُقتطعُ من الضوءِ جرحٌ؟ كيف تُشوّه المرايا التي تعوّدت أن تعكس وجه الشمس بلا رتوش؟ إن العبث لا يختار فراغًا ليحطّ رحاله، بل يفتّش عن ما هو حيٌّ ليُميت نبضه، يبحث عن ما هو منظمٌ ليبعثره، وما هو نقيٌّ ليُكدّره.
جاء العبثُ إلى عدنَ في هيئةِ دخانٍ لا رائحة له، في صورةِ جيش من الدمى المتحركة، ترقصُ بلا خيوط. لا وجهةَ لها، في كلماتٍ لم تحملها الريحُ كما تحملُ دعواتِ الأمهات عند الفجر، بل نزلت على المدينةِ كصاعقةٍ لا تحملُ معها مطرًا.
في البداية، لم يكن العبثُ واضحًا، تسلّل كالماءِ بين شقوقِ الجدران، تغلغل في الأزقةِ الضيّقةِ دون أن يشعر به أحد، سار في الأسواقِ بغير صوت، تسلّل إلى المساجدِ كظلٍّ، إلى المدارسِ كهمس، إلى الموانئِ كعابرٍ بلا اسم. لم يُدرك الناسُ في أول الأمرِ أن العد التنازلي قد بدأ، أن المدينة التي كانت تُحسنُ استقبالَ الغرباءِ، ستُبتلى يومًا بغرباءٍ لا يمرّون، بل يَحفرون، لا يُضيفون، بل يَمحون، لا يُضيئون، بل يُطفئون.
كان العبثُ يعرفُ كيف يُغيّر الأشياءَ دون أن يُثير الريبة، استبدل الملامحَ ببطء، أضاف نبرةً غريبةً إلى لهجةِ المدينة، بثّ أصواتًا لا تشبه ضحكاتِ الأطفالِ التي كانت تملأ المساءاتِ عند أرصفةِ البحر، ولا أغنياتِ الصيادينَ عند الفجر، كان صامتًا لكنه ثقيل، لا يُرى لكنه محسوس، يُشبه غبارًا تراكمَ على المرايا حتى كفّت عن عكسِ الوجوهِ كما هي.
ثم بدأ العبثُ يُعلن عن نفسه، أخذ يرسمُ خطوطًا على الأرضِ التي لم تعرف حدودًا، يقيمُ الجدرانَ حيث لم تكن هناك سوى ممراتٍ مفتوحةٍ على الأفق، يضعُ الأقفالَ على الأبوابِ التي لم تُغلق يومًا، ويدسُّ الشكوكَ في العيونِ التي اعتادت أن ترى بصفاء. صار الناسُ ينظرونَ إلى بعضهم كما لو أنهم يلتقونَ لأول مرة، صار الجار يترددُ قبل أن يُلقي السلامَ على جاره، صار المساءُ أقلَّ دفئًا، والبحرُ أكثرَ صمتًا، والرياحُ تُعوي كأنها تبحثُ عن شيءٍ ضائع.
لم يكن العبثُ مجرد تغييرٍ في المظاهر، بل كان حربًا صامتةً على روحِ المدينة، استبدلَ القصائدَ بخُطبٍ خاوية، والأغنياتِ بشعاراتٍ لا معنى لها، والهويّةَ برموزٍ مشوّهة. حاولَ أن يجعلَ عدنَ تنسى نفسها، أن يُفرّغها من ذاكرتها، أن يمحو أسماءَ شوارعها كما تمحى الطباشيرُ عن السبورة، لكنه لم يُدرك أن المدنَ التي حُفرت في الزمنِ لا تُمحى، وأن الماءَ الذي يجري في عروقِ الصيادينَ يحملُ ذاكرةً أقدمَ من كل العابرين.
عدنُ ليست مجرّد أرضٍ تُغرسُ فيها الأقدام، بل سماءٌ تُحلّقُ فيها الأرواح، وحديقةٌ تنبتُ فيها الحكاياتُ كما ينبتُ الوردُ بعدَ المطر، إنها فسيفساءً صُنعت من ألوانٍ كثيرة، لكنها انسجمت في لوحةٍ واحدة، لم تكن قطعةَ قماشٍ يمكنُ أن تُقصَّ أو تُخاطَ على هوى أحد، بل كانت نسيجًا متماسكًا لا تُفكُّ خيوطهُ بسهولة. لم يفهم العابثونَ هذا، أرادوا أن يجعلوها على مقاسِ تصوراتهم، أن يحوّلوها إلى ظلٍّ لما يريدونه، أن يجعلوا البحرَ فيها مجردَ مساحةٍ زرقاء، لا روحَ له، ولا أغنية. هناك في أفقِه البعيد، تُبحرُ الحقيقة، إذ يعرفُ البحرُ من يُجيدُ الغرقَ في عشقهِ، ومن يطفو عليه خوفًا من العمق. والمدنُ التي عاشت قرونًا لا تموتُ ببضعِ سنواتٍ من التشويه، عدن، تلك الفاتنة الأزلية التي لا يطويها الزمن، كلما مر عليها، ازداد تألقها، تظل تاجاً يعتلي عرش التاريخ، تتلألأ بألوانٍ نابضة بالحياة لا يستطيع الزمان أن يطمس معالمها، والشمسُ التي كانت تشرقُ عليها قبل أن تُرسم الخرائطُ لن تُغير مسارها.
عدنُ ليست مجردَ ميناء، ليست مجردَ مبانٍ وحارات، ليست مجردَ سوقٍ أو شاطئ، إنها ذاكرةٌ تمشي، أغنيةٌ تُغنى حتى حين تُمنعُ الموسيقى، ملامح ترفضُ أن تذوب، وحكايةٌ لا تنتهي.
قد يُحاول العبثُ أن يطبعَ بصماتهِ على جدرانِ المدينة، أن يُشوّهَ أسماءَ أحيائها، أن يُطمسَ حروفَ تاريخها، لكن المدنَ التي تعرفُ حقيقتها لا تُخدع، والأرضُ التي حَمَلت في جوفها كل هؤلاء العابرين لن تَسمح أن يُمحى منها صوتٌ واحدٌ ممن مرّوا بها.
عدنُ تعرف العابثينَ جيدًا، رأتهم من قبل، سمعت أصواتهم في أزمنةٍ سابقة، لكنها كانت تعرفُ واثقة أن هؤلاء لا يبقون، أنهم عابرونَ وإن ظنّوا أنهم باقون، وأن البحرَ الذي غسلَ خطواتِ الملايينِ قبْلَهم سيغسلُ آثارَهم الوخيمة أيضًا، أن الريحَ التي حملت أصواتَ النوارسِ لن تحملَ إلا ما يستحقُ البقاء المفعم بالنقاء.
سيأتي يومٌ يُدركُ فيه العابثونَ أن عدنَ لم تُخلق ليُعاد تشكيلُها، أنها ليست ورقةً في دفترِ حساباتِ أحد، ولا قطعةَ أرضٍ تُباعُ لمن يدفعُ أكثر، ولا ساحةَ حربٍ تُرسمُ فيها الخرائطُ وفقَ أهواءِ الغزاة. عدنُ كانت وستبقى كما أرادتها الأقدارُ أن تكون، مدينةً تعبرُ مسارب العصورَ دون أن تفقد ملامحها، دون أن تنحنيَ للعابثين، دون أن تخونَ البحرَ الذي كان شاهدًا على كل شيء.
وحين يُسدلُ الغبارُ، ويعودُ الموجُ إلى غنائهِ الأزليّ، سيعرفُ من بقي أن العبثَ كان مجرّد موجة، وأن عدنَ كانت البحر وانسان التقاء.