خاض ترامب حملته الانتخابية على أساس تعهدات بتجنب التورّط في صراعات خارجية جديدة و”حروب أبدية”، ولكن تاجر العقارات النهم رأى في ركام غزة ثروة لا تُعوّض، فقرّر أن يشعل النار في السهل كله، وذهب إلى إصدار سلسلة من القرارات، وطرح مقترحات من شأنها إشعال حروب أبدية لا تتوقف.
الرجل الذي كان أول تصريحاته هو ضم كندا، ومصادرة قناة بنما، هو نفسه الذي شدّ بمكالمة هاتفية وُصفت بالعنيفة وغير الديبلوماسية، لقرابة الساعة، مع رئيسة وزراء الدنمارك، يقول فيها إنه قرر شراء غرينلاند الدنماركية، وإنه سيجعلها جزءاً من الولايات المتحدة، ولم يستبعد استخدام القوة العسكرية أو الاقتصادية لإقناع الدنمارك بتسليمها. وهو الذي خرج على العالم، بعد لقاء هزلي مع نتنياهو يرى أن قطاع غزة قطعة أرض مغرية، قال إنه سيجعلها ريفييرا الشرق الأوسط، شرط طرد السكان منها.
مقترح التهجير هذا يسمّى في القانون الدولي التطهير العرقي، ولكن من يشرح ذلك لترامب؟ وهو من رمى بالقانون الدولي عرض الحائط، بل وقرر خروج أميركا من مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وتلك خطوات إذا استمر تصاعدها فستصل بالعالم إلى ضرورة نظام عالمي جديد، قد يكون فيه إنقاذ للعالم من حيث لا يدري ولا يريد ترامب، ولكنها مشيئة الأقدار وسوء التدبير ولعنة الحظ.
المضحك أن الكيان الإسرائيلي أعلن أيضاً انسحابه من مجلس حقوق الإنسان هذا، ولكن تعليق الأمم المتحدة جاء ساخراً وهو أن إسرائيل ليست عضواً حتى تنسحب! أيّ مهازل هذه التي يعيشها عالم اليوم؟
نحن أمام مشهد عالمي فيه جنون لا يوصف.
بطبيعة الحال لن تنجح تهديدات ترامب في تهجير الشعب الفلسطيني إلى أيّ مكان لا فقط مصر والأردن، فتلك دول الصد الحامي لعمق القضية الفلسطينية، بل لأن شعب فلسطين رغم كل تغريبة الوجع الممتد لعشرات السنين، هو شعب الله الصامد، صنع دولة في الشتات ومقاومة حتى الممات، وتلك أمور منتهية. والجيش الأميركي لن يأتي ليصفّي أنقاض غزة لبناء الريفييرا، فتلك أنقاض تبتلع من يأتي إليها، لكن القلق الدولي هو من تصاعد خطاب أوهام القوة المفرطة في البيت الأبيض تجاه العالم كله.
وإن كان مقترح تهجير الشعب الفلسطيني حباً في أهل غزة لا طمعاً في غازها المنتظر، فلماذا لا يكون ذهاب السكان إلى عمق فلسطين حيث يافا وحيفا والقدس وبقية فلسطين، حيث كلها أرضهم أصلاً؟
هذا مقترح عملي علينا أن نتبنّاه كمجموعة عربية تريد السلام للعالم، في مواجهة مقترح ترامب الذي يُعد الانقلاب الأكثر تطرّفاً في الموقف الأميركي الراسخ تجاه إسرائيل والفلسطينيين في التاريخ الحديث للصراع، وسوف يُنظر إلى مقترح ترمب باعتباره أكبر تحدٍّ للقانون الدولي، وقد لخّص مبعوثه إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، الأمر، قائلاً عن ترامب: “هذا الرجل خبير بالعقارات”.
ولكننا أيها المبعوث لسنا مجرد صفقة! بل أمّة تنهض مع كل تهديد بالزوال، وربما كان هذا الوطن العربي الممتد من الماء إلى الماء، والمحاصر بالوجع، بحاجة إلى هزات مجنونة كهذه تعيده إلى جادّة التوحّد ولمّ الصف ومداواة الجروح.
وحسب الصحافة الغربية فإن تصريحات ترامب تلك تُعدّ مؤشراً على أن الرجل يدخل مرحلة توسعية جديدة وخطيرة، وأنه سيؤدي خلال ولايته الثانية دوراً أكبر على مسرح أعظم.
هل ستنزلق الأمور في الحلم الإمبراطوري، ووهم القوة الأوحد في العالم، بخلق إمبراطور ونواب ملك هم القادة العسكريون المطلقو الصلاحية البعيدون عن رقابة الكونغرس؟
الأمر في أوله، لكن له ما يعززه من تطورات واقع سيقود العالم لا أميركا وحدها نحو قفزة في فراغ كبير! هو هذا الاندفاع المجنون. وربما تصاعد المد اليميني في المؤسسة العسكرية الأميركية منذ ثلاثة عقود جعل حلم المشروع الإمبراطوري يبرز بسهولة مع ترامب. ونجد جوّ الديماغوجية العسكرتارية ومناخ العنصرية في تصاعد يثير القلق والتقزز معاً.
هل سيكون ترامب قيصر أميركا أم هو غورباتشوف جديد يسكن هذه المرة البيت الأبيض، وسيقفز بالولايات المتحدة إلى خارج الاتحاد الأميركي، نحو فراغ لا حدود له.
سنرقب لحظة تاريخية فارقة على ما يبدو، لا تختلف عن أفلام الأكشن الأميركية إلا في نهايتها هذه المرة، فالواقع غير السينما، ورامبو ليس بطلاً خارقاً كما تظهره هوليوود، فهو مجرد رجل عجوز يعاني من أمراض الشيخوخة كما يقول الواقع.