ماذا جرى؟ بل ماذا يجري؟ لا محل للسؤال في حروب تُصنَع في استوديوهات تليفزيون الواقع، وتُنتَج كما لو أنها سلسلة من إنتاج «نتفليكس». نحن نعيش نزاعات تبدو أقرب لأعمال فانتازيا منها إلى حروب تُدار بغرف عمليات حقيقية.
حروب الجميع تقاسم فيها الهزيمة، فاتفقوا على إعلان نصر مشترك ولكن الأهم في كل هذا، أن الحرب ـ الإسرائيلية الإيرانية ـ الأخيرة جاءت لتكشف مجددا عن حقائق راسخة، أبرزها غياب المشروع العربي، الذى ترك فراغا استراتيجيا تحاول مختلف القوى الإقليمية ملئه.
وهذا الغياب ليس تفصيلا بسيطا؛ فالعرب اليوم يشكّلون أكثر من 430 مليون نسمة، ويمتلكون طاقات بشرية واقتصادية هائلة، لكنهم لا يملكون مشروعا متكاملا يعزز وجود تحالف سياسي أو أمني موحد، رغم أن الإنفاق العسكري العربي يتجاوز 110 مليارات دولار سنويا. كل ذلك بلا مشروع جامع، بلا تكامل، وبلا رؤية استراتيجية مشتركة. وبينما العالم يتكتل سياسيا واقتصاديا، لا يزال العرب أسرى مبادرات فردية وردود فعل متقطعة. في ظل هذا الواقع، تطرح أسئلة ملحة حول كيفية بناء علاقات متوازنة وقابلة للاستمرار مع القوى الإقليمية، وعلى رأسها إيران.
أما فيما يتعلق بإسرائيل، فقد بات أي نقاش حول جدوى العلاقة معها عقيما، فنحن أمام كيان محتل. خاصة في ظل استمرار حكومة نيتنياهو اليمينية المتطرفة في فرض رؤى دينية إقصائية، لا تتسامح حتى مع المختلف داخل ديانتها، فكيف بالمخالفين دينيا وعرقيا؟ وهنا تبرز المعضلة الأخلاقية والسياسية التي يجد الغرب نفسه فيها، نتيجة دعمه غير المشروط لإسرائيل، بوصفها الديمقراطية الوحيدة في محيط عربي «غير ديمقراطي»، كما تقول السردية الغربية السائدة. هذه السردية غذّت خطابا استشراقيا يسوّق العربي ككائن عنيف، رافض للحداثة، بينما تقدَّم إسرائيل كدولة علمانية مسالمة.
لكن الواقع اليوم قلب هذه المعادلة: العربي الذى صُوِّر يوما كامتداد «لجماعة الأفغان العرب»، يظهر اليوم في كثير من حالاته أكثر عقلانية واعتدالا من الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي تبدو أشبه بجماعة لاهوتية متشددة تتبنى رؤى توراتية وتضم أكثر المتشددين عنفا في التاريخ.
تطلق إسرائيل على عملياتها العسكرية أسماءً توراتية كـ«أسد الرب»، وتتلقى دعما أمريكيا ثابتا بقرابة أربعة مليارات دولار سنويا، وتعويضا مستمرا عن كل خسارة للمال والسلاح، في حين خلفت حربها الأخيرة على غزة منذ أكتوبر 2023 أكثر من 55 ألف شهيد فلسطيني، بينهم 18 ألف طفل، ودمرت ما يزيد على 80 % من البنية التحتية فى القطاع، بحسب تقارير أممية.
لقد أسقطت حكومة نيتنياهو، خلال السنوات الأخيرة، سبعة عقود من التجميل السياسي الذى حاول تسويق إسرائيل كدولة تحترم القيم الديمقراطية والتعدد. ما ظهر هو العكس تماما: عنصرية معلنة، كراهية للآخر، وتمسك بخرافات دينية ترفض المنطق والعقل. لكن صمود الشعب الفلسطيني، ورؤية الثورة الفلسطينية الإنسانية منذ البداية، عزز للقضية الفلسطينية بعدها الحقيقي كرمز للتحرر الإنساني ورفض العنصرية والاستعمار.
أما في الجهة الأخرى، فالعلاقة مع إيران تظل جوهر التحولات الإقليمية، إلا أنها علاقة مضطربة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979م.
إيران تبنّت مشروع تصدير الثورة، مقرونا بخطاب مذهبي وهيمنة إقليمية، ما عمّق من مشاعر الرفض لها سياسيا وشعبيا. وقدّرت تقارير مختلفة أن إيران تنفق سنويا ما بين 16 و20 مليار دولار على دعم أذرعها في المنطقة، الممتدة في لبنان، سوريا، العراق، واليمن. خذ مثلا التجربة اليمنية في العقد الأخير، حيث روّجت ميليشيات الحوثي، المدعومة من طهران، لفكرة أن اليمنيين يعيشون صراعا مذهبيا متجذرا منذ «صفين». وتنشر خطابها القائم على نظرة مذهبية عنصرية معلنة. هذه السردية أسهمت في خلق تشظٍ مجتمعي غير مسبوق، وعمّقت الشرخ الوطني. وغذت نفورا مجتمعيا واسعا من إيران.
ما يحدث ليس خلافا سياسيا فحسب، بل انقسام جغرافي وثقافي خطير يتطلب جهدا استراتيجيا لاحتوائه. والحرب الإسرائيلية الأخيرة قد تكون «جرس إنذار» لطهران بأن العلاقة مع العرب لا تُبنى بالهيمنة، بل بالاحترام المتبادل. كما أن اللحظة مناسبة «لعودة الروح» ولـ«يقظة عربية» حقيقية، تعيد إحياء المشروع العربي كصمام أمان لاستقرار المنطقة، وكحائط صد أمام المشاريع الطائفية والعنصرية. المطلوب ليس تفكيك إيران كدولة، بل تفكيك خطابها التوسعي المتعصب.
وفى المقابل، المطلوب مشروع عربي جامع، يقوم على مبادئ المواطنة والدولة المدنية والتكامل الإقليمي، ويستعيد زمام المبادرة، ويوقف الفوضى الاستراتيجية التي جعلت منطقتنا ساحة مفتوحة للتجارب الدينية والسياسية. حتى لا نبقى جمهورا في مباريات دموية، يُعلن فيها الطرفان فوزهما، بينما الخسارة الوحيدة هي من نصيب الجمهور.