يعزز من نظرة الشعور بالعزلة والتجاهل هذا الغموض الإعلامي، لا صور ولا معلومات ولا إمكانية لسماع شهادات الناس. لا أحد يتحدث في هذا البلد المحشور في أقصى الجزيرة العربية عما يحدث، عدا صور من تليفونات عابرة، وحديث لمراقبين بعيدين مكانا ووعيا عن مجمل الصورة الحقيقية.
والمؤلم هو متاجرة الحوثي بآلام الناس و أوجاعهم، والمزايدة على القضية الفلسطينية العادلة، فقد اختطفت الجماعة المتمردة عاصمة اليمن في لحظة تناحر وانهيار غريب لتسير بمشروع دمار أدخلت فيه البلد في نفق تمزق لن يخرج منه بسهولة، وحولت الجماعة قدرات عاصمة البلد الكبير إلى مختبر لصنع الإرهاب وتصديره، لتجلب لشعب الإيمان والحكمة كل ويلات الحروب وكل أنواع التدخلات. فتصنيف الإدارة الأمريكية للحوثيين كجماعة إرهابية جاء متأخرا كما يرى ذلك معظم اليمنيين، حتى إن هناك من يجاهر بالقول إنه لا يثق بما يجري، ويراه ربما سيناريو إعادة تصدير للجماعة التي أصابت الناس بالدمار النفسي قبل دمار المدن.
عزلة مناطق سيطرة الحوثي باليمن تزداد كل يوم، وللعزلة تبعاتها وآثارها فالجماعة القابضة على أرواح السكان في صنعاء، لا تقوى على تقدير الموقف وتفكر خارج المنطق ويكسبها العزل الواسع انكفاء عدوانيا مخيفا، مثل كل قبضة للتعصب الديني ينتج دائما عنها ثنائية العزلة والاستبداد، فالعزلة تزرع في الناس الجهل والشك في الآخرين، وتضعف حجم الثقة المتبادلة، أما الاستبداد السياسي فيزرع في الناس كراهية كل مخالف.. وخلال عشر سنوات ليس هناك تواصل حقيقي للناس الذين ساقهم سوء الطالع ليكونوا في مناطق سيطرة ميليشيات الحوثى مع العالم.
الجماعة التي أنشأت قوة محلية ضاربة، وسياجا إعلاميا ديماغوجيا يبدأ بعشرات الإذاعات المحلية ولا ينتهي بطابور من السيطرة على فضاء الإنترنت المحدود أصلا باليمن.. سياج إعلامي مضلل ومثير للشفقة، حيث لا صوت يعلو على صوت الإمام المنقذ وصرخة التشظي المذهبي. ضربت الجماعة عزلة مخيفة على الناس بقبضة أمنية فاشية وأحادية فكرية، لايجرؤ معها سكان صنعاء على رفع الهمس بأنين جوعهم، أو المطالبة برواتبهم منذ سبع سنوات، لك أن تتصور حجم الإذلال، بأن تُساق إلى عملك كل يوم لسنوات دون أن تجرؤ على مطالبة السلطات بأجر؟ ثم تخرج بمسيرات شعبية تحت سياط الخوف تهتف بعصمة القائد الفرد الملهم !. وتجبر تحت نير القهر على شكره لصون كرامة الأمة، وتهتف مطالبا بتحرير العالم، تهتف للحرية وأنت ترسف بأغلال العبودية.
تلك هي صورة صنعاء اليوم، لمن يسأل عنها ولا يراها إلا من خلال اعلام مضلل. وكما وصفها الشاعر الكبير عبدالله البردوني رحمه الله قبل سنين: (مليحة عاشقاها: السلُّ والجربُ.. ماتت بصندوق (وضاح) بلا ثمنٍ.. ولم يمتْ في حشاها العشقُ والطربُ).
الآن حتى الطرب تم قتله ايها البردوني البديع، قتل في هتافات الحرب. وظهرت صرخات كراهية مؤذية للذوق والسمع. جُبِل الناس في اليمن، على فطرة نصرة القضية الفلسطينية، وتحرير فلسطين يعيشون في قلب البلد الصعب، وقلوبهم مع قضايا الأمة، فتلك طبيعة الناس هناك، يصحون على نداء القدس، ولا ينامون من أنين غزة، يتعاطفون مع بيروت ويبكون على دمشق.
وحده الحوثي وجماعته بقي دوما يرى ذلك الأمر بدعة لا تعنيه، حتى جاء فجأة يختطف راية كان ينكرها، وإذا بالناس بين نارين :
الأولى إرهاب قبضته المكرسة للصراع الطائفي والمناطقي، والثانية اختطافه راية فلسطين عنهم عنوة وهم يعرفون زيف ادعائه.
لذا يأتي أي قصف لصنعاء ليكرس حالة الذهول التي تحيط بالناس، فهم يدركون أن جنون ميليشيات الحوثي المتمردة من جلب القصف واستدعاء تدخل العالم، وهم أي الناس من يكتوون بنار كل الحرب، حيث لا يكترث الحوثي لضرب أي منشأة ملك الشعب، ولا يعنيه توفير الخدمات لهم، وبالتالي فإن قصف الكهرباء أو الطرق، لا يشكل أي ضغط عليه ولا يثير غضبه، بل قد نراه ينتشي أكثر، مرسخا قدمه على واقع ملغم، يفرح بالخراب، كون الحرب لديه مصدر رزق لا كارثة تصيب البشر، هو يخشى على رأسه فقط وما دونه يراه عدما. ولن يؤثر اي تدخل مالم يكن الضرر شخصيا في الجماعة. ولا يدري المرء هل مايجري لأرض السعيد هي لعنة الآباء المتوراثة منذ تمزق أيادي سبأ. (وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّق). أم أن هناك فرصة للخلاص من كل هذا صارت تلوح بالأفق قريبا. حيث تعود الأمور لما يجب أن تكون من بناء مؤسسات الدولة، التي وحدها من يمكنها صنع الاستقرار، واحتواء كل ألوان الطيف لليمن الكبير. وإنهاء هذا التمرد المهدد للسلام والأمن محليا ودوليا، وتنتهي مرحلة ازدهار بندقية بقيت دوما بندقية للإيجار والعبث.