ثارت معركة حامية الوطيس داخل (مؤتمر الحوار) في إطار (فريق بناء الدولة) بين أنصار الدولة المدنية الحديثة الديمقراطية وعددهم (تسع وثلاثون) من جهة، وجماعة الإخوان والسلفيين وعددهم (خمسة أشخاص)، حول النص الخاص بالشريعة الإسلامية كمصدر للتشريعات، فاتفق دعاة وأنصار الدولة المدنية الحديثة على أن يكون النص كالتالي:
((الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع)).
بينما ذهب خصومهم من جماعة (الإسلام السياسي) إلى ضرورة أن يكون النص كالتالي:
((الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات)).
وعندما خسر أصحاب الإسلام السياسي المعركة داخل مؤتمر الحوار خرجوا إلى استعداء العامة بواسطة فتاواهم وخطبهم وجرائدهم وبياناتهم بما حملته من تكفير صريح لأعضاء (فريق بناء الدولة) في المؤتمر، ووصمهم بالارتداد ومن ثم، إباحة دمائهم.
ففي تاريخ 22 يوليو 2013م ظهرت الصحف المملوكة لـ(التجمع اليمني للإصلاح) والتابعة له حاملة لواء حملة تكفير شعواء وكلمات سباب وتجريح ضد أعضاء الفريق المذكور وكل أنصار الدولة المدنية الحديثة.
وعلى سبيل المثال: صحيفة (الفضيلة)، العدد (10) وتاريخ 13 رمضان 1434هـ الموافق 22 يوليو 2013م، التابعة لـ(التجمع اليمني للإصلاح)، حيث حملت (مانشيتاً) بـ(البنط) العريض جداً وجعلته عنواناً لها في صفحتها الأولى وهو:
((نعم .. عبارة (الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع)) شرك بالله.
كما تضمنت الصحيفة عناوين مثيرة في حملة التكفير هي: ((الشيخ الزنداني يوجه نداءً هاماً للشعب اليمني)) و((الردة في مؤتمر الحوار)) و ((الشعب اليمني لن يفرط في دينه ولن يسكت على التآمر على ثوابته)).
((ألم نقل لكم إن المدنية هي العلمانية)) و ((ظهر النفاق وانكشف التلبس في تحكيم الشريعة)) ... الخ.
كما خصصت الصحيفة صفحة كاملة كفرت فيها الأحزاب والقوى السياسية التالية:
-1 حزب التجمع الوحدوي.
2 - الحوثيون (أنصار الله).
3 - الحزب الاشتراكي.
4 - المؤتمر الشعبي العام.
5 - حزب العدالة والبناء.
6 - حزب الحق.
7 - الحزب الناصري - التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري.
8 - حزب البعث العربي الاشتراكي.
9 - الحراك الجنوبي.
الحقيقـــة :
إن الداعين إلى استمرار النص الحالي في الدستور كما هو لا يريدون بذلك إلا تملق الجماهير وخداعها في الوقت نفسه.
فالمشرع في اليمن سنّ ولا زال يسن، غالباً، من القوانين ما يراه ملائماً للمجتمع ومناسباً لظروفه، دون أن يجهد المشرع نفسه في البحث عن مدى موافقة أو مخالفة هذه القوانين لأحكام الشريعة. وليس معنى ذلك أن تشريعات هذه الدولة تتعارض مع أحكام الشريعة، وإنما هي قوانين مرجعها أكثر الآراء الفقهية تطوراً في اليمن وعلى الأخص فقه المدرسة الزيدية الهادوية.
النص الدستوري والمشرع اليمني :
جرت سنة الدساتير المعاصرة في العالم العربي قاطبة ومنها (اليمن) على إسناد مهمة التشريع إلى المجلس التشريعي وهو (مجلس النواب في اليمن) وإطلاق الحرية له في ممارسة عمله، بشرط واحد هو التزام أحكام الشريعة واحترام المبادئ الأساسية التي قررها الدستور. ولم تجر الدساتير الحديثة على إلزام السلطة التشريعية بأن تتقيد بمصدر وحيد بذاته، بل أطلقت يدها في سن ما تراه ملائماً للجماعة في ضوء الظروف المحيطة بها ملتزمة في ذلك بالنسبة لليمن أحكام الشريعة ومبادئها الكلية وأنسب الاجتهادات الفقهية وخاصة الاجتهادات العظيمة لفقهاء المذهب الزيدي المعتزلي في اليمن الأوائل والأواخر، وتلك الآلية والطريقة المتبعة في التشريع هو ما جرى تطبيقه في اليمن طيلة السنوات الماضية منذ انقلاب 26 سبتمبر 1962م.
ويكفي تدليلاً على ذلك أن المادة (48) من قانون العقوبات تنص على حكم فقهي معتزلي عظيم يعارض كل ما ورد في كتب الوهابيين والسلفيين والإخوان حول هذه المسألة (إسقاط الحدود الشرعية)، ويناقض معتقداتهم الفقهية وثوابتهم الفكرية من الإمام (الشافعي) وحتى الآن وذلك هو الحكم المقرر بالمادة المذكورة ونصها كالتالي:
((لرئيس الجمهورية أن يأمر بتأخير إقامة الحد كما له أن يأمر باسقاطه متى اقتضت المصلحة ذلك، وذلك فيما لا يتعلق به حق الآدم)).
وهذا الحكم مأخوذ من اجتهادات الفقه الزيدي المعتزلي في اليمن.
وبناءً على هذه المادة فإن الرئيس السابق المشير (علي عبدالله صالح) كان يلغي أي حكم قضائي بالرجم أو قطع الأيدي والأرجل ويعيده إلى المحكمة التي أصدرته لكي تحكم بالحبس بدلاً من الحد الشرعي، ولم نسمع كلمة اعتراض عليه من زعماء حزب (التجمع اليمني للإصلاح) أو (حزب الرشاد السلفي)، إما نفاقاً أو لعلمهم بأن حق الحاكم في إسقاط الحدود هو مصلحة راجحة على ما عداها في عصرنا فيجب الأخذ بها ناهيكم عن تكفير القائل بها أو المطبق لها.
والجدير بالملاحظة أن المحاكم اليمنية تحت تأثير هذا النص المعتزلي العظيم كَفَّت عن إصدار أحكام بالقطع والرجم لعلمها أن مصيرها هو الإعادة من رئاسة الجمهورية وعدم القبول في المحافل الدولية وتوقيع العقوبات الاقتصادية وغيرها على اليمن إذا هي أصرّت على القطع والرجم.
كذلك المادة (47) من قانون العقوبات وتنص على مايلي:-
(المصدر الرئيس) و (مصدر رئيسي) للتشريع :
إن النص القائل بأن (الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع)، إذ يؤكد المكانة الثابتة لها بغير نص. فإنه يجعل ما عداها ثانوياً بالضرورة. وهذه النتيجة لا محيص عنها، لأن الأصل أنه لا يوجد تَدَرُّج بين المصادر الموضوعية أو المادية للقوانين، بل الأصل تكافؤها. فإذا وصف الدستور واحداً منها بأنه المصدر الرئيس فقد دل بذلك على أنه يعتبره المصدر الوحيد الذي يعلو على كافة المصادر ويعتبر مرشداً لها ولكنه لايستغرقها لأن الحاجة قد تدعو للأخذ من مصادر أخرى كقوانين الطيران والفضاء والبحرية والكمبيوتر ..الخ وهذه لا وجود لها في دائرة الأحكام الشرعية والفقه الشرعي الإسلامي. ولو قيل بغير ذلك لكان التخصيص عديم الجدوى.
ولو كان أنصار الدولة المدنية الحديثة في مؤتمر الحوار أرادوا جعل الشريعة مجرد أحد مصادر التشريع لكانوا اقترحوا أن يكون النص كالتالي: ((الشريعة مصدر رئيسي للتشريع)). أو ((الشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع))، وكل عالم بقواعد اللغة العربية يعلم الفرق الشاسع بين عبارة ((المصدر الرئيس) و ((مصدر رئيسي)).
إن النص المقترح في الدستور القادم على اتخاذ الشريعة الإسلامية ((المصدر الرئيس للتشريع))، إنما يعني بـ(الشريعة) مجموعة النصوص التي وردت في الكتاب والسنة الصحيحة المتواترة، فإن لم يجد المشرع في هذه النصوص حكماً يمكنه الرجوع إلى المصادر الثانوية الأخرى، وبهذا المعنى فالشريعة الإسلامية لا تستغرق مصادر التشريع، ولكنها تتقدمها وتعلو عليها باعتبارها المصدر الرئيس لها جميعاً.
وحقيقة الأمر أن الشريعة الإسلامية بالنص على اعتبارها (المصدر الرئيس للتشريع) فإنها سوف تؤول، عند التطبيق، إلى أن تكون مصدر التشريعات الوحيد من حيث المبادئ الحاكمة للتشريع، تأسيساً على أن مبادئ الشريعة الإسلامية نظام قانوني شامل وعظيم تتسع توجهاته ومبادئه الكلية لكل جوانب الحياة.
المصــادر الأخــرى :
المصادر الأخرى للتشريع متعددة: منها القوانين المقارنة والأعراف السائدة، والاجتهادات الفقهية والقضائية، ومبادئ العدالة، وهذه المصادر على اختلافها تتفق فيما بينها في أنها تزود المشرع بجزء هام من المادة التي يصوغ منها قواعده. والأصل أن هذه المصادر الثانوية إذا تزاحمت وتعارضت، فإنها لا تتفاضل فيما بينها لعلة في ذاتها، فهي في مجموعها سواء من حيث إنها تقدم للمشرع فروضاً لما ينبغي أن يكون عليه الحكم في واقع الحال. ومناط التفضيل بينها هو تقدير المشرع وحده، فهو الذي يقدم مصدراً على مصدر من المصادر الأخرى، وهو لا يجري دائماً على نفس الوتيرة، بل يقدم ويؤخر، وذلك حسبما تقتضيه المصلحة العامة للوطن والشعب، وعلى ذلك فليس في طبيعة هذه المصادر ما يسمح بتقسيمها إلى مصادر رئيسية وأخرى ثانوية.
إن القول بأن (الشريعة الإسلامية) هي المصدر الوحيد لكافة التشريعات سيؤدي بنا إلى إنكار كافة المصادر ماعدا ( إجماع الصحابة) وحتى هذا فسوف لن يعني اعتباره مصدراً بمفهومه السائد لدى الجمهور، وهو أنه اتفاق مجتهدي الأمة في زمن ما على حكم لم يرد به نص. ولا بوصفه اجتهاداً منهم في استنباط حكم، وإنما بوصفه نقلاً متيقناً متصلاً وثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا تضييق على المشرع والناس يسلم حياتهم إلى الجمود بما يتعارض وسنة الحياة في التطور. (انظر: الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، جـ4 ، ص «509 ، 530» ).
إن استمداد الأحكام والنصوص والقواعد من المصادر الأخرى أمر تحتمه الضرورة خاصة إذا ما علمنا بأنه من بين ستة آلاف ومائتين ويزيد آية، هي مجموع آيات القرآن الكريم، فإن مائتي آية فقط تتضمن أحكاماً تشريعية، أي أن نسبة الآيات التي تتضمن هذه الأحكام هي جزء إلى ثلاثين جزءاً من القرآن الكريم، بما في ذلك الآيات المنسوخة.
وإجماع الفقهاء المستنيرين قديماً وحديثاً هو أن الله سبحانه وتعالى لم يرد أن تعالج (الشريعة) بالتفصيل كل ضرورات الحياة ومشاكلها التي تخطر على البال في مختلف الأزمنة والعصور وبالنسبة لكل الناس، ولكنه تعالى أراد أن يحدد بالأحكام الشرعية التي نص عليها المجال الاجتماعي الذي يجب على الأمة أن تتطور في حدوده، وترك هذا العدد الهائل من المسائل القانونية المحتملة الوقوع لتتم معالجة كل منها في ضوء المصالح المعتبرة ومقتضيات العصر، وتبعاً لتغير الظروف السائدة. فكأن الشارع الحكيم أراد من المسلمين أن يقوموا بأنفسهم بوضع التشريعات الإضافية الضرورية عن طريق الاجتهاد أي عن طريق التحليل العقلي المستقل بشرط أن يكون منسجماً مع روح الإسلام وغاياته وحتمية التطور ومقتضياته. أما الأحكام والقواعد التي وصل إليها الفقهاء فكثير منها ليس إلا انعكاسات لزمن معين أو لحالة اجتماعية معينة ومصالح طبقات وفئات محددة، ولهذا فلا يمكن إعطاء هذه الأحكام والآراء صفتي الصحة المطلقة والنفاذ الأبدي. وعلى هذا فالشريعة الحقيقية أكثر إيجازاً وأصغر حجماً من ذلك البناء القانوني الذي ساهمت في تضخيمه وتوسيعه المذاهب الفقهية( ).
وبناءً على ذلك فإنه حيث لا يجد المشرع نصاً في الكتاب ولا في السنة الصحيحة المتواترة المتوافقة مع أحكام القرآن الكريم فهو أي المشرع (مجلس النواب) في حل من تنظيم المسألة على النحو الذي يراه دون أن يقيده اجتهاد مجتهد أو رأي عالم دين مهما علا قدره وعظمت مكانته، وإن كان ذلك لا يحول بينه وبين الاستئناس باجتهادات السلف، سواء كانت هذه الاجتهادات مجرد آراء نظرية أو سوابق تاريخية. والقيد الوحيد الذي يلتزم به المشرع هو روح الإسلام وغاياته فيما يصدر من تشريعات، ومن هنا صحة النص على أن:
((الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريعات)).
وبطلان مزاعم خصومه.
إن الإسلام لم يجئ لإعنات الناس، بل جاء رحمة بهم وهداية لهم. وإذن فواجب المشرع أن يقنن للناس من الشريعة كمصدر رئيسي وغيرها من المصادر الأخرى الضرورية أحكاماً تستقيم بها حياتهم ولا تضطرب، ويستمر بها تطورهم ولا ينتكس، وتيسر عليهم حياتهم فلا ترهقهم من أمرهم عسراً. فكيف يتسنى للمشرع أن يوفق بين الرغبتين دون أن يقع في الحرج فيلفي نفسه مرغماً على التخلي عن إحداهما في سبيل الأخرى؟
خلاصة ونتائج :
يتضح مما سلف أن النص الدستوري لم يجعل الشريعة الإسلامية مصدراً وحيداً، كما أنه لم يقصرها على كونها مجرد (مصدر رئيسي) كما هو الحال في معظم الدساتير العربية الأخرى، بل جعلها أصحاب المقترح الذين كفرهم خصومهم (المصدر الرئيس للتشريع)، فأعلوا من شأن الشريعة الغراء وفي الوقت ذاته فتحوا المجال أمام المشرع اليمني لاستمداد قواعده من مصادر أخرى تتناسب ومبادئ الإسلام الكلية وهو ما تمليه المصلحة العامة وضرورات الحياة المعاصرة. وبناءً على النص الدستوري المقترح فإن المشرع اليمني ملتزم بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية ابتداءً كلما همّ بسن تشريع لاستنبائها الحكم فيما همّ به، فإن وجد فيها حكماً قَنَّنه، وإن لم يجد بحث عن ضالته في غيرها من المصادر اليمنية (العرف مثلاً) والعربية والعالمية دون أن يكون بذلك كافراً أو خارجاً عن المِلَّة ومعادياً للدين ومشركاً بالله ومنكراً لحُكمه كما روج البعض خلافا للحقيقة ضد المثقفين والمثقفات أنصار الدولة المدنية في (فريق بناء الدولة) بمؤتمر الحوار والذين تعرضوا لقصف تكفيري يغضب الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الصادقين جميعاً.
وفي ضوء النص الدستوري الذي يجعل الشريعة المصدر الرئيس للتشريع:
فإنه يترتب على ذلك النتائج التالية:
النتيجة الأولى : يتعين على المشرع ابتداءً أن يقنن الأحكام التي وردت بها نصوص صريحة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة المتواترة قطعية الثبوت والمفهوم والدلالة وبما لا يتعارض مع ما ورد في القرآن الكريم.
النتيجة الثانية : أن النصوص التي تقبل التأويل لكونها ظنية الدلالة على أحكامها فباب الاجتهاد فيها مفتوح. وواجب المشرع أن ينظر فيها وأن يوازن بين آراء المجتهدين ثم يرجح من بينها ما يراه أولى بالاتباع ويصوغه في شكل نصوص قانونية يلتزم بها الناس جميعاً.
النتيجة الثالثة : ما لم يرد فيه نص خاص قطعي الثبوت والمفهوم والدلالة فباب الاجتهاد فيه مفتوح على مصراعيه. وللمشرع أن يضع له من الأحكام ما يراه ملائماً على أن يضع نصب عينيه في المقام الأول قواعد الشريعة الكلية ومبادئها العامة. وله في حدود هذه الدائرة أن يستمد أحكامه من أي مصدر يجده موفياً بالحاجة.
الهوامش
( ) قارن: د. عوض محمد، (دراسات في الفقه الجنائي الإسلامي)، ص (12).
> أستاذ علوم القانون الجنائي - جامعة صنعاء