ويتناول هذا المقال مسألة جذرية فى الخلاف بين الإخوان وعبدالناصر تتعلق بفكرة القومية العربية ومختلف تدابيرها قبل ثورة يوليو 1952 وبعدها. فعلى مدار عقود من الزمن دار سجال بين جماعات وتنظيمات سياسية تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها وبين القوى التى ترفع لواء العروبة، حول العلاقة بين الإسلام والقومية، ورأى أتباع الفريق الأول أن هناك تناقضا بينهما، على اعتبار أن القومية سلسلة من المبادئ الجزئية المتصلة بظروف جماعة معينة من البشر واحتياجاتها، أما الإسلام فهو رسالة أبدية وعالمية لا يميز بين الناس إلا بالتقوى، لذا فهو يتحفظ على سعي القوميين لتعظيم العروبة كقيمة داخل الإسلام. لكن أتباع الفريق الثاني لم يروا أي تناقض، لأن العربية ليست دينا بديلا إنما هى لسان.
وكانت البداية مع الرواد الإصلاحيين حين أخذوا يدعون إلى الجامعة الإسلامية وتحولت دعوتهم من عاطفة ولاء ديني محض إلى رابطة اجتماعية لها هدف سياسي معين وهو تحقيق النهضة الدنيوية، بالإضافة إلى النهضة الدينية، وذلك تحت لواء الدولة العثمانية بعد القيام بسلسلة من الإصلاحات السياسية والاجتماعية.
وفي منتصف القرن الماضي أصبح من الممكن التمييز بين تيارين من مفكري الإسلام فى نظرتهم لمسألة القومية، فالشيخ جمال الدين الأفغانى والإمام محمد عبده فى جانب، ورشيد رضا وحسن البنا وعبدالله النديم فى جانب آخر، فالفريق الأول رغم تأكيده على ضرورة التمسك بالدين كقيمة عليا كان ينظر إليه نظرة برجماتية وسيطة بين القومية والإسلام، في حين نظر الفريق الثاني للإسلام نظرة تقديس ورأى ضرورة العودة بالخلافة الإسلامية إلى مكانها.
لكن الجميع اتفقوا على ضرورة الدفاع عن الهوية الإسلامية، فجمال الدين الأفغاني يقول: «اعتصموا بحبال الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي والفارسي بالهندي والمصري بالمغربي وقامت لهم مقام الرابطة النسبية». وعبدالرحمن الكواكبى رغم أنه سعى لتنمية الوعي العربي وأكد على ظهور الاتجاه القومى فإن رؤيته هذه كانت مضبوطة بإطار إسلامى. ولذا ظهرت آراء توفق بين العروبة والإسلام، فما دامت العروبة حلقة فى إطار «الأمة الإسلامية» والوحدة العربية نواة لوحدة إسلامية فإن الأمر مقبول لدى القوى الإسلامية، أما لحظة القطيعة فقد بدأت عند تبني اليسار للقومية وعندما بدأ بعض المفكرين المسيحيين العرب يدعون إليها، ويرصد الباحث الفرنسى فرانسوا بورجا هذه اللحظة التاريخية قائلاً فى كتابه «صوت الجنوب»: «رغم أن العروبة خرجت من أحضان الإسلام الذى كان أول من جمع القبائل المتناثرة فى دولة واحدة، فإن ارتباط العروبة فى الآونة الأخيرة باليسار ووجود بعض الصفوة المسيحية فيها وتخليها عن الدين كإطار مرجعي لها جعل التيار الإسلامي يبتعد عنها».
ويعرف الإخوان وأشباههم جيداً أن ساطع الحصري أخرج الدين من عداد مقومات القومية، ونحا زكي الأرسوزى نحوه، ويدركون أن ميشيل عفلق إن كان قد حاول ألا يصطدم بالإسلام بشكل واضح فى هذه النقطة فهو أراد أن يجعل من الإسلام قومياً عربياً. ويعون بشكل دقيق أن عبدالناصر، كان مختلفا، حيث ربط بين القومية والإسلام ونبذ الشيوعية وبعض مقولاتها حول الصراع الطبقي والإلحاد والحتمية التاريخية، إلا أنهم لا ينسون له على الإطلاق أنه العقبة التى وقفت فى طريقهم للوصول إلى سدة الحكم، وأنه الحاكم الذي واجه جماعة الإخوان مرتين، عقب حادث المنشية 1954 وفي عام 1965.
وظل الإخوان وأشباههم ينتظرون تضعضع سطوة القوميين العرب حتى كانت فرصتهم بعد هزيمة 1967 التى سبقها فشل بعض مشروعات الوحدة مثل انفصال سوريا عن مصر عام 1961 وفشل الوحدة المصرية مع العراق وسوريا عام 1963، وكان الإخوان فى سوريا مشجعين لهذا الانفصال بسبب معارضتهم لعبدالناصر على غرار إخوان مصر.
ولخص الدكتور حسن الترابي موقف قطاع عريض من القوى التي تتخذ الإسلام أيديولوجية لها من القومية حين قال: «إن القومية جاءت نتيجة انفعال بعض المسلمين وكثير من النصارى العرب بتاريخ أوروبا وجنوحه عن الدين والانتماء الديني معتقدين أن تجربة أوروبا عبرة مطلقة». فهذا فى نظره سبب جوهري لرفضها، أما السبب الآخر الذى يراه مبرراً لرفض القوى الإسلامية للوحدة العربية أو عدم تدعيمها بوجه إيجابي فهو إدراكهم أن هذه الوحدة ليست تحقيقاً جزئياً لأحلامهم فى وحدة الأمة الإسلامية ولا تعزيزاً للعروبة التى يُرجى منها أن تدعم الإسلام، بل هي تطور يهدد الحركة الإسلامية ويسد عليها أبواب الحرية.
من هنا نجد أن العروبة تتراجع فى أيديولوجية الحركة الإسلامية إلى الوراء لتقفز الأمة الإسلامية كدائرة للولاء وتتقدم عليها، لكن هذا يطرح على «المتأسلمين» نقطتين أساسيتين هما:
1 - مدى تعمق رؤية بعض الإسلاميين لكون عوامل إقامة الدولة العربية الموحدة أقوى مرحلياً من عوامل إقامة الدولة الإسلامية الواحدة، ولذا فإن توحيد العرب هو أقرب وأنجح السبل لتوحيد المسلمين أو هو النواة الأولى لذلك. وفي المقابل يرى بعض المعتدلين القوميين أن الدولة العربية الموحدة يمكنها أن تنظم شبكة علاقات متينة مع الشعوب الإسلامية في ظل إطار المصالح المشتركة.
2 - رؤية أتباع التنظيمات والجماعات التى تتخذ من الإسلام أيديولوجية سياسية أن حركتهم يمكن أن تشكل شبكة تنظيمية موحدة ذات مغزى خاص بمآلات الأمة العربية، ففى العالم العربى تنظيمات قومية كالبعث والناصريين وأخرى متفرقة فى جملة الأقطار العربية كحزب التحرير ولكنها ليست ذات شأن، أما الشيوعيون فقد تراجعت قوتهم، والأحزاب الوطنية لا تعبر الحدود إلا قليلاً، ولذا يثار التساؤل: ما مدى إمكانية أن تبقى الروابط وشبكة العلاقات المتعلقة بالدين الإسلامي همزة وصل قوية بين الشعوب العربية؟
وكان قد حدث تقدم على هذا المضمار حين اجتمع فى بيروت فى أواخر عام 1994 ممثلون عن الإسلاميين والقوميين في مؤتمر مشترك ضم لفيفاً من مفكري التيارين يعطي إشارة واضحة على التقارب الإسلامي القومي، خاصة أن هذا المؤتمر كان استكمالاً لندوة القاهرة التي عقدها الفريقان فى عام 1988 مما دل وقتها على تطور هذا الاتجاه وتناميه، لا سيما أن هذا المؤتمر انعقد بانتظام فى السنوات اللاحقة. لكن هذه الفكرة تتراجع الآن مع وصول الإخوان إلى الحكم فى مصر والنهضة فى تونس، حيث عاد الحديث عن خلافة من غانا إلى فرغانة دون النظر إلى إمكانية تحقيق هذا، وقفزاً على الشروط الأفضل المتوافرة لقيام تنسيق عربي أشد، بشرط أن تخلص السلطات الجديدة لأوطانها أولاً ثم للعالم العربي الأكثر تجانساً من العالم الإسلامي لأسباب عديدة ثانياً.
وفضلاً عن فكرة «العروبة» فالسؤال الذى يطرح نفسه هنا: هل بوسع مرسي وجماعته التى تطبق «الرأسمالية المتوضئة» أن تنتهج طريق عبدالناصر فى الانحياز للبسطاء وبناء صناعة قوية والحرص على استقلال القرار الوطني؟ إن هذه هى المحكات الرئيسية التى ستكشف أن إشادة مرسي بناصر كانت لمجرد تمرير موقف حرج له أمام العمال، وليست عن اقتناع، فما أوسع الهوة بين الاثنين.