وبعد رحيل المستعمر تلاقت إرادة الشعب الجنوبي مع ارادة القيادة السياسية في حينها في المطالبة بتحقيق الوحدة اليمنية بل ان تحقيق الوحدة اليمنية كان شعاراً يردده شعب الجنوب صباح كل يوم من قبل الطلاب في طابور الصباح وعمال وجنود الجنوب.
وكان يتم وضع شعار الوحدة في أعلى كل ورقة رسمية كالتالي (لنناضل من اجل تحقيق اهداف الثورة، وتنفيذ الخطة الخمسية وتحقيق الوحدة اليمنية). وأصبحت الوحدة اليمنية حلم كل افراد شعب الجنوب وتشربت بها رؤوسهم وقلوبهم التواقة للوحدة اليمنية .
وكان في الجنوب قبل عام 1990م يختلف شعب الجنوب في كل شيء ماعدا الوحدة اليمنية كان الجميع مجمعاً عليها ، ولكن للأسف الشديد وعقب تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990م اصطدم شعب الجنوب بواقع مر وشديد المرارة من تحقيق الوحدة اليمنية.
فمن ناحية الفترة الزمنية لتحقيق الوحدة اليمنية جاءت بعد مرور ثلاثة أعوام من كارثة أحداث يناير 1986م التي فقد فيها الجنوب أفضل رجالاته من كلا الطرفين وتعمقت جراحاتهم، فذهبوا نحو الوحدة في عام 1990م لمداواة جراحات الشعب اليمني ولتحقيق حلم الشعب الجنوبي .
والآن يتم طرح مشروع الوحدة باعتبارها مصلحة إقليمية ودولية ولم يتم طرحها كمصلحة وطنية.
فالمصلحة الدولية والإقليمية في الوحدة هي في تأمين الممرات البحرية ومحاربة الإرهاب ومواجهة أي أخطار إقليمية أخرى تهدد الإقليم وتؤثر على مصالح العالم ومنها حرب ايران المحتملة وهو ما يستوجب حماية الحديقة الخلفية لدول الخليج ممثلة في اليمن.
ولم يتم طرح مشروع الوحدة اليمنية كـمصلحة وطنية يستفيد منها شعب الجنوب وتكون المصلحة المحققة لشعب الجنوب أفضل من الانفصال واعادة بناء ماخرب وبناء ماهدم واعادة مانهب واعادة الجاذبية لحلم الوحدة .
ولكن بمطالعة آراء شعب الجنوب حالياً لن تجد أغلبية تؤيد استمرار الوحدة اليمنية بل أن الأغلبية تطالب بفك الارتباط .
وهنا اتخيل لو قامت القيادات الجنوبية التاريخية من قبورها ومنهم علي عنتر ومصلح وعبد الفتاح إسماعيل وغيرهم واستمع للموقف السلبي لشعب الجنوب نحو الوحدة لاثار ذلك استغرابهم الشديد!!
وعند مناقشتي لعدد كبير من أبناء الجنوب كبار السن الذين عايشوا فترة الثمانيات والسبعينات الفترة الذهبية للمطالبة بتحقيق الوحدة اليمنية يطالبون الآن بالانفصال وقلوبهم تتقطع ألماً على مالت إليه الوحدة اليمنية التي تحولت من حلم جميل الى كابوس فظيع.
باعتبار حلم الوحدة اليمنية تم اغتياله ومحاولة استمرار الوحدة مثل محاولة إحياء الميت.
ولكن بالإمكان ولادة الوحدة من جديد وفقا لشروط ومحددات جديدة.
ولايمكن تحقيق ذلك إلا بإعادة بناء مؤسسات الدولة في الجنوب حتى يستطيع الجنوب انفاسه ويستطيع ان يقرر تحقيق حلم الوحدة اليمنية ام البقاء في دولة مستقلة وهو في كامل قوته.
ويمكن استعادة دور الدولة في الجنوب وتحقيق الرخاء الاقتصادي باستغلال مقدرات الجنوب لصالح شعب الجنوب وعلى رأسها ميناء عدن.
وقد اوضح لي احد رجالات الاقتصاد الجنوبيين انه اذا ما تم استغلال ميناء عدن بشكل سليم وإزاحة الفساد من ذلك المرفق الحيوي والهام فسيعود ميناء عدن الى ما قبل الوحدة باعتباره أهم ميناء في الشرق الأوسط باعتباره يقع في موقع استراتيجي وقريب جداً من خط الملاحة الدولية وكذا تمتعه بمميزات جغرافية تجعله أفضل ميناء في الشرق الأوسط.
وكما تم الإيضاح لي ان ميناء عدن بالإمكان تعميقه الى أكثر من تسعين متراً وانه قام السوفيت بعمل تجربة لمعرفة مدى إمكانية تعميق ميناء عدن وتوصلوا الى إمكان تعميق ميناء عدن الى أكثر من تسعين متر وبإمكانيات بسيطة جداً، وهذا يعتير امتيازاً كبيراً لميناء عدن لا تستطيع موانئ الشرق الأوسط منافسته حتى ميناء دبي .
ومع مراعاة جود الاحتقان وتوقع اشتعال حرب إقليمية يؤدي الى إغلاق الخليج العربي وإغلاق مضيق هرمز . فميناء عدن سيكون هو الميناء الأفضل سواء ً الآن او حتى في المستقبل وتطوير ميناء عدن سيؤدي الى فتح مجالات عمل كبيرة وما يصاحب ذلك من تشغيل آلاف العمال من ابناء الجنوب وما يصاحب ذلك من مردود مالي كبير لشعب الجنوب.
انني اتوقع تمسك شعب الجنوب بتحقيق الوحدة اليمنية لكن وحدة دون اكراه وانما باختياره الحر بعد استعادة شعب الجنوب جميع مؤسساته وجيشه الوطني الذي تم تسريحة عقب حرب 1994م حتى يكون التحاور بين شريكين، وبما يؤدي الى لجم كل فاسد من الإفساد في ارض الجنوب باسم الوحدة في استغلال رخيص لحلم شعب الجنوب في الوحدة اليمنية.
ولكن للأسف الشديد زادت الوحدة من تعميق جراحات شعب الجنوب وهنا سأقسم المراحل الزمنية الى ثلاث مراحل:
المرحلة الاولى: ماقبل رحيل الاستعمار في الجنوب: كان الجنوب متمسكا بالوحدة اليمنية رافضاً لكل المشاريع الصغيرة التي اراد الاستعمار ان يحققها بازالة أي توجه نحو الوحدة اليمنية ولكن المستعمر رحل وحلم الوحدة اليمنية لم يرحل من قلوب شعب الجنوب .
المرحلة الثانية: مابعد رحيل الاستعمار:
بعد رحيل الاستعمار الذي كان يطالب بتحقيق وتعميق الانفصال جاءت القيادة السياسية للجنوب لتطالب وبالحاح شديد بتحقيق الوحدة اليمنية وكان يتم ترديد شعار الوحدة اليمنية في جميع مرافق الدولة وفي بداية كل اجتماع رسمي كان يتم ترديد شعار الوحدة اليمنية وكانت القيادة السياسية الجنوبية وشعب الجنوب يعامل بناء الشمال معاملة ابناء الجنوب دون تفريق بل كان يتم توجيه الجهات المختصة لقطع بطائق شخصية لكل مواطن شمالي مثل بطاقة المواطن الجنوبي دون تفريق ، بينما كان يعامل الجنوبي في الشمال بشكل مختلف حتى الذين لجؤوا الى الشمال بعد احداث يناير 1986م تم منح المواطن الجنوبي بطائق اثبات مكتوباً عليها عبارة (جنوبي مقيم في صنعاء ) أو أي مدينة أخرى !!!.
بينما كان يتمتع المواطن الشمالي في جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية بجميع امتيازات المواطن الجنوبي فيذهب اطفاله للمدارس اسوة بالجنوبيين ويتمتعون بامتيازات الدولة الجنوبية مثل الجنوبيين بل والتحق عدد كبير من ابناء الشمال في جميع وظائف الدولة الجنوبية دون أي عوائق حتى المناصب الحساسة فالتحق عدد كبير من ابناء الشمال بالجيش الجنوبي والامن الوطني بل واصبحوا قادة كباراً في الدولة والجيش والامن والدوائر الحكومية في دولة الجنوب.
ومازال الجميع يتذكر كيف ان منصب رئيس جمهورية اليمن اليمقراطية الشعبية كان من نصيب احد ابناء الشمال ( عبدالفتاح اسماعيل) .
بل كان يمنع على أي مواطن جنوبي ان يسأل عن منطقة أي مواطن جنوبي او شمالي، وتداخل الشعبان في نسيج مجتمعي واحد.
ومازال جميع افراد الجنوب يتذكر التداخل الكبير بين افراد شعب الجنوب والشمال فكانت المباني السكنية يسكن فيها جنوبيون وشماليين في المعلا وفي جميع المباني السكنية على ارض الجنوب ولم يكن هناك أي تمييز.
المرحلة الثالثة: بعد عام 1990م بعد تحقيق الوحدة اليمنية:
كان الشعب الجنوبي في تلك المرحلة مازال يشعر بنشوة تحقيق الوحدة اليمنية ورغم ان بوادر الانقضاض على مقدرات وثروات الجنوب كانت قد بدأت منذ الوهلة الاولى لتحقيق الوحدة اليمنية والذي تنازل شعب الجنوب عن عاصمته عدن وعن منصب رئيس الجمهورية الجنوبي لتحقيق الوحدة اليمنية الا ان ذلك لم يشفع لهم وكان يفسر من قبل الطرف الاخر انه استسلام وضعف .
ورغم ذلك تمسك شعب الجنوب بالوحدة رغم وضوح الصورة اكبر وعلى ارض الواقع من محاولات السيطرة على الجنوب وابعادة عن المعادلات السياسية والعسكرية ومحاولة انهاكه واضعافه .
المرحلة الرابعة: بعد حرب 1994م على الجنوب
رغم اجتياح الجنوب عام 1994م والاستيلاء على جميع مقدرات الجنوب وماصاحب ذلك من نهب لاراضي الجنوب واخراج عدد كبير من ابناء الجنوب من وظائفهم الحكومية الا ان شعب الجنوب صبر واعتبرها سحابة صيف ستنقشع قريباً ولم يصبر على ذلك من ضعف ولكن مازال يحلم بالوحدة اليمنية الحقيقية المبنية على العدالة والمساواة.
الا ان ماحدث بعد ذلك من نهب واضح وجلي وبشكل فج لاراضي الجنوب وتدمير كل مقدرات دولة الجنوب جعل شعب الجنوب يتململ ويئن من شدة وطأة الوحدة عليه ومن تعميق الجراح في شعب الجنوب حتى ارتفع ذلك الصوت مجلجلاً وبدأ الحراك الشعبي السلمي والمطالبة في البداية بتصحيح مسار الوحدة لكن لم يتم الاستماع الى تلك الاصوات.
المرحلة الخامسة : بعد عام 2000م
رغم قيام مثقفي ورجالات الجنوب بالمطالبة بتصحيح مسار الوحدة الا أن تلك المطالبات لم تلق أي اهتمام وفي عام 2007م بدأ المطالبة الجدية بفك الارتباط واستعادة دولة الجنوب ، بعد فشل الوحدة من وجهة نظر شعب الجنوب وكما ذكر بعض قيادات الجنوب انهم بدأوا في المطالبة بفك الارتباط واستعادة دولة الجنوب وقلوبهم تعتصر الماً في التضحية بحلم شعب الجنوب في تحقيق الوحدة اليمنية
المرحلة السادسة : بعد عام 2011م (الربيع العربي والثورة الشبابية الشعبية السلمية):
كان الربيع العربي قد ازدهر في الدول العربية عام 2011م ولم يدخل الى اليمن الا من بوابته الجنوبية الذين قادها الحراك السلمي في الجنوب والذي بصمودهم أمام الأجهزة القمعية العسكرية والأمنية أعطوا الأمل لشباب الشمال لإسقاط النظام .
وقد تأثر شعب الجنوب بالربيع العربي وقام الجميع برفع صوتهم عاليا رافضين للظلم ومطالبين بالعدالة وحقهم في تحقيق مصيرهم .
وجاءت دول العالم معلنة ان مصلحتها مع وحدة اليمن رافضة لأي أصوات تطالب بالانفصال باعتبار ان مصلحة الاقليم والعالم هي في دولة واحدة للشعب اليمني.
ولم تقم القيادة السياسية الوطنية بجعل الوحدة اليمنية مصلحة وطنية حتى اذا تم تحقيق الوحدة وفقاً وتحقيقاً للمصلحة الوطنية ستكون وحدة راسخة ومتجذرة.
فيجب عدم المراهنة على التوجه الإقليمي والدولي لاستمرار الوحدة اليمنية فالمصالح الإقليمية والعالمية تتغير باستمرار والمطلع على توجهات الاقليم والعالم يرى انها تغيرت ففي البداية كان الجميع يطالب الجنوبيين وقيادتهم بالحوار تحت سقف الوحدة لكن بعد النزول الى الجنوب ومطالعة آراء شعب الجنوب تغير ذلك وأصبحوا يطالبون بإصلاح الاختلالات في الجنوب لاستمرار الوحدة بحسب ما أدلى به السفير الالماني في الفترة الأخيرة .
ويجب هنا على القيادة السياسية الاستفادة من الماضي فالذي لا يستطيع الاستفادة من ماضيه لايستطيع ان يخطط لمستقبله.
وفي الأخير آمل من رئيس الجمهورية والمبعوث الاممي جمال بن عمر عدم الضغط على قيادات الحراك الجنوبي للقبول بالوحدة باعتبارها مصلحة دولية واقليمية واعتبارها امرا واقعا لان ذلك اذا كان لايحقق مصلحة وطنية ولايحقق مصلحة شعب الجنوب فسيكون اغتيالاً جديداً لحلم الوحدة مرة اخرى .
واذا ماتم اغتيال حلم الوحدة مرة أخرى فلا أتوقع ان تتم ولادة وحدة يمنية جديدة
والله الموفق ..