حاجات ثقافية زائفة
من أهم نتائج تزييف الوعي لدى الجماهير العربية، وفي مقدمتها اليمنية، بمصالحهم الحقيقية، ما يلي:
1 - إطلاق العنان للطموح نحو الثراء والنجاح الفردي في مواجهة الإحباطات الناتجة عن عمليات تزييف الوعي والتي تصور التحولات الثورية في المنطقة العربية بأنها هي السبب في متاعب الناس وهمومهم.
2 - بروز الأنماط المسلكية النخبوية الطفيلية بدلاً عن الاتجاه إلى ردم الهوة بين القيم والعادات و الأنماط المسلكية الناتجة عن العلاقات الاجتماعية المرفوضة والتي تستهدف حركة التحرر الوطني والاجتماعي العربية القضاء عليها.
3 - تشجيع القيم الفردية وإبرازها بشكل يجعلها تبدو للناس وكأنها الحل لمشاكلهم وهمومهم.
4 - بروز القيم والعادات الطفيلية التي تؤدي إلى إلهاء الشباب وإغراقهم في ضباب الجنس والكحول بهدف عزلهم عن مجرى الثورة الاجتماعية وتعطيل قدراتهم الخلاقة.
5 - لجوء العقل الشعبي إلى ناحية التفكير الغيبي للهروب من المشاكل التي يعانيها الناس.
6 - التسلل إلى (سلوك) القيادات تمهيداً للتسلل إلى (وعيها) بهدف عزلها عن الجماهير وتحويلها إلى نخبة متميزة بقيم وعادات ومسلكيات بعيدة عن الإطار العام للقيم والعادات والمسلكيات الملموسة التي يجري بناؤها في سياق النضال الوطني والاجتماعي، وصولاً إلى توسيع الثغرة بين القيادات و القاعدة باتجاه تحويل القيادة إلى «نخبة» مما يفتح ثغرات في وعي الجماهير التي تجد نفسها غريبة عن قياداتها وبعيدة عنها.
وتحت وطأة هذا الوضع الصعب تأتي معاناة المثقف العربي في الجانب الآخر، أي الشعور بأزمة التجاوز، تلك الأزمة التي تنفجر بشكل واضح في مرحلة نجاح عمليات الحرب الخفية المعادية بالتسلل إلى وعي الجماهير والسيطرة على منابعه من الداخل، وما ينتج عن ذلك من ولادة طفيلية للحاجات الثقافية الزائفة التي تطرقنا إليها في العدد الماضي، تلك الحاجات التي يعجز المثقف العربي عن التفاعل معها، ليس بسبب قصوره الذاتي، بل بسبب الطابع الطفيلي لهذه الحاجات، وهو الأمر الذي يؤدي إلى نشوء هوة بين المثقف والجماهير.
من هو المثقف ؟
قبل الخوض في سمات هذه الهوة وخصائصها، من المفيد أن نشير إلى أن كلمة المثقف في العالم العربي أوسع مما هي عليه في بلدان العالم المتقدم، وهو لا يقتصر على أشخاص العمل الذهني والإبداعي، بل هي تتسع لتشمل أيضاً المتعلمين والموظفين والطلبة والمحامين والأطباء والمعلمين.
بين التوجه العدمي والاتجاه الغيبي
إن أخطر الاتجاهات التي اتستمت بها الشرائح العليا من المثقفين العرب هو ذلك الاتجاه العَدَمي الذي قاد البعض إلى الاعتقاد - ومن موقع تقدمي - بضرورة تجاوز الحاضر من خلال الانقطاع عن الماضي باعتبار علته السببية، وأخطر ما في هذا الاتجاه هو نزوعه إلى الكسل الذهني الذي يبتعد بالمثقف عن مهماته الجسيمة في التحليل النقدي للماضي من حيث أنه خبرة بشرية تاريخية يجب اكتناز الجانب المشرق فيه وتجاوز سلبياته تجاوزاً خلاقاً، أن الكسل الذهني أمام تحديات الثقافة يقود إلى أيسر الحلول ألا وهو الرفض السلبي، ويؤدي بالضرورة إلى الاعتماد على الصيغ الجاهزة وهو عين ما تهدف إليه الحرب الفكرية والنفسية التي تشنها القوى الإمبريالية.
انقســـام ثقافـــي
تشتد مخاطر هذه الفجوة عندما نرى أن بعض الأقطار العربية التي شهدت ارتفاعاً هائلاً في مداخيلها المالية تعيش أوضاعاً اقتصادية وثقافية متخلفة، وهو الأمر الذي أبرز الشعور بعقدة (النقص) مما خلق الاتجاه إلى الاعتماد على الثقافة والإعلام الجاهزة عن طريق الاستيراد المكثف لوسائل الثقافة المادية من الغرب المتقدم. ويكفي أن ندلل على الآثار التدميرية التي تتركها هذه الوضعية الطفيلية على الحركة الثقافية العربية من خلال ما يلي:
1 - استقطاب الأقطار العربية الغنية للعديد من المثقفين الذين ضاقت بهم سبل العيش في بلدانهم بسبب الظروف الناشئة عن تحديات المواجهة بين قوى وأنظمة حركة التحرر الوطني من جهة، و القوى القديمة والظلامية من جهة أخرى، وهو الاستقطاب الذي يؤدي إلى استلاب هؤلاء المثقفين الذين يغتربون في خضم قيم وعادات ومسلكيات ثقافة الاستلاب في هذه الأقطار.. كما يؤدي إلى تعطيل طاقاتهم وحرمان الحركة الثقافية من عطاءاتهم.
2 - بروز أنماط التفكير والسلوك الطفيلية بين أوساط شباب هذه الأقطار مما يساعد على خلق وجدان هلامي وثقافة بلا هوية، في إطار عملية الهدم المنظمة للثقافة العربية والشخصية الوطنية العربية، ومما يؤكد ذلك ما جرى في حديث أحد المسئولين البارزين في إحدى الدول الغنية في الجزيرة والخليج مع رهط من شباب بلاده حول هموم التنمية، حيث أبدى هذا المسئول نصحاً لمواطنيه بالاكتفاء بإهداء أولادهم أجهزة تسجيل أو تلفزيون بدلاً من إهدائهم سيارات أو أجهزة الفيديو الملونة بمناسبة النجاح في الامتحانات.
3 - الدعاية المنظمة لإظهار الحياة في بعض الأقطار العربية الغنية كنموذج للحياة العربية، المثلى، بكل ما فيها من قيم وعادات ذات طابع استلابي، وهو الأمر الذي يبرز بشكل عملي في خضم الأزمات الاقتصادية التي تعانيها الأقطار العربية الفقيرة بسبب من شحة الموارد وارتفاع تكاليف الحياة وصعوبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مما يؤدي إلى تكامل هذه الدعاية مع عمليات حرب تزييف الوعي المكشوفة والخفية باتجاه خلق ثنائية في الذهن والإحساس تسهم في فرض ثقافة الاستلاب التي يجري تصديرها بشكل منظم إلى المنطقة العربية (الفكر الوهابي الرجعي نموذجاً).
الركود الثقافي في اليمن والسؤال الكبير
كانت اليمن، بشطريها (قبل إعلان الوحدة عام 1990م)، في حرب تزييف الوعي الذي اجتاح المنطقة العربية كلها مشمولة بالنتائج والآثار السلبية التي أصابت الحركة الثقافية العربية، ومن تلك النتائج:
1 - الموقع السلبي للحركة الثقافية اليمنية على المستوى العربي، وهو الموقع الذي جعل من اليمن بشطريها، ولفترة طويلة طرفاً متلقياً لكل تيارات واتجاهات حركة الثقافة العربية، مما حال دون تبلور تجارب إبداعية راسخة وكبيرة باستثناء حالات نادرة.
2 - المفاهيم والممارسات الخاطئة لليسار الانتهازي في هذا المجال (المثقفين الانتهازيين في السلطة)، بالإضافة إلى بقايا المفاهيم الاستعمارية الانفصالية.
الثورة الثقافية في اليمن
لقد كانت مهمة تكوين الشخصية الوطنية اليمنية الجديدة من بين أبرز المهام العملية الملموسة في خضم مرحلة النهوض الثورية في عموم اليمن، وقد واجه المثقفون اليمنيون هذه المهمة باعتبارها بالمقابل المعنوي للوطن الممزق، ولم يكن ثمة سبيل آخر لإنجاز هذه المهمة غير طريق الثورة الثقافية الشاملة التي تغربل وتنسف القيم والعادات والموروثات السلبية وتقيم بدلاً عنها نمطاً ثقافياً متماسكاً متناسقاً مع حركة الثورة الاجتماعية ومع حركة النضال الوطني من أجل استعادة الوجه الشرعي للوطن اليمن الواحد.
ومن المهم أن نشير إلى أن اليمن بشطريه قد شهد تطورات نوعية خلال الفترة 1972 - 1978م، وهي التطورات التي تمثلت بغياب وجه ثورة (26 سبتمبر) في الشمال غداة انقلاب 5 نوفمبر 1967م الرجعي، وشروق شمس الجديد الثوري التقدمي في الجنوب، وفي كلتا الحالتين كان المثقف اليمني في الشمال يعيش أزمة الشعور بضرورة التجاوز، ويصطلي بنار الاغتراب الداخلي في خضم التراجعات السريعة المتلاحقة التي توجت باتفاقية جدة 1970م، أما في الشطر الجنوبي فإن صورة الوضع الثقافي كانت تتشكل وتأخذ مداها من خلال تفاعلات العملية الثورية اليمنية.
مفاهيم وممارسات خاطئة
لعل أخطر النتائج التي تمخضت عن ممارسات اليسار الانتهازي(2) في اليمن، هي ما يلي:
1 - الإرهاب الفكري، ومحاولات ضرب المثقفين بالفلاحين وتطفيش الكوادر الفنية ونشر المفاهيم المتطرفة التي روج لها اليسار الانتهازي (سالم ربيع علي وجماعته) عن ثورية الأدب الشعبي العامي، وترف الأعمال الإبداعية التي يقدمها الأدباء والكتاب من فئة المثقفين الوطنيين، فالأدب الثوري فقط هو الأدب الشعبي الذي يصدر عن الفلاحين والبدو الرحل وما عدا ذلك أدب برجوازي صغير ينبغي إعادة تربية أصحابه، وإعادة صياغة وعيهم، وليس أدل على خطورة انتشار مثل هذه المفاهيم الطفولية من حادث اقتحام (مبنى الإذاعة المركزية) خلال ما تسمى بـ (انتفاضة الأيام السبعة) وهو الحادث الذي قاده (أحدهم) بمعية مجموعة من الفلاحين البسطاء الذين اقتحموا (مبنى الإذاعة) وهم حفاة الأقدام، وأوقفوا تشغيل مكيفات الهواء وأمروا كتاب البرامج الإذاعية بالجلوس على الأرض بدلاً من المكاتب، وما ترتب عن هذا الموقف من إلحاق أضرار بالغة بآلات البث والتوصيل الإذاعي الدقيقة التي تحتاج إلى أجواء مكيفة، ناهيك عن حالة الرعب والإرهاب التي كان اليسار الانتهازي ينشرها في أوساط المثقفين الوطنيين(3).
2 - بروز الاتجاهات والمواقف الانفصالية في جنوب الوطن، والتي استهدفت إثارة النعرات الإقليمية والمناطقية والقبلية التي كان يغذيها اليسار الانتهازي، وقد انعكست هذه الممارسات في شكل حواجز تحول دون تفاعل الحركة الأدبية اليمنية شمالاً وجنوباً، وذلك بواسطة المفاهيم الخاطئة التي راجت في تلك الفترة، فالأدب في الشمال رجعي تأخيري، أما الأدب في الجنوب فهو ثوري تقدمي، ولم يكن ذلك يتم في ظل تعميم تبسيطي عند تحليل التمايزات السياسية بين النظامين القائمين في اليمن وحسب، ولكن باتجاه الترويج لمفهوم (أدب يمني جنوبي) وهو تعبير ملتو عن نظرة انفصالية رجعية كانت تحارب أي التقاء يجري تحقيقه بين الأدباء والفنانين اليمنيين شمالاً وجنوباً على طريق تأصيل ثقافة وطنية يمنية معاصرة، وبما يكفل تحرير الأديب اليمني من الإرهاب النفسي الذي يهدده بفعل ظلال انتمائه إلى أرض ممزقة.
3 - العمل على تحقيق وحدة ثقافية يمنية متكاملة عن طريق توحيد جهود الأدباء والكتاب الوطنيين والتقدميين في عموم اليمن ومحاربة المفاهيم والاتجاهات الانفصالية التي تدعو إلى تجزئة الثقافة الوطنية اليمنية.
4 - مكافحة الظواهر والمفاهيم الانعزالية والقبلية والانفصالية التي تعمل على تيئيس الجماهير من جدوى النضال في سبيل تحقيق الوحدة اليمنية.
الهوامش:
(1) الأستاذ أحمد الحبيشي، مجلة (الحكمة)، العدد (81)، سبتمبر - أكتوبر 1979م.
(2) لعل الكاتب يقصد بـ (اليسار الانتهازي) كافة الأشخاص الذين كانوا من جناح الرئيس السابق (سالم ربيع علي) ومنهم المناضلون: (حسن باعوم) و (محمد علي أحمد) و (علي صالح عباد مقبل) ... الخ.
(3) هناك وصف بديع للأيام السبعة المذكورة في دراسة الأستاذ (الحبيشي) وهو أحد الشهود على صحتها، وقد قدم الوصف الأدبي حي الأديب الصحفي الأستاذ (فضل النقيب) في كتابه: (دفاتر الأيام)، الطبعة الأولى 2006م، إصدار وزارة الثقافة، فيمكن الرجوع إليه.
تزييف الوعي وثقافة الاستلاب (1)
أخبار متعلقة