يوجد بين أوساط المتدينين من تراه يسابق في اكتساب الخيرات ويوجد فيهم أيضاً المقتصد والظالم لنفسه والمعتدل والمتطرف والمتشدد والمتحجر وهناك من يدعو إلى الله بنية خالصة وعلى بصيرة من علم ولكنه ينفر من السياسة والعمل السياسي ولا يعمل على توظيف الدين لاغراض سياسية ويكره الانتساب إلى السياسة او مزاولتها ويرى أن من السياسة الحكيمة ترك السياسة والعمل السياسي هذا المتدين الواقعي قد عرف قدر نفسه واحترم التخصصات والمجالات الاخرى المتعلقة بأمور الحياة والمعاش كالسياسة المرتبطة بين الراعي والرعية والداخل والخارج نذكر هنا نموذجاً أو نموذجين أو ثلاثة من هؤلاء المتدينين الواقعيين الذين لا يخلطون بين العمل الديني والعمل السياسي الدكتور ناجح إبراهيم وهو قيادي سابق في الجماعات الاسلامية في مصر والذي صرح في مداخلة له بأن الداعية من الأفضل له ألا يعمل في السياسة، فالداعي لربه ولكل الناس وليس لحزبه أو مصلحته أو منصبه، وكلما اراد أهل الدعوة ان يجتمع لهم الحكم مع الدعوة ضاع عليهم الاثنان معاً.
وأضاف قائلاً: لقد وظفت نفسي طوال حياتي لوظيفة واحدة هي الاحياء عن طريق احياء النفس كطبيب والاحياء الدعوي بالدعوة إلى الله ولا أريد ان اشغل نفسي بأمور اخرى سوى هذه الوظيفة، وقد رفضت قبول عضوية المجلس القومي لحقوق الإنسان لأني أرفض العمل في السياسة.
انتهى كلام د. ناجح.
من المعروف لدى أهل السياسة انها فن الممكن وان ما يقوله السياسي اليوم أو ما يتبناه من موقف يتراجع عنه بعد ساعات أو ايام قلائل ليتبنى موقفاً آخر قد يكون معاكساً تماماً لما تبناه بالأمس، ومن الطبيعي جداً ان يجد السياسي المبررات لمواقفه المختلفة والمتناقضة ويتحجج بالظروف الموضوعية وحركة الشارع العامة والخاصة ومن هنا نبدأ مع الرجل المعمم الذي يحمل صنعة رجل الدين ونسأله: هل تستطيع القفز على الحقائق الشرعية والثوابت الايمانية لتتحول إلى رجل سياسة يقول اليوم كلاماً ويلغيه اليوم الثاني استجابة لرغبة الشارع حتى ولو كان مخالفاً لشرع الله؟! ولم أنت مستعد دوماً أيها الرجل صاحب العمامة ان تزج نفسك في مركب ليس مركبك وتلبس ثوباً لا يليق بك وبعلمك ..!! فإذا اردت السياسة فاخلع العمامة والعمل ما تشاء وإذا أردت الشرع والدين فعليك التزام مبادئ الدين فلا تتفق هذه مع الأهواء والميول والنوازع وأعلم ان القيادة الدينية شيء والقيادة السياسية شيء آخر والدليل نجده في الآيتين القرآنيتين (246) و(247) من سورة البقرة وكيف ان الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ألم تنته إلى علمك يا محمد قصة هؤلاء من بني إسرائيل من بعد موسى، وفي عصر داود عليه السلام. إذ قالوا لنبيهم ـ شمويل ـ اقم علينا أميراً أو حاكماً يجمع شملنا، ويوحد كلمتنا، ويقودنا تحت لوائه إعلاء لكلمة الله واسترداداً لعزتنا واستقلالنا.
فهل ترون كيف ان النبي شمويل في الآيات السابقة قد استجاب لدعوة قومه في الدعاء إلى الله بارسال ملك يقودهم في امور حياتهم ويسوس الحرب والسلم مع وجود النبي شمويل بينهم كمرجع للسلطة الدينية لكنه يساعد الملك في مهمته ولا يكون البديل عنه في اتخاذ القرارات اللازمة للحرب أو السلم .. الكلام الآنف الذكر مقتبس من مقال مشابه لمقالنا هذا والكاتب يدعى نصر العرب.
بقي لنا تعريف القارئ بجزء من حوار مع د. معتز الخطيب وهو باحث إسلامي معتدل من القطر العربي السوري وقد سأله محاوره السؤال التالي: هل يصلح رجل الدين كسياسي؟!
ومتى يحق له التدخل في السياسة ومتى لا يحق له .. ؟! أجاب الدكتور معتز: أولاً من المهم عدم استعمال تعبير (رجل الدين) لانه مصطلح مرتبط بالفكر المسيحي ويترتب عليه بعض التصورات والمفاهيم التي لا تنطبق على عالم الدين المسلم أو على (الفقيه) و(الداعية) و(المفكر الإسلامي) ومن المؤسف ان هذه المصطلحات التي ميزت بينها هنا اختلطت في الأوساط الدينية الإسلامية عامة وان الناس لا تميز بين شيخ وشيخ وان بعض المشايخ أنفسهم لا يلتزمون بحدود علمهم وأدوارهم ولكن هذا التمييز واضح عبر التاريخ ولدى العلماء السابقين فقد كان هناك تمييز بين الفقيه والأصولي والمحدث والواعظ والمفسر ومنهم من كان يجمع بين كل هذا وهم قلة ومنهم لا يحسن كل هذا وكثير من مشايخ اليوم هم دعاة ووعاظ ومرشدون وخطباء مساجد وليسوا فقهاء بل ان آفتنا اليوم هي قلة الفقه وفقر الفكر بين المشتغلين في الوسط الديني عامة. كما ان تكوينهم العلمي لا يؤهلهم للوصول إلى درجة الفقهاء المجتهدين القدامى أو المفتين بتعريف الفقهاء السابقين للفقيه والمفتي ..!! وبناءً على ما سبق فإن عامة المشايخ لا ينبغي لهم ان ينخرطوا في العمل السياسي لانهم لا يحسنونه ولأنه يتطلب تأهيلاً خاصاً وقد نبهنا القرآن الكريم إلى مبدأ عام في قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون)، وأهل الذكر هنا هم أهل الاختصاص في كل فن وعلم السياسة فن ولها رجالها والعمل السياسي فن آخر عن فن الدعوة إلى الله فليس كل من له علم بالسياسة مؤهلاً لممارستها أو ممارسة العمل السياسي كما ان الخلط بين الدعوة والعمل السياسي أمر شديد الخطورة على الدعوة والسياسة معاً ومضر بكليهما معاً لأن آليات وأخلاقيات العمل الدعوي تختلف كلياً عن آليات العمل السياسي واشتغال الدعاة في السياسة له ضرر على مستقبل التدين لأن العمل الدعوي ينطلق من مسائل دينية ومسلمات شرعية لا يبتغي بها الداعية إلا وجه الله ولايسأل عليها أجراً أما العمل السياسي فمبني على التنافس والتنازع وتزكية النفس والشهادة لها والمبالغة في ذلك ومبني على مراعاة رأي الجمهور ورغباته وعلى المصالح الحزبية والعامة ويتطلب مؤهلات وتكويناً خاصاً في إداراك مسائل الشأن العام وإدارته والعمل الحزبي وعقد التحالفات مع الاحزاب المختلفة والمعارضة وكل هذا يجعل الداعية السياسي طرفاً وخصماً للأطراف الاخرى لأنه يتنافس معها ويتنازع معها على المناصب والنفوذ وهذه تفقده دوره العام الذي يفترض فيه انه يخاطب عامة الناس وليس انصاره فقط إلى غير ذلك مما لا يحتمل التوسع فيه هنا .. ان الداعية إذا رغب في السياسة فينبغي عليه ألا يكون طرفاً أو خصماً للأطراف المنافسة له وإلا بطلت دعوته كداعية ولن يسمعه أحد وهو يدعو إلى الله.
وعليه ان يتذكر بأنه من أهل الذكر في الدعوة إلى الله وتعريف الناس بأمور دينهم ومعاونة السياسي في هذا الشأن دون تدخل وان السياسي هو من أهل الذكر في امور السياسة والمعاش وأمور الدنيا ويستأنس بأهل الذكر في الاخلاق والآداب والخصال الفاضلة والقيم والمبادئ الإنسانية السامية والمشتركة بين الشعوب والأمم على اختلاف ألوانها واجناسها ومعتقداتها.
ليس كل معمم يصلح للسياسة ..!!
أخبار متعلقة