هو ذا الربيع يدق أبواب تركيا بعنف.. من ميدان “تقسيم” بإسطنبول, راح يتشكل ويتوغل ويتمدد إلى كل الميادين التركية.. فى أقوى موجة احتجاجية تشهدها تركيا, منذ تولي (الإخواني) أردوغان لرئاسة الحكومة عام 2002 .
السؤال.. لماذا هذه الثورة أو الغضب الشعبي التركي, على ( أردوغان)؟, رغم أنه يبدو محبوباً شعبياً, وناهضاً بتركيا؟.. الإجابة إجمالا.. هي أن الشعب التركي فاض به الكيل, ويثور غضباً من سياساته الاقتصادية المؤلمة, وتمرداً على القمع ومحاولات إعادة الخلافة العثمانية وأسلمة الدولة التركية الحديثة التي أسسها كمال اتاتورك.
واقع الحال فى تركيا يختلف كثيراً عن الصورة البراقة المرسومة لأردوغان فى أذهان الكثيرين, وأعني صورة الإسلامي الديمقراطي, أو”المسلم الحداثي” الذى “يحكم دولة علمانية تقف على مسافة واحدة من كل الأديان” على حد تعبيره أثناء زيارته لمصر بعد سقوط النظام السابق, مع أنه نجح بامتياز فى تقسيم الشعب التركى إلى سنة وعلويين وأتراك وأكراد, تماما مثلما قسمت الجماعة الإخوانية الشعب المصري بالفتن.
يمكن دون عناء رصد الملامح التالية للغضب المتراكم, أوالجانب الغائب من الصورة التركية:
1- أن وتيرة “أسلمة” تركيا والتضييق على المجتمع التركى, لم تعد بطيئة وناعمة, مثلما كانت سابقاً.. بل صارت سريعة وخشنة, بعد فشل مشروعه لعضوية تركيا بالإتحاد الأوربى.. فمع اندلاع ثورات الربيع العربى, والقبول الأمريكى للصعود الإخوانى, بدأ أردوغان يستعيد خلفيته الدينية المتشددة, التى كان حريصاً على إخفائها من قبل, ومن هنا فقد أصدر مؤخراً قانون منع الخمور, وأعلن فى مواجهة الاحتجاجات عن إقامة “مسجد” بميدان تقسيم, لم يكن مقرراً من الأساس, بهدف زيادة حدة الاستقطاب و”الفرز الدينى” بين أبناء الشعب التركى, كي يضع المحتجين فى خانة العداء للدين, مثلنا تماما, عندما يُكَّفر المتأسلمون منا كل من يعارض الإخوان أو الرئيس محمد مرسي.
2 - إنه قبل أيام وفى السياق الدينى ذاته, تم إطلاق بناء جسر “سليم الأول” على مضيق البوسفور, ليربط بين تركيا الاوروبية والجزء الآسيوى منها, وهذا الاسم هو نفسه الذى قرر أردوغان إطلاقه على الثكنة العسكرية المُقرر إقامتها على “الطراز العثمانى” بميدان “تقسيم” الثائر بإسطنبول.. إذ إن “سليم الأول” تاسع سلاطين الدولة العثمانية, هو أول من حاز لقب “أمير المؤمنين” منهم, أي أن أردوغان يستحضر أمجاد الدولة العثمانية الدينية, وهذا سلوك يؤشر نفسياً على رغبته الشخصية بأن يكون “أميراً للمؤمنين”, فى دولة الخلافة الإسلامية, وباستقراء الشواهد البادية.. فإن الطبيعى أن هذه الخلافة تضم إليها دول الربيع العربى المحكومة بأنظمة متأسلمة مثل مصر وتونس وليبيا, واليمن, وسوريا، فى حالة- لا سمح الله- سقوطها بيد الإخوان, أو هكذا يحلم هذا العثمانى، مؤيداً من التنظيم الإخوانى الدولى, لا سيما أن التاريخ يقول إن الدول العربية لطالما خضعت من قبل لقرون لسيطرة واستبداد الدولة العثمانية.
3 - يؤيد هذا ويؤكده أن أردوغان يتولى رئاسة الحكومة للمدة الثالثة التى تنتهى فى العام القادم, وليس مسموحاً له قانوناً بفترة رابعة.. تحسباً لذلك وكخطوة على طريق إعادة الخلافة العثمانية وتنصيب نفسه أميراً للمؤمنين, قرر أردوغان إجراء استفتاء على تعديل الدستور التركى, لتغيير النظام البرلماني القائم, وتحويله إلى نظام رئاسى, كي يترشح ويتولى هو رئاسة تركيا.. والسؤال هنا.. أليس هذا بعينه يُعد اغتصاباً للسلطة, وتسخيراً للدولة فى خدمة السلطان واستغلالاً للشعب واستغفالاً له؟
4 - إن أردوغان وإن كانت له شعبية واسعة وكاريزما لا يمكن إنكارها, صارت مهزوزة.. إلا أن حكمه ديكتاتوري مستبد وفاشي لا يقبل اختلافاً فى الرأي.. فهناك رقابة وغربلة لمواقع الإنترنت, وتضييق على حرية الصحافة, وملاحقة للصحفيين, بل و”موزعي الصحف” على خلفية اتهامات بنشر الإرهاب, وعلى سبيل المثال 61 صحفيا محبوسين فى قضايا (إرهاب), ونشر, وغيرهم مئات الكتاب والسياسيين, وهو لا يتوقف عن رفع الدعاوى ومقاضاة ومحاسبة رجال المعارضة وزعمائها والإعلام على كل تصريح أو رأي يصدر عن أي منهم, بما لا يوافق هواه, ولهذا فإن الرئاسة المصرية فى بلاغاتها ضد الإعلاميين إنما تقتدى بـ”أمير المؤمنين” المنتظر.
5 - جند أردوغان نفسه, لترويج السياسات الامريكية فى المنطقة, وخادما مطيعاً لها, ومثل هذه الجهود يصعب حصرها, وأكثرها افتضاحاً وانكاشفاً, هو الدور المشبوه الذي يلعبه أردوغان ضد سوريا, على غير رغبة الشعب التركى عموماً, متجاهلا مشاعر نحو % 15 من الأتراك, ينتمون للطائفة العلوية ويسوؤهم الموقف التركى, رغم أن سوريا لها مواقف طيبة مع تركيا.. لكنه الفلك الامريكى - الإسرائيلى, لايجرؤ أردوغان على الفكاك منه.
6 - اقتصادياً .. نجح أردوغان فى إنعاش وزيادة معدلات نمو (الاقتصاد) التركى, لكنه اقتصاد هش للغاية, لا يعتمد على استثمار حقيقى, بل على ( أوراق مالية) وودائع مملوكة لمستثمرين غربيين, بما يجعل تركيا (رهينة) لدوائر النفوذ والمال بالغرب, تنهار مثل النمور الآسيوية, عند اللزوم , وهذا النمو على عيوبه, لم ينعكس بالتحسن على معيشة المواطن التركى, إلا بقدر محدود, نتيجة تبني سياسات الخصخصة المؤلمة, وهيمنة رجال الأعمال الذين حصدوا هم عوائد التنمية, حيث ارتفع عدد المليارديرات الأتراك فى عهد أردوغان وحزبه إلى 24 مليارديراً, بعد أن كانوا ستة فقط قبل توليه الحكومة, حسب تقرير لمجلة فوربس.. والمعنى أن سياسة أردوغان أسهمت فى مراكمة المليارات والثروات لدى المحظوظين, مثلما أن رجال الأعمال الإخوانيين عندنا يحصدون الثروات الآن بيعا وشراء وصفقات مع الدولة وباسمها, وتُقطع الكهرباء لزيادة مبيعاتهم من مولدات الكهرباء بأسعار خيالية.. ولعل المتابع يلاحظ القلق المبكر لدوائر المال بأوروبا وأمريكا مع هبوط مؤشر بورصة إسطنبول.
من حسن الحظ أن الربيع التركى أظهر أسوأ ما فى أردوغان الحالم بإمارة المؤمنين, والمجال هنا لا يتسع لسرد تصريحاته منذ تفجر الغضب الشعبى, بدءا بوصفه للمحتجين بأنهم “حفنة مخربين ولصوص”, مروراً بالقمع الشرطى والامنى, وليس انتهاءً بتحديه لملايين الأتراك الغاضبين, وتلويحه لهم بحشد أنصاره لتأديبهم, وهو نفس أسلوب ( الجماعة) عندنا بمصر.. وبالجملة.. تكاد تكون تصريحات أردوغان هى ذاتها نسخة طبق الأصل من تعقيبات قادة ومسئولى دول الربيع العربى عند تفجر ثوراتها التى سرقها الإخوان المتأسلمون, ومن هنا فإن الربيع التركى, هو ذاته الخريف الإخواني, الذى ينبئ بسقوط جماعة الإخوان المسلمين, وإلى غير رجعة, واستعادة شعوب الربيع العربى لثوراتها المسروقة , وإن غدا لناظره لقريب.
«الربيع التركي.. وخريف الإخوان»
أخبار متعلقة