لم تستكمل تسوية بلدة عرسال البقاعية اللبنانية بسبب وجود أسرى من عناصر الجيش اللبناني لدى "جبهة النصرة" تطالب بمبادلتهم بعناصر في السجون اللبنانية .لكن المعالجة التي تمت وفّرت على المنطقة خسائر هائلة في ما لو استمرت المواجهات العسكرية وكانت هناك مخاطر اندلاع توترات مذهبية تصعب السيطرة عليها . هناك من يشعر بالقلق لأن التهديدات الأمنية مازالت قائمة من وجود آلاف المسلحين على الحدود اللبنانية السورية ما يجعل احتمالات تجدد الاعتداءات التي يقوم بها عناصر "جبهة النصرة" واردة في أي وقت . ويرغب هذا الطرف بالتعاون بين الجيشين اللبناني والسوري لمحاصرة هؤلاء المسلحين والقضاء عليهم متجاهلاً تداعيات ذلك على الانقسام الحاد في الرأي العام اللبناني والقوى اللبنانية .ترافقت معالجة أزمة عرسال مع موقف سعودي داعم للجيش اللبناني ومدين لتصرفات المسلحين، ومع حركة سياسية تسعى إلى فك التوتر اللبناني وتقوية مواقع الاعتدال . عاد الرئيس سعد الحريري بعد غياب طويل إلى لبنان في خطوة بدت وكأنها مدخل لإنتاج تسوية داخلية من ضمنها انتخاب رئيس للجمهورية . ربما جرى تحميل الخطوة أكثر مما تحتمل ذلك أن الأصل في حركته هو إعادة تجميع صفوف شارعه بعد أن أصابها التشرذم والضعف وغياب القرار والفراغ الحاصل على صعيد التوازن اللبناني .أما مسألة "التسوية" فلا مؤشرات حقيقية عليها بعد، على الرغم من بعض الحراك العربي والتقارب بين بعض الدول والقيادات . فأزمة العراق وهي عنوان أساسي في المنطقة لم تشهد حلحلة جدية . رغم تخلي رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي عن ترشيحه لمصلحة حيدر العبادي، وهو المسؤول عما آلت إليه الأوضاع هناك، كما أن مكاسب "دولة الخلافة" لم تتراجع جدياً رغم التطورات الأخيرة التي شهدت تدخلاً أمريكياً محدوداً تمثل بالقصف الجوي عبر طائرات من دون طيار .تضافرت جهود بعض الدول الإقليمية لخلط الأوراق في المنطقة خاصة من خلال العدوان الصهيوني على غزّة . لكن الطرفين الإيراني والتركي اللذين حاولا المنافسة على هذا الصعيد فشلا في أخذ الدور التفاوضي الذي عاد بقوة إلى مصر والمملكة السعودية من خلفها . وما كان يسمّى محور "الممانعة" أصبح في حالة دفاعية ميدانياً وسياسياً ولا قدرة له على اتخاذ أي مبادرة ذات تأثير في مجريات الأمور . فإزاء التدمير المنهجي غير المسبوق بالعدوان على غزة كان هذا المحور عاجزاً عن القيام بأي دور فأخذ يتوعد بدعم لاحق لمشروع المقاومة والتهديد بتسليح الضفة الغربية، وهو موقف كاريكاتوري في سياق المشهد الراهن .لا شك أن صمود غزة ألقى بثقله على الوضع الفلسطيني الداخلي والعربي، وأنتج عناصر ايجابية أهمها وحدة الموقف الفلسطيني وتشكيل الوفد الموحد للتفاوض على نقاط موحدة . بل إن المقاومين في غزة، أظهروا مرونة سياسية ونوعاً من الاستدراك فحاولوا الابتعاد والنأي بموقفهم مع تطور الأحداث عن التمترس عند المحاور العربية وانفتحوا على الجهة الأكثر فاعلية وأهمية في الواقع وهي الطرف المصري . هذا النوع من "المراجعة والمصالحة" إذا جاز التعبير هو عنصر إيجابي أيضاً لنتائج معركة غزّة وقد يشكل نقطة الارتكاز التي يجب أن تنمو وتكبر لكي يستعيد العرب دورهم في المعادلة أمام حالة العبث والفوضى التي سادت سابقاً .لقد وضعت كل ملفات المنطقة على الطاولة وتظهرت خريطة القوى على نحو جديد ولم يعد هناك نوع من الاجتياحات العسكرية التي يمكن توقع حصولها لتغيير المعادلات بعد حركة "داعش" . فهل يشكل ذلك إيذاناً باحتمالات الحوار نحو التسويات خاصة بعد حجم المآسي الإنسانية في غزّة أو في الموصل، أم أن الأمر لا يزال بعيد المنال؟ ربما الجواب على هذا السؤال يتوقف على "التواضع الإيراني" لإيجاد حل عراقي أولاً، وهو ما حصل من خلال التخلي عن المالكي، والانفتاح على حلول أخرى، كما على الدور المصري السعودي وقدرته على استعادة المبادرة في الحضور على خط الأزمات العربية . فهاتان الدولتان اللتان تتمتعان بالاستقرار النسبي والإمكانات المادية والسياسية وحدهما عنصر التوازن الذي يمكن أن يعيد للعرب حضورهم على المسرح . ومن اللافت أن الولايات المتحدة التي مارست تحفظاً شديداً على تطورات الوضع في مصر، عادت تتعامل معها على أنها أمر واقع لا يمكن تجاهله.
خريطة المنطقة السياسية الجديدة
أخبار متعلقة