مع الشاعر اليمني لطفي جعفر أمان
*كتب د. شهاب غانم:ولد الشاعر لطفي أمان في 12 مايو 1928 في عدن وتوفي في16 ديسمبر 1971 في مستشفى القوات المسلحة في المعادي بالقاهرة ودفن في عدن، وكان السابع بين ثمانية أشقاء ذكور وشقيقتين. وكان معظم أشقائه من هواة الفنون الجميلة ، فمنهم من كان يهوى الشعر أو الرسم أو الموسيقى كما كانوا من هواة القراءة والثقافة.كما روى الأستاذ لطفي رحمه الله في مجلة (المستقبل) الشهرية التي كانت تصدر في عدن وذلك في العدد الثالث في مارس 1949 ، بأن والدته كانت في طفولته حريصة على أن تراه يعود من خارج المنزل بملابسه كما خرج بها نظيفة زاهية فلم يكن ينعم باللعب في الشارع مثل غيره من الصبيان بل يسير عادة برفقة أحد أشقائه الأكبر منه، وكانت والدته توفر له أسباب اللعب من دمى وتصاوير فيخلو بنفسه معها يلاعبها فنشأت له مخيلة تكون منها استعداده للفن، كما ذكر لطفي تأثره بإخوته في حب القراءة والفنون. وقد نقل هذا الحديث علوي عبدالله طاهر في كتابه (لطفي أمان دراسة وتاريخ) المنشور في عدن عام 1981 كما نقله عبدالفتاح الحكيمي في كتابه (النقد الأدبي والمعارك القلمية في اليمن 1955-1932)الصادر في صنعاء في 1998.ويبدو أن لطفي أرسل إلى الخرطوم للدراسة في سن مبكرة. وهناك رسالة خطية وجهها لطفي من السودان لأخيه الأكبر عبدالله والجزء الأخير منها لوالده مؤرخة في يناير 1945 دون ذكر تاريخ اليوم وكانت بلغة إنكليزية لا تخلو من بعض الضعف والأخطاء اللغوية القليلة، وهي رسالة مهمة إذ تجلو بعض معانات لطفي في أواخر مرحلة الدراسة الثانوية في السودان، ففيها يشكو لطفي من اتهام والده وأخيه نجيب له بعدم الاهتمام بالدراسة، والاهتمام بدلا عن ذلك بالسينما وأغاني عبدالوهاب وكتابة الشعر ويؤكد أنه كان على الرغم من تلك الاهتمامات كان يدرس بجد شديد وحصل على درجة أولى في العربية والإنكليزية ومعدلاته في المواضيع الأخرى جيدة أو لابأس بها. وقال إن نجيب يتهمه بإهمال دروس الرياضة البدنية وذكر أنه أصيب (بنامونيا) حادة وقضى شهر فبراير ونصف شهر فبراير في المستشفى وكان يبصق دما ولكنه أخفى ذلك على والده كيلا يقلقه. وقد أخبره الطبيب أن عليه الاهتمام بصحته كيلا يتحول المرض إلى السل وطلب منه أن يمتنع عن ممارسة الألعاب، واعترف أنه يكره الرياضة البدنية والألعاب. وذكر أن والده كان غاضبا منه لصرف وقته في كتابة الشعر وقال إن الشعر لايضيع وقته بل ساعده على التفوق في اللغة العربية وقال مصرا أنه سيكرس نفسه للشعر حتى آخر رمق في حياته. وطلب من أخيه عبدالله أن يكاتبه باللغة العربية وكتب لوالده في آخر الرسالة مترجيا منه أن يكتب له ولو بضع كلمات على الرغم من مشاغله.ويذكر لطفي في بعض كتاباته أنه عندما سافر إلى السودان وأحس بدياجير الغربة تلقفه صديق شاعر لن ينساه وتتلمذ في مجال الشعر على يديه فأولع بعلي محمود طه ومحمود حسن اسماعيل وأبي القاسم الشابي والياس أبي شبكة وأخيرا السوداني التيجاني يوسف بشير الذي أعجب به أيما إعجاب. ومعنى هذا أنه أعجب بأعلام الشعراء الرومانسيين العرب وتعلق بالروحانيات العذبة واجتذبته الاضواء الحالمة التي تترقرق بالعطر والجمال فبات يهوى كل جميلة عابرة ويحس بحب وهمي من طرف واحد يورث الشعور بالحرمان. فلا غرو أنه يقول بعد ذلك بسنين طويلة في قصيدة بعنوان (كم فتاة أحببتها) منشورة في ديوانه (كانت لنا أيام) المنشور في الستينيات:كم فتاة أحببتَها؟ لا تثرنيقلت أخشى عليك لو تعلمينافرمتني بنظرة ضاق جفناهاولاذت بفورة الصمت حيناقلت: ذكرى غفت فلا توقظيهاأتثيرين في دمائي الشجوناويقول في قصيدة بعنوان (عبث) المنشورة في نفس الديوان أيضا عندما وصل إلى الحب الحقيقي أو ما يظنه كذلك:إن لم تكوني أول الحبفلأنت وحدك أنت في قلبيأما اللواتي قد سبقنك فيسبل الهوى وسقطن في دربيفلقد نثرت قلوبهن هباكالطير ينثر وافر الحبكان الجمال يهيج بي نزقافأظل من وثب إلى وثبحتى سددت علي منطلقيبضيائك المتدفق الرحب ..ولطفي متأثر في هذه القصيدة كما يبدو بقصيدة لصالح جودت كان لطفي حسب معرفتي قد اطلع عليها يقول فيها جودت:لا تسأليني كم عشقت فإننيكان الهوى روضي وقلبي طائرما زال يعبث بالربى وورودهافيؤمها ويضمها ويغادرحتى عرفتك فاكتشفت حقيقتيورأيت أحلامي إليك تبادرفعرفت أن الحسن طيف عابروعرفت أن الحب شيء نادروكان لطفي على الرغم من موهبته الكبيرة شديد التأثر بما يقرأ ويظهر ذلك على شعره خصوصا في مراحله الأولى وقد أشار إلى ذلك الشاعر الناقد العراقي هلال ناجي في كتابه (شعراء اليمن المعاصرون) المنشور في بيروت عام 1966 ويبين بعض مواضع تأثره بعلي محمود طه وأبي القاسم الشابي وإبراهيم ناجي والياس أبي شبكة ونزار قباني وبدر شاكر السياب وهو رأي كره كثير ممن كتبوا حول شعر لطفي.وأذكر شخصيا أنه في إحدى قصائده المنشورة في أحد أعداد مجلة (الأفكار) التي كانت تصدر في الأربعينيات من القرن الماضي في عدن (وكان رئيس تحريرها هو المحامي محمود لقمان شقيق رجل التنوير المحامي محمد علي لقمان صاحب فتاة الجزيرة) كان هناك بيت في القصيدة مطابق بحذافيره لبيت لوالدي محمد عبده غانم كان قد نشر في العدد الأول من نفس المجلة. وقد نشر البيت من دون علامات تنصيص مما يشير ألى أن لطفي كما يبدو من دون قصد منه اعتقد أن البيت من بنات أفكاره إلا إذا كان قد نسي علامات التنصيص أو أنها سقطت عند الطبع والبيت يقول:والريح تدوي بأنات مروعةويملأ البحر بالرمضاء سافيهاويذكر والده جعفر علي أمان في مذكراته المخطوطة التي لم أطلع إلا على نتف منها إن لطفي عاد إلى عدن في 10 مايو 1945 من بورسودان على مركب (أفريقيا) لقهوجي (أو كاواجي) لتمضية الإجازة المدرسية مع الأسرة، وهذا يدل على أنه كان قد سافر للدراسة في السودان في العام السابق أو ربما قبل ذلك. كما يذكر والده أنه ودعه في 14 يوليو من عام 1945 عند عودته إلى السودان على باخرة مصرية. ثم يذكر أن مدير معارف عدن في يوم 4 فبراير 1946 طلب حضور نجيب جعفر أمان - وهو شقيق أكبر للطفي- وأطلعه على برقية من مدير معارف السودان تعلمهم بأن لطفي نجح في امتحان السينير كامبردج (أي الثانوية) في كل المواضيع ويقترح إرساله إلى لندن ليدرس علم الفنون. ولكن لطفي لم يرغب في السفر إلى لندن فأدخل كلية غردون في الخرطوم. وقد عاد لقضاء الإجازة على مركب البس (الأمين) ثم عاد للدراسة في أغسطس 1946 على الباخرة المصرية (الطائف). فقد كان معظم سفر أهالي عدن في تلك الأيام كما يبدو بحرا لا جواً. وأذكر أن والدي الدكتور محمد عبده غانم أخذني ووالدتي وأشقائي قيس وعزة وعصام لقضاء إجازة في أسمرة في صيف 1947 بواسطة طائرة (داكوتا) وكانت والدتي تناقشه بجد في أخطار ركوب الجو وهل هناك حاجة إلى الباراشوت، وكأن الأمر مغامرة خطيرة.في رسالة خطية للطفي بتاريخ 8 نوفمبر 1946 وهو في كلية غردون مكتوبة بلغة إنكليزية جيدة مما يدل على تطور لغة لطفي الإنكليزية كثيرا منذ رسالته السابقة، وهذه أيضا كانت موجهة لأخيه الأكبر عبدالله يتحدث في بدايتها عن الظروف السياسية في السودان ورغبة الشعب عموما في الوحدة مع مصر وأنه شخصيا يؤمن بقوة بتلك الوحدة، ويخبره بأن طلبة كلية غردون ممنوعون من المشاركة السياسية ولكن الطلبة رغم ذلك شاركوا في المظاهرات ولطفي معهم وقد أمر مدير الكلية البريطاني لذلك السبب بإغلاق الكلية. ولكن المظاهرات تواصلت وقد هاجمت جماعةٌ من حزب الأمة -الذي لم يكن يؤيد الوحدة مع مصر- المتظاهرين فقُتل أحدهم وجرح عدد منهم. ثم قرر الطلبة السودانيون العودة إلى بيوتهم وبقي لطفي مع عشرين من الطلبة العرب الوافدين ومنهم يمنيون في سكن الجامعة تحت حراسة الشرطة العسكرية. ويطلب لطفي من أخيه في آخر الرسالة أن يكتب له بأخبار عدن خصوصا الأدبية وينقل تحياته لأعضاء النادي وإلى محمد عبده غانم.ويبدو أنه كانت قد نشأت صداقة أدبية بين لطفي الطالب الذي كان في نحو الثامنة عشرة من العمر والسيد غانم أول خريج يمني وكان يومها مسؤولا بارزا في التربية والتعليم قبل أن يصبح مديرا للمعارف. وعندما صدر ديوان غانم الأول عام 1946 حياه الطالب لطفي بقصيدة من 31 بيتا بعنوان (صدى الشاطئ) وكان الإهداء “إلى شاعرعدن الكبير الأستاذ محمد عبده غانم بمناسبة صدور ديوانه الرائع على الشاطئ المسحور” وهي قصيدة تدل على أسلوب لطفي القريب من التقليدية في بداياته ومنها:يا شاعرا كلمــا رنـت قيــاثرهحسبت أن مآسـى الكون لم تكـنهل صفق الروض إلا كلما خطـرتفي سوحه نغمة من عودك الفطـنوهـل تبسـم زهر مال من طـربإلا و الفــاك غريدا على فنــنتـالله ما فاض شـعـر أنت قائلهإلا و خلّته لحـنا في فـم الزمـنسجا بـي الليل إلا نغمـة طفـرتكأنها جرس خطو الغادة الحـسنهفت من (الشاطئ المسحور) راقصةنشوى تعربد في قلبي و في أذنـيو ودعتني على لقيـا فقلـت لـهـازفي سلامي على الأحباب في عدنوعندما نشر لطفي ديوانه الأول (بقايا نغم) عام 1948 وهو في نحو العشرين من العمر طلب من غانم كتابة مقدمة للديوان وبالفعل كتب غانم مقدمة أدبية جيدة تعد من أوائل الكتابات النقدية المعاصرة في اليمن.وفي رسالة بتاريخ 18 ديسمبر 1946 كتب لطفي لأخيه عبدالله هذه المرة باللغة العربية بخطه المتميز الجميل قائلاً أنه مضت على إغلاق الكلية بسبب المظاهرات نحو شهر وعشرين يوما، أما الشهر فقد قضاه في الداخلية مع زملائه في الدراسة من وطنه علي غانم كليب (الذي صار فيما بعد أول خريج جامعي في الهندسة المدنية من أبناء عدن ثم أول وكيل مواطن لوزارة الأشغال والمواصلات) وقحطان الشعبي (الذي صار فيما بعد أول رئيس لجنوب اليمن بعد استقلاله) والجفري. وكانت مكتبة الكلية قد فتحت أبواب مكتبتها العامرة لهم فقط، فكانوا يقرؤون بنهم في النهار أما في الليل فكان لطفي ينشغل بالتأليف. وقضى بعد ذلك 18 يوما عند “العم الفاضل سعيد قاسم” في بور سودان. واستطاع أن ينجز حتى ذلك الوقت خمسة كتب هي:تغريدة وهي مجموعة أشعاره الأولى.مرًّ بي وهوكتاب ضخم بالنثر.بقايا نغم وفيه أشعاره الجديدة، ولم ينته بعد.همسة وهو كتاب تحت الإعداد يعالج المشاكل الأدبية والاجتماعية .حلم لم يعد وهي قصة تعالج مشاكل الجنس والأخلاق .ويعبر لطفي عن سروره لإعجاب أخيه عبدالله بقصيدته (أنا حامي الضمير) التي نشرت في صحيفة (صوت اليمن) التي كان يحررها الأستاذ أحمد محمد نعمان والقاضي الشهيد محمد محمود الزبيري من حركة الأحرار اليمنيين اللاجئين في عدن والذين كانوا يحاولون تعرية حكم الإمام المستبد يحيى حميد الدين في اليمن. وكان شقيقه الشاعرنجيب أمان قد أرسل له بالعدد الذي نشرت فيه كما جاءته رسالة تقدير من الصحيفة تطلب منه المزيد فأرسل إليهم مقالة يصف فيها أحوال السودان فنشرت هي أيضا. ومن قصيدة (أنا حامي الضمير) التي تقع في 38 بيتا نقتطف هذه الأبيات:وإذا بالرجال من كل مقدام يدب الحماس بين كيانهحملوا مشعل الهدى لشباب مستكين في ذله وهوانهفي دياجير ذلك البلد الغافي ربيب الحجا على أحضانهفي بلاد تئن من وطأة الظلم وتدمي شعوبها من طعانهلفها الدهر في قتام من الجهل فضاقت أنفاسها من دخانهفي دجى السجن حيث تزهق آمال وبؤس يطل من قضبانهويذكر جعفر أمان في مذكراته أن ولده لطفي وصل في إجازة من بور سودان يوم 13 مايو 1947 على الباخرة (دوركينز) ولكن مع الأسف سرق جوازه ومحفظته والساعة الذهبية وسلسه الذهبي. ثم عاد إلى السودان يوم 18 أغسطس 1947 على الباخرة (زمالك) بعد قضاء أكثر من ثلاثة أشهر في عدن.وقد عاد لطفي إلى عدن نهائيا بعد الحصول على دبلوم تربية من كلية غردون. ويذكر الحكيمي أن عودته كانت في أكتوبر 1948 ، بينما يذكر علوي طاهر أنه أصدر ديوانه الأول (بقايا نغم) عن مطبعة فتاة الجزيرة في أكتوبر 1948.