عندما تأسس معهد اللغات بجامعة عدن عام 1981م، وسمي آنذاك مركز اللغات الحية، كان عبارة عن مركز صغير متواضع في عدد طلابه وأساتذته وإمكاناته، ولكنه كان كبيراً بقدرات أساتذته وهمتهم وإحساسهم برقي رسالتهم العلمية.ومنذ عام تأسيس المركز في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي إلى حين صدور قرار رئيس الجامعة بتحويله إلى كلية للغات في العام الجاري، ثمة تطورات وتغيرات إيجابية كثيرة جرت، وبون شاسع حدث في الزمان والمكان والإمكانات.فجامعة عدن استوعبت منذ البداية أهمية اللغات وتدريسها أكان ذلك ضمن مفردات برامجها بالكليات المختلفة أم في تنوع اللغات التي تُدرس، فقد كانت للجامعة تجارب عديدة في تدريس اللغات الأجنبية..، فقد أدخلت على سبيل المثال اللغة الروسية في برامجها الدراسية في نهاية السبعينيات من القرن العشرين ابان زخم العلاقات الواسعة بين اليمن الجنوبي وجامعة عدن مع روسيا في حقبة الاتحاد السوفياتي، كما دُرست اللغة الألمانية بالجامعة حينما كانت العلاقات الأكاديمية والثقافية متينة مع جمهورية ألمانيا الديمقراطية “الشرقية”، وجامعة عدن أيضاً نفذت محاولات لتدريس اللغة الصينية في كليات كان للأساتذة الصينيين دور ملموس في التدريس فيها ولكنها في كل هذه المدد الزمنية حافظت عدد من كليات الجامعة ومركز اللغات على تدريس اللغة الانجليزية والفرنسية إلى أن أصبح لدى جامعة عدن كلية مستقلة للغات في العام 2013 م، تستند الى إرث علمي وتدريسي طويل في هذا المضمار لتعليم اللغات التي تعد مرتكزاً ومفتاحا لعلوم المعمورة.ولعل من نافلة القول أن نؤكد هنا أن تعلم أي لغة يهدف إلى تحقيق الاتصال والتواصل والتثاقف بين سكان كل أمم الأرض وماينجم عن ذلك من نقل الأفكار والمشاعر والمصالح والتعارف عبر هذه اللغة أو تلك بين الناس وكل الشعوب. قال تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خبير ) “الحجرات ( 13 ) “. فالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد في مسنده عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتحسن السريانية؟ إنها تأتيني كتب” قال: قلت: لا، قال: “فتعلمها” فتعلمتها في سبعة عشر يوماً، وصححه الشيخ شعيب الأرناؤوط.ورواه الحاكم وزاد: قال الأعمش : كانت تأتيه كتب لا يشتهي أن يطلع عليها إلا من يثق به. ا.هـ قال الألباني في الصحيحة (سنده صحيح) ا.هـ.وقال الله جل شأنه: “قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا”، الأعراف (158)، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم- : “كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود”، رواه مسلم.. ولما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، ولقي ربه ولم يؤمن به كل العالمين؛ حمّل الله تعالى أمته مسؤولية الدعوة إلى العالمين؛ قال تعالى: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا”، البقرة (143)، وأفاد المفسرون موضحين: “ليكون الرسول عليكم شهيدا بأنه أدى الأمانة وبلغ الرسالة، وتكونوا شهداء على الناس بأنكم قد أبلغتموهم الرسالة؛ وهو ما يقتضي تعلم لغات أهل الأرض جميعًا لأداء الرسالة إليهم”.ومن أجل كل ذلك كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم- من أصحابه من يعرف الفارسية والرومية والحبشية ويكفيه هم الترجمة منها وإليها، ولما لم يكن عنده من يعرف لغة اليهود أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - “زيد بن ثابت” بتعلم لغة اليهود موضحاً ذلك بقوله: “إني والله ما آمن يهوداً على كتابي” (راجع البخاري والترمذي وأبو داود وأحمد) فتعلمها رضي الله عنه وأتقنها، واستغنى به النبي عن المترجمين اليهود الذين لم يأمنهم على كتابه..ومقتضى أمره - صلى الله عليه وسلم - لزيد هنا هو أمر لنا بأداء مثل ما أمر به زيد من تعلم للغات الآخر وإتقانها؛ حتى تتحقق كفاية أمتنا من المتخصصين في كل لغة لأداء ما سبق من مهام.ومن الأقوال المأثورة في ذلك: “من تعلم لغة قوم أمن مكرهم”.ويسطر الشاعر معبراً عن ذلك بقوله:بقدر لـغــات المرء يكثر نفعــــــه .. فتلك له عند الملمّات أعوانفأقبل على درس اللغات وحفظها .. فكل لسان في الحقيقة إنسانوقد خص الله سبحانه وتعالى الإنسان بخاصية التواصل والتخاطب باللسان أي انه مخلوق ناطق، استطاع أن يطور لغته للتواصل مع غيره من البشر على مدى آلاف السنين وبواسطتها - أي اللغة - عرفنا عادات وقيم وانجازات الأمم الغابرة التي رصعت التاريخ بانجازاتها الحضارية والعلمية واليوم تتاح تلك الانجازات عبر النقوش والكتابات على الجلود والعظام وأوراق البردي، وكذا بالرموز والصور..إلخ، كتعبير عن مدى تطور تلك الحضارات التي ترك أهلها أثرا واضحا في صدر التاريخ الناصع بالانجازات الإنسانية والتجارب الخلاقة..، ولان الإنسان بطبيعته اجتماعي لايحقق هذا الشرط سوى بالتعبير عنها بلغة ما.لكن اللغة دائماً هي الوعاء الحضاري لأية ثقافة يسود أهلها على أي بقعة في هذه الأرض من شرقها إلى غربها، وليس أدل على سيادة الحضارات البائدة والسائدة إلا بلغة قومها وجهابذة مفكريها وفلاسفتها وعلمائها.فالعالم يدرس باهتمام اليوم لغة الفلاسفة الإغريق من خلال ماترك من نقوش وآثار مدينة أثينا وامتداد روما وكل الموانئ التي دانت ذات يوم لهذه الثقافة.كما كان للعرب باعٌ في سيادة لغتهم واستطاعوا ان يؤسسوا لهم موقعاً مهماً في التاريخ الإنساني حينما أكرم الله العرب وأنزل عليهم القرآن الكريم والدين الإسلامي بلغتهم العربية..، وهو الأمر الذي استوعبه قادة الأمة حينذاك وأولوا اهتمامهم لتشجيع العلم والعلماء وترجمة العلوم والدواوين الإدارية من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية، حتى تحولت لغتنا العربية إلى مصدر علم وفكر وثقافة وحضارة ينهل من معينها كل العالم.قال عنها الشاعر العربي الكبير/حافظ إبراهيم:ـ أنا البحر في أحشائه الدر كامن..فهل سألوا الغواص عن صدفاتيوسعت كتاب الله لفظا وغايـــة..وما ضقت عن آي به وعظاتفكيف أضيق اليوم عن وصف آلة..وتنسيق أسماء لمخترعاترحم الله شاعر العرب الغيور على لغة أمته العربية.وعندما عرَبَ العرب ثقافة من سبقوهم وبالعلم لا بالسيف وحده، سادوا على العالم القديم حينما طبقوا المبادئ والقيم الإسلامية العربية الأصيلة، فكانت الجامعات الأوربية تتباهى ذات يوم بالكتابة والحديث بلغة القرآن الكريم - اللغة العربية -، بل أنها ظلت حتى يومنا هذا ترجح كل قواميس اللغة في كل من ألمانيا وفرنسا، واللغة الانجليزية إلى ما أنتجه العرب في هذا الشأن، بل ان الحرف العربي كان زينة الحروف في جامعات عريقة عالمية في أوروبا مثل، أكسفورد وهايدل بريج وروما وفلورنسا وبرلين وبيزا والسوربون..إلخ.ان اللغات الحية تتصارع اليوم كما يسمونها الانجليزية والفرنسية والاسبانية والألمانية..، ناهيك عن اللغة الصينية التي بدأت بالمنافسة الجادة خلال العقود الأخيرة، وكل ذلك يترجم مدى قدرة الشعوب على الإنتاج العلمي والثقافي، وكذا الاقتصادي لشعوبها.نعم يمكننا التأكيد ان اللغة هي وعاء الحضارة والمترجم الحي لكل انجازات وإرث الشعوب في حقول العلم والثقافة والعلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.ختاماً..أود هنا ان اشكر كلية اللغات وعميدها الدكتور/جمال محمد أحمد عبدالله الجعدني الذي ثابر واجتهد بهمة أهل العلم، بانجاز العديد من المهام الماثلة أمام كليته الوليدة..، والشكر موصول لكل أفراد طاقم الكلية من أساتذة وموظفين وفنيين وطلاب على حرصهم على ان تكون هذه الكلية احد معالم جامعة عدن المتميزة في قادم الأيام بإذن الله..، ويسعون إلى تحويل الكلية إلى جسر المعرفة المقبل لفهم واستيعاب ثقافات الشعوب الأخرى إلى وطننا العزيز “يمن الأيمان والحكمة” كما وصفها الرسول “صل الله عليه وسلم”، في واحد من أشهر الأحاديث النبوية الشريفة.ونأمل أن تتحول هذه الكلية “كلية اللغات بجامعة عدن”، إلى كلية كبيرة تواكب عصرها بامتياز أي عصر العولمة الثقافية والرقمية ومجاراة سيادة اللغة الانجليزية في حياتنا المعاصرة.والله من وراء القصد؛* رئيس جامعة عـدن
|
آراء
كلية اللغات بجامعة عـدن..بوابة إلى عـلوم الأمم
أخبار متعلقة