على الرغم من النفوذ الواسع للإخوان المسلمين في الحكومة الليبية لم يتردد الشيخ راشد الغنوشي زعيم «النهضة» التونسية من توجيه اللوم إلى ليبيا وتحميلها مسؤولية الاضطرابات الأمنية التي ضربت وتضرب تونس . وكانت جهات عديدة قد تحدثت عن تحول الجنوب الليبي إلى محميات لجماعات مسلحة وجهادية بعضها عابر للحدود، وانتشرت أنباء عن حركة سلاح ومسلحين من الجنوب الليبي نحو مالي ذهاباً وإياباً ولم يتردد المصريون في ربط الاضطرابات الأمنية في سيناء بتهريب السلاح والمسلحين من ليبيا، وكانت الجزائر قد فسرت حادث خطف الرهائن في «عين أم الناس» أواسط العام الجاري بالحديث عن «المحميات الليبية».وإذا كان كل جيران ليبيا المباشرين يشكون فوضى السلاح والمسلحين في هذا البلد، فإن الجيران الأوروبيين وبخاصة إيطاليا يشكون الهجرة السرية عبر البحر التي صارت منظمة بعد سقوط معمر القذافي تحت سلطة مافيا محلية . في حين تشكو البعثات الديبلوماسية من انعدام الأمن والثقة بالشرطة، وبالتالي الخوف على مصيرها، خصوصاً بعد مقتل السفير الأمريكي في بنغازي في ذكرى 11 سبتمبر العام الفائت وبعد العملية الأمنية الأمريكية الخاطفة التي أدت إلى اعتقال أبو أنس الليبي أحد قادة القاعدة .ومن نافل القول إن الليبيين أنفسهم يشكون من الميليشيات المسلحة وفوضى السلاح وفي طليعتهم رئيس الوزراء علي زيدان الذي تعرض للخطف مؤخراً فضلاً عن أهالي طرابلس الذين نزلوا إلى الشارع مطالبين برحيل ميليشيات مصراتة وزليتن وغيرها من شوارع مدينتهم فكان أن تعرضوا لمجزرة سقط ضحيتها نحو 500 متظاهر بين قتيل وجريح وكان بعض أهالي بنغازي قد تظاهر ضد الميليشيات الجهادية في حين لا يكف سكان مدن أخرى عن الشكوى من أعمال الخطف والنهب والأحكام الاعتباطية التي تفرضها الميليشيات في هذه المدينة أو تلك .وتمتد الشكوى أيضاً إلى المجال الاقتصادي والمعيشي حيث يرى مختصون أن ليبيا تقف على حافة أزمة غذائية، في حين يؤكد رئيس الوزراء أن عدم تصدير النفط من شأنه أن يحرم ليبيا من موازنة العام 2014 وتعريض الدولة للإفلاس. معلوم هنا أن الميليشيات تسيطر على الموانئ النفطية وتمنع تصدير النفط والغاز للضغط على الحكومة كي تستجيب لمطالبها بعدالة توزيع الثروة. وفي السياق نفسه بادر إقليم برقة الفيدرالي إلى تشكيل هيئة إقليمية لإدارة النفط، والطلب إلى الشركات الأجنبية أن تتفاوض مع هذه الهيئة إذا ما أرادت استيراد الطاقة الليبيبة، معلوم أن هذا الإقليم يضم أكثر من 60 في المئة من الثروة النفطية والغازية في البلاد، ويأتي بعده إقليم فزان الذي يضم أكثر من 25 في المئة، وإذا ما تأكد الاتجاه لدى هذا الأخير لإعلان إقليم فيدرالي فهذا يعني أن النفط الليبي بأكثريته الساحقة سيكون محصوراً في الإقليمين وكذلك العائدات، ومع توفر الرساميل من الطبيعي أن يتم تمويل ميليشيات جديدة، وقوى أمنية محلية الأمر الذي قد يحول دون إعادة توحيد ليبيا أو لربما ترسيخ الأقاليم المنفصلة وتحولها إلى إمارات نفطية صغيرة على حساب المركز الطرابلسي.يفضي ما سبق إلى سؤال كبير حول أثر الربيع العربي في هذا البلد وفشل «الإخوان المسلمين» في إدارته، كما فشلوا تماماً في مصر وتونس واليمن فهل يدفعون في ليبيا أيضاً ثمن فشلهم؟ أكبر الظن أن ليبيا بأسرها قد تدفع ثمن هذا الفشل، وبخاصة الدولة الاتحادية التي لا توجد اليوم قوة محورية قادرة على حمايتها من السقوط . وهذا بسبب سوء تدبير «الإخوان» والليبراليين معاً، وهم يشكلون الأكثرية الساحقة في المؤتمر الوطني، وفي الحكومة الليبية . فقد قرر هؤلاء حرمان موظفي أجهزة الأمن والجيش السابق من الوظيفة العامة ما أدى إلى تفتيت الدولة السابقة التي كانت رغم ضعفها قادرة على المساهمة في توفير الانتقال الليبي من عهد إلى عهد . ولعل هذه الخطوة الانتقامية أدت أيضاً إلى اتساع الغضب الاجتماعي في الشارع وإلى اندفاع فئات مختلفة من المتضررين ضد الحكومة والبحث عن حماية مصالحها عبر قبائلها وأوساطها التقليدية، فالموظف في المجتمع القبلي ليس موظفاً معزولاً في دولة مدنية بل منتم لقبيلة تحميه وتدافع عنه إذا ما تعرض للأذى طالما أن أولوية القبيلة هي الدفاع عن أبنائها قبل الدفاع عما بعد القبيلة.إن سوء توزيع الثروة في العهد الليبي السابق وضعف الاندماج المجتمعي من جراء تباعد المسافات بين أماكن تمركز القبائل وضعف الدولة المركزية الجامعة والشعور بالغبن كل ذلك عزز ويعزز الانغلاق القبلي ويمنح القبائل حق الفيتو الطبيعي في الاعتراض على تشكيل حكومة مركزية لا تحقق المساواة التامة بين هذه القبيلة أو تلك والبحث عن الفيدرالية، أو الكونفدرالية التي تظل حتى إشعار آخر الضامن الأهم للمصالح الخاصة للقبائل منفردة أو للاتحادات القبلية فهل يعني ذلك أن ليبيا الموحدة لن ترى النور مجدداً؟ وهل تنطوي فوضى السلاح والمسلحين على حرب أهلية وشيكة أو محتملة؟ وهل يعني ذلك كله أن لا حل إيجابياً في هذا الوطن بعيداً عن الفيدرالية وأخواتها؟الجواب عن هذه الأسئلة يتمحور حول احتمالين لا ثالث لهما الأول، هو أن تتفق القوى الأساسية في ليبيا على الإعلان عن طي صفحة «الربيع الإخواني» وفتح صفحة المصالحة الوطنية باعتبار أن النظام السابق انتهى، وأن الليبيين يحتاجون جميعاً إلى بلد موحد ودولة عادلة تحقق مصالح الجميع على قدم المساواة . والاحتمال الثاني، وهو الأخطر أن تتفكك ليبيا فيدرالياً وكونفيدرالياً أو أن تسقط في حرب أهلية قاتلة .في هذه اللحظات من المؤسف القول إن هذا البلد يقع على خطوات من الحرب الأهلية وإن وحدته الاندماجية تحتاج إلى معجزة حقيقية لإنقاذها .
الحرب الأهلية تدق أبواب ليبيا
أخبار متعلقة