التجربة الدستورية اليمنية
دلت التجربة الطويلة للنظام السياسي في اليمن، على أن الحاكم وإن انصاع لاستحقاقات العصرنة بضغط من الخارج، فإنه يظل مستبداً وسلطوياً وعسكرياً حتى الثمالة، وأنه غير مستعد للاستغناء عن سماته هذه، بل يسعى نحو تأبيد السلطة، ومحاولة نقلها إلى الأبناء.ويعزو البعض هذا الاستعصاء والممانعة تجاه أي تغيير ديمقراطي نابع من النفسية الاستبدادية المتأصلة في الذات العربية الحاكمة، والمنتسبة تاريخياً إلى عصور الاستبداد(1) وقد تجلى ذلك في أن التحسينات الديمقراطية - إن جاز التعبير - التي رافقت إعادة تحقيق الوحدة اليمنية على شكل الحكم (أحزاب تعددية، تداول سلمي للسلطة ، انتخابات برلمانية ومحلية) لم تحقق أو تستهدف أي تغيير في جوهر السلطة ، كما لم تحقق العدالة في توزيع الثروة، كما لم ينتج عنها توسيع حقيقي للمشاركة في الحكم، بل على العكس تزايد تراكم الثروات لدى التحالفات القريبة من الحكم، واتسعت الفجوة بين القلة من الأثرياء والأغلبية الساحقة من الفقراء والمهمشين سياسيا واجتماعيا(2) وأصبحت الدولة (تفترس) المجتمع بكل أشكال الإكراه الممكنة، دولة تمارس (الإرهاب الشامل) من خلال التسلط والهيمنة على الاقتصاد والمجتمع.وهنا لابد من الإشارة إلى هيكل الجيش وقوة القهر التي تتمثل في النمو السرطاني لأجهزة الحماية (أمن سياسي، أمن قومي، أمن مركزي، الحرس الخاص، الحرس الجمهوري، شرطة عسكرية، شرطة النجدة، الشرطة ،الجيش..) والتي تحولت وظيفتها إلى حماية من هم في سدة الحكم، ما أدى إلى (ترويع المجتمع) (3) وأصبحت تلك المؤسسات الأمنية والعسكرية من أهم دعائم نسق الحكم الفاسد بوصفه الابن الشرعي للاستبداد(4).وفي ضوء ما تقدم، نحاول البحث في معوقات تطبيق أحكام الدستور، لاستشراف آفاق المستقبل استجابة لتطلعات الشعب اليمني في بناء دولته المدنية التي ينشدها منذ نصف قرن.هذا، وسيكون البحث على النحو الآتي:المبحث الأول مسيرة التطور الدستوري في اليمنالمبحث الثانيالأحوال والأوضاع التي صدرت خلالها الدساتير اليمنية:[c1]المبحث الأولمسيرة التطور الدستوري في اليمن[/c]شهدت اليمن متغيرات سياسية متسارعة، بدأت بصدور دستور 1936 في مستعمرة عدن، التي أصبحت بعد فصلها عن الفلك الهندي البريطاني، تحكم حكماً مباشرا من قبل الملك، بصفتها إحدى ممتلكات التاج البريطاني.كما برزت المعارضة ضد النظام الأمامي في الشمال بحركة 1948م، وظهور الميثاق الوطني المقدس لعام 1948م، وتسارعت المتغيرات السياسية العاصفة، ونتاجاً لذلك صدرت منذ 1936 وحتى اليوم ما يزيد على أربعين وثيقة دستورية ، نعرضها على النحو الآتي(5): [c1]الدساتير قبل ثورة سبتمبر:[/c]استثناء القانون الأساسي للدولة العثمانية الصادر في عام 1877م(6)، وكذلك الميثاق الوطني المقدس لعام 1948م، والوثيقة الموسومة (أمالنا وأمانينا) المقدمة من الاتحاد اليمني عام 1952م، و(مطالب الشعب) التي قدمها المناضلان محمد محمود الزبيري وأحمد محمد نعمان عام 1956م ثم وثيقة تعديل الميثاق الوطني لعام 1956م،وأخيرا ميثاق اتحاد الدول العربية المتحدة الذي وقعه عن المملكة المتوكلية اليمنية ولي العهد محمد البدر في 8 مارس 1958م، فلم تعرف المملكة المتوكلية أي وثيقة دستورية أو قانونية وذلك كون السلطات كلها كانت بيد الإمام، ولم تعرف المملكة المؤسسات الحديثة، بل أن المؤسسات التي تركها الأتراك دمرت(7).[c1]الدساتير قبل الاستقلال الوطني:[/c]أ) أدى استقلال الهند عن بريطانيا في الأول من إبريل 1937م إلى فصل عدن عن الفلك الهندي البريطاني.ووضعت الأسس لقيام الدولة في عدن ونظمت السلطات فيها بصدور دستور 1936م والتعديلات المتعاقبة عليه عام 1944م ، 1947م الذي أدخل تعديلات على السلطة القضائية. وأمر 1955م الذي أعاد تكوين السلطة التشريعية وأدخل نظام الرئيس .. الخ وكذلك تعديل 1958م بشأن تعديل المادة الخامسة بتقديم مشروعات القوانين إلى المجلس التشريعي، فكونت هذه الوثائق في مجموعها دستور عدن عام 1936-1958م(8).ب) دستور عدن لعام 1962م.صدر عن البرلمان البريطاني بمصادقة التاج البريطاني (الملكة)ج) دستور سلطنة لحج 1951م يتكون من خمسة أبواب على النحو الآتي(9):الباب الأول: السلطنة اللحجية ونظام الحكم فيها .الباب الثاني: السلطان.الباب الثالث: المجلس التشريعي.الباب الرابع: مالية السلطنة.الباب الخامس: أحكام عامة.د) دستور ولاية دثينة 1961م ويتكون من الأبواب الآتية (10):الباب الأول: احتياطيات .الباب الثاني: اللجنة.البال الثالث: المديرين.الباب الرابع: إجراءات تشريعية.الباب الخامس: المالية.الباب السادس: الإدارة .الباب السابع: الحكومات المحلية.هـ) دستور السلطنة القعيطية. يتكون الدستور القعيطي من ثلاث وثائق، هي:الوثيقة الصارة في 24 مارس 1940 وتنص على تأسيس وتعيين مجلس الدولة.الوثيقة الثانية تبين محاكم الدولة وصدرت في 7 يونيو1940م.الوثيقة الثالثة خاصة بقانون دستور الولاية الصادر في 24 مارس 1940م وبالإضافة إلى هذه الوثائق فإن القانون الإسلامي هو القانون الأساسي للدولة (11).و) دساتير الاتحاد الفيدرالي:ترجع فكرة قيام مشروع الاتحاد الفيدرالي إلى عام 1933م وأول من فكر في هذا المشروع هو السير سيتورات سياسي وكان حينذاك المقيم السياسي بعدن (12).تقدم حاكم عدن بمشروع الاتحاد بتاريخ 7 يناير 1954م إلى مشايخ وسلاطين المحميات وقدم لهم الدستور المعدل والذي يتألف من أثني عشر بابا و 96 مادة وقد تكون الاتحاد من الإمارات الست الآتية:إمارة بيحان، إمارة الضالع، السلطنة الفضلية، السلطنة العوذلية، سلطنة يافع السفلى، وسلطنة العوالق العليا، وعلى مدى الأعوام الأربعة التالية انضمت إلى الاتحاد كل من سلطنة لحج ومشيخة العقارب وسلطنة العوالق السفلى وولاية دثينة وسلطنة الواحدي ، ثم انضمت إليه عدن المستعمرة في يناير 1963م(13) بدأ الاتحاد تحت اسم اتحاد إمارات الجنوب العربي في 11 فبراير 1959م، ثم اتحاد الجنوب العربي عند تعديله وانضمام عدن عام 1963م(14).ز) دستور مؤقت لجمهورية الجنوب العربي: عثرت على هذا الدستور قبل أشهر قليلة، وقبل ذلك، لم أجد أية إشارة إلى هذا الدستور في اية وثيقة رسمية أو أية دراسة، أو بحث، وذلك له تبريره ، فالدستور بحسب التاريخ أي تاريخ صدوره صدر في 1 يوليو 1967م قبل الاستقلال بأشهر، ولم يتسن ربما لمعديه نشره، بوصفه مشروعاً لتطوير الاتحاد إلى جمهورية(15) ، إضافة إلى ذلك حددت المادة (137) منه على أنه: (سيظل المجلس الاتحادي المؤسس بموجب الباب الرابع من دستور اتحاد الجنوب العربي قائما في اليوم المحدد وبعده ولن يحل قبل اليوم الأول من شهر يناير عام 1968م ويعني اليوم المحدد- ربما - يوم تسليم بريطانيا السلطة للجمهورية أي جمهورية الجنوب العربي. غير أن مسار التاريخ صار بطريقة مغايرة لما رسمته بريطانيا وحلفاؤها ويتكون الدستور من 151 مادة وثلاثة جداول ملحقة.[c1]دساتير بعد الثورة في الشطر الشمالي:[/c]بعد انتصار ثورة 26 سبتمبر انتهى الحكم المطلق، وبدأ العهد الجمهوري بإصدار مجموعة من الوثائق الدستورية تمثلت في الآتي(16):الإعلان الدستوري الصادر في 1962/10/30م .الدستوري المؤقت الصادر في 963/3/114م .الإعلان الدستوري الصادر في 1964/1/6م.الدستور الدائم الصادر في 1964/4/26م.الدستور المؤقت الصادر في 1965/5/18م.الدستور المؤقت الصادر في 1967/11/25م.القرار الدستوري رقم (1) لسنة 1968م.القرار الدستوري رقم (2) لسنة 1968م.القرار الدستوري رقم (1) لسنة 1969م.القرار الدستوري رقم (2) لسنة 1969م.القرار الدستوري رقم (3) لسنة 1969م.القرار الدستوري رقم (1) لسنة 1970م.الدستور الدائم الصادر 1970/9/26م.بيان مجلس القيادة رقم (4) لسنة 1974م بتجميد مجلس الشورى وتعليق الدستور الدائم .الإعلان الدستوري الصادر في 1974/6/19م.الإعلان الدستوري الصادر في 1974/10/22م.الإعلان الدستوري الصادر في 1975/10/22م.الإعلان الدستوري الصادر في 1978/2/6م.الإعلان الدستوري الصادر في 1978/4/14م.الإعلان الدستوري الصادر في 1978/4/22م.البيان السياسي بتشكيل مجلس رئاسة بتاريخ 1978/6/24م.الإعلان الدستوري الصادر في 1979/4/8م.تعديل المادة (73) من الدستور الدائم تقضي بجعل رئاسة الدولة في رئيس الدولة بدلاً عن المجلس الجمهوري بتاريخ 1988/7/14م.[c1]دساتير بعد الاستقلال في الشطر الجنوبي:[/c]قرار القيادة العامة للجبهة القومية رقم (1) الصادر في 1967/11/30م.دستور جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الصادر في 30 نوفمبر 1970م.دستور جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الصادر في 1978/10/31م.[c1]دستور الجمهورية اليمنية:[/c]بعد تحقيق الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990م بدأ تاريخ جديد ليس بالنسبة لليمن بل والمنطقة العربية عموما، كون الوحدة اليمنية بقدر ما كانت حاجة أساسية لتوطيد دعائم الاستقلال السياسي وبناء اقتصاد وطني مستقل فقد كانت ضرورة قومية(17).وقد صدر دستور الدولة الجديدة عن طريق الاستفتاء الشعبي وذلك في 15، 16 مايو 1991م وقد قام مجلس النواب بتعديل الدستور في 29 سبتمبر 1994م حيث شمل التعديل 52 مادة كما تم إضافة 29 مادة وشطبت مادة واحدة(18).كما تم التعديل الثاني في 15 ابريل 2001م.وفي 24 سبتمبر 2004م قدم رئيس الجمهورية مبادرة لإجراء تعديلات دستورية ، تهدف إلى تطوير النظام السياسي الديمقراطي والانتقال على نظام الحكم المحلي وتتمثل هذه المبادرة في النقاط الآتية(19):النظام السياسي للحكم يكون رئاسياً كاملاً.مدة رئاسة الجمهورية خمس سنوات.تتكون السلطة التشريعية من غرفتين هما: مجلس النواب ، ومجلس الشورى .انتخاب مجلس النواب كل اربع سنوات.انتخاب مجلس الشورى كل اربع سنوات.يستبدل مسمى السلطة المحلية، ويعدل الحكم المحلي، ويكون رئيس الحكم المحلي منتخباً من هيئة الناخبين وفقا للقانون، ويكون لمجلس الحكم المحلي صلاحيات يحددها القانون، ويصدر قرار من رئيس الجمهورية لتسمية رؤسائها المنتخبين، وينعكس ذلك الوضع على المديريات، ووفقا لما يحدده القانون.تنشأ شرطة محلية في المحافظات، ويكون هناك أمن عام مركزي يمثل كافة المحافظات مثله مثل الجيش الذي يكون سيادياً، ويمثل الوطن كله، وينظم ذلك القانون.الضرائب والموارد المحلية تكون من اختصاص المجالس المحلية التي تقوم بتخصصها في تنفيذ المشاريع وتسيير الأعمال في الإطار المحلي ووفقا للقانون واتجاهات الخطط العامة، ويحدد القانون ما يعد ضرائب سيادية مركزية، وكذلك الواردات والثروات النفطية والمعدنية والغازية وغيرها من الثروات.تشكل اللجنة العليا للانتخابات بناء على ترشيح مجلس القضاء الأعلى لـ(14) شخصا من ذوي الكفاءة والنزاهة، ويتم اختيار سبعة منهم من رئيس الجمهورية ويصدر بهم قرار من قبله، وتكون اللجنة في ممارستها لمهامها محايدة ومستقله وفقا للدستور .يتم تخصيص نسبة 15 % للمرأة في الانتخابات لعضوية مجلس النواب، وينص على ذلك في قانون الانتخابات.[c1]المبحث الثانيالأحوال والأوضاع التي صدرت خلالها الدساتير اليمنية[/c]تختلف أساليب نشأة الدساتير باختلاف الظروف والأوضاع المحيطة بهذه النشأة، وذلك لأن كل دستور يعد وليد الظروف الموضوعية التي أحاطت به، سواء بالنسبة لنشأته أو مضمونه.وتعود هذه الظروف الموضوعية إلى نظام الحكم الذي يتم وضع الدستور في ظله من ناحية ولمدى التطورات الحضارية السياسة التي وصل إليها شعب الدولة التي يوضع فيها الدستور من ناحية أخرى(20).واتفق الفقه الدستوري على تصنيف أساليب نشأة الدساتير إلى نوعين رئيسيين هما:أساليب غير ديمقراطية.أساليب ديمقراطية.ومرجع هذا التقسيم إلى كون النوع الأول يعبر عن غلبة إرادة الحاكم على إرادة الشعوب المحكومة، أو على الأقل اشتراك الإرادتين في وضع الدستور، في حين يترجم النوع الثاني تفوق الإرادة الشعبية وسيادتها على إرادة الحاكم.يضاف لذلك الصراع الاجتماعي بين القوى السياسية وعدم التمييز بين الدولة والحكومة بل عدم حل مشكلة السلطة وبناء الدولة القانونية بوصفها أرقى أشكال التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، بسبب مقاومة القوى التقليدية .. إلخ.[c1]نشأة الدساتير اليمنية:[/c]تشير التجربة الدستورية اليمنية إلى أن الوثائق الدستورية التي صدرت سواء قبل ميلاد الدولة اليمنية الحديثة أو بعد ذلك ، صدرت بأسلوب غير ديمقراطي أي أن الحاكم كان هو الذي يصدرها باستثناء دستور 1970 في الجنوب الذي خضع لمناقشات شعبية قبل إصداره اشتركت فيها كافة فئات وقطاعات المجتمع من مثقفين ونقابات وشباب.. إلخ .[c1]عدم التمييز بين الدولة والحكومة:[/c]كشفت العديد من التجارب، ومنها التجربة اليمنية، الحاجة الماسة للتمييز بين الدولة والحكومة بحيث لا تصبح الدولة أداة طيعة للحزب أو المجموعة التي بيدها السلطة، ففي العديد من الأنظمة الشمولية صار القضاء وأجهزة الأمن وأجهزة الإدارة والسلك الدبلوماسي وغيرها من مؤسسات الدولة أدوات لإرادة الطغمة الحاكمة وفي مثل هذه الظروف يصبح المواطنون بين شقي رحى، أحدهما الحزب الحاكم والآخر الدولة ، ولا إمكانية لمعارضة سياسية خارج نطاق سلطاتها، ولذلك يجب التمييز بين مؤسسات الدولة مثل القضاء وأجهزة الأمن والعلاقات الخارجية ، وهي مواقع استمرارية سيادة الشعب، والحكومة القائمة في أي وقت كنتيجة للصراعات السياسية المحدودة، يجب أن تؤمن بتداول السلطة سلمياً(21).ودون شك ، فإن الفشل في التمييز بين الدولة والسياسة يؤدي إلى تقويض دعائم السلام والاستقرار السياسي والتنمية للمجتمع بأسره.