الكاتبة هيلاري مانتيل تفوز بجائزة بوكر للمرة الثانية
كتب/ كرم نعمةقبل عامين اكتشفت هذه المرأة سعادة (بوكر) بطريقة جعلتها تطير، كذلك وصفت (هيلاري مانتيل) الفوز مثل تصادم قطارين، فيما هي تحلق جذلى في الهواء! وبالأمس كانت السيدة التي تداري جسدها المستطيل بسبب المرض الغامض الذي أصابها قد قالت (لا أعلم ماذا أقول... تنتظرون 20 سنة للفوز بجائزة بوكر فتأتيكم جائزتان دفعة واحدة).واعتبرت أن منحها هذه الجائزة نابع عن (إيمان وثقة) بها، قائلة (أعلم كم أنا محظوظة لأنني أقف هنا الليلة. والآن علي أن أفعل أمرا صعبا جداً، علي أن أذهب وأكتب الجزء الثالث من السلسلة. وأؤكد لكم أنني لا أتوقع أن أقف هنا مجدداً).بين بوكر ونوبل.. لا مجال للتزييفالجوائز الأدبية الجدية نادرة. جائزة بوكر الانكليزية واحدة منها. الحكم فيها كتاب ونقاد معروفون والروايات المرشحة لها معروفة. الرواية الفائزة هذا العام (أرفعوا الجثث) لهيلاري مانتيل، بيع منها أكثر من مئة ألف نسخة جديدة. يضاف إلى هذا الرقم النسخ التي بيعت (مستخدمة) ثم النسخ التي أخذت من المكتبات العامة ثم التي استعيرت بين الأصدقاء وبين أعضاء الأسرة الواحدة إلى آخره، إذن كان فريق التحكيم يتعامل مع رواية يعرفها جمهور المثقفين فلا مجال للقرارات السياسية مثلما يحصل في نوبل.التكريم المحلي لا مجال فيه للتزييف. لاحظ أن كمية الكذب والمبالغة قليلة جدا في الصحافة المحلية الصغيرة حينما تنشر إخبارا عن المدينة الصغيرة أو المقاطعة التي تصدر عنها الصحيفة.هناك ملاحظتان في هذا الدرب، الأولى استطراد حول جدية وصدقية التكريم المحلي. لنأخذ مثلاً التكريم الذي حظي به عالمان مصريان: مجدي يعقوب وأحمد زويل، يعقوب، جراح القلب، حصل على لقب (سير) لعمله بالجراحة في بريطانيا، كرمته الملكة، أي المجتمع البريطاني، لجهد محلي داخل بريطانيا. التكريم إذن مرصود ومراقب في المجتمع الذي بذل فيه الجهد.أما زويل فقد نال جائزة اكبر لكنها مجهولة الأسباب إلى حد ما، المصريون لا يعرفون شيئا عن الرجل والنانو تكنولوجي.المهم مانتيل فازت بجائزة عن جهد إبداعي يعرفه وسطها ومجتمعها، فهي بالتالي جائزة مأمونة لا تفسح مجالا للتقول والظنون مثل جائزة نوبل. بالمقدار تكون بنفس جائزة البولتزر الامريكية أكثر صدقا من نوبل.الملاحظة الثانية هي أن الجائزة الأدبية تعني أن الرواية نفسها، حتى آخر فقرة منها، جيدة تتفوق على ما عداها، الجائزة إذن ليست لمانتيل بمقدار ما هي للرواية. هذه الملاحظة، على بساطتها تغيب عن الأذهان. ويصير الناس يقرؤون للروائي على انه فاز بجائزة كبرى فبالتالي فرواياته عظيمة.على كل حال لا شك أن مانتيل ستنتج رواية ثالثة في المسلسل نفسه. فالروايتان الفائزتان حتى الآن ببوكر، (وولف هول- أو ذئب الصالة) و(ارفعو الجثث)، تسردان حياة توماس كرومويل، الرواية التي بين ايدينا تنتهي وكرومويل ما زال حيا ولن يموت، بالإعدام، إلا بعد سنة وشهرين. وهذا يعد برواية كاملة، فالرواية الفائزة مجالها تسعة أشهر من حياته.تعتقد هيلاري ان من فاز بالجائزة هو الملك هنري الثامن، وليس كرومويل السيئ!لم تحاول هيلاري مانتيل رثاء ذاتها في كل ما تكتب، كونها لم تنجب، وتأمل عندما تكتب مذكراتها أن تكون ساخرة أكثر مما هي مغالية.على الكاتب التخلص من الخجل عند الكتابة بالتركيز على فعل الحواس، هكذا ترى (عندما يعمل الدماغ لا يهم أن كان الجسم عاطلاً!)، يمكن للكاتب أن يخطط في ذهنه، لكنه بمجر الجلوس إلى لوحة مفاتيح الكمبيوتر يتلاشى الوقت للتفكير لصالح العمل وحده. ويتساءل في نهاية الأمر (أواه.. ماذا فعلت؟).ولم يحدث غير مرتين في تاريخها أن ينال كاتب أرفع الجوائز الأدبية البريطانية لمرتين، فبعد الأسترالي بيتر كاري في العامين 1988 و2001 والجنوب أفريقي جون ماكسويل كوتزي في العامين 1983 و1999. نزل (الحظ الأدبي) على مانتيل (60 عاماً) في لندن بفضل الجزء الثاني من سلسلتها التاريخية (توماس كرومويل) المعنون (ارفعوا الجثث).وتمنح (بوكر) التي تبلغ قيمتها (80 ألف دولار) أفضل رواية باللغة الانكليزية في الكومونولث وجمهورية ايرلندا.بعد أن رأت الشيطان في الجزء الأول من سلسلتها الروائية في (ذئب الصالة) هاهي تعيد ما يشبه سيرتها في رواية (ارفعوا الجثث) تعود إلى العام 1535 وتستعيد حياة زوجة الملك هنري الثامن الثانية، آن بولين، التي تعجز عن منحه ابنا. لتتتبع المصير الدموي الذي انتهت إليه.وقال رئيس لجنة التحكيم السير بيتر ستوتارد ان (مانتيل تستحق هذا التقدير المزدوج استحقاقاً فريداً). مؤكدا أن أعضاء اللجنة توصلوا إلى اختيارهم (بعد تدقيق مطول ومفصل).وأضاف أن (الرواية الفائزة تعتبر نموذجاً فريداً للنثر الإنكليزي يتجاوز عمل الروائية السابق).وينتظر مانتيل عملا تاريخيا في الكتابة كي تختتم ثلاثيتها برواية تحمل عنوان (المرآة والضوء) لتواصل بها قصة كورمويل حتى إعدامه عام 1540.وتنافس على الجائزة هذه السنة خمسة كتاب هم الشاعر الهندي جيت تهاييل عن كتاب (ناركوبوليس) والكاتب الماليزي تان توان إنغ عن كتاب (ذي غاردن أوف إيفنينغ ميستس) والكتاب البريطانيون أليسون مور عن (ذي لايتهاوس) وديبوراه ليفي عن (سويمينغ هوم) وويل سلف عن كتاب(أمبريلا) الذي اعتبر المنافس الأول لكتاب هيلاري مانتيل.هيلاري مانتيل رأت الشيطان عندما كان عمرها سبع سنوات، نعم رأته كيف يصارع الريح ويتوجه بمحاذاة منزل أسرتها، وترددت عشرين عاما قبل أن تكتب روايتها (ذئب الصالة) لتنال بها المجد الأدبي في منتصف عمرها الافتراضي والأدبي.وصف مظهرها أشبه بامرأة قادمة من تاريخ الألوان والعطر، تجلس مع زوجها الجيولوجي جيرالد، تحتفظ بفرحها للساعات المقبلة.في روايتها الجديدة (ارفعوا الجثث) كالسابقة (ذئب الصالة)، ما يشبه السيرة التاريخية المفعمة بالعذاب والتعذيب والدسائس والاهانات السياسية والدبلوماسية البدائية في حياة السياسي الانكليزي توماس كرومويل.وتصف الرواية كرومويل الذي هرب من أسرته عندما كان عمره 15 عاماً، لكنه في الوقت نفسه لايعرف تاريخ ميلاده، بطريقة استالينية فاسدة كشخص عديم الرحمة، ومناور، وطموح في حياته السياسية العامة كما هو في حياته الخاصة.نتابع وصول كرومويل إلى انكلترا في عمر الأربعين رجل موثوق به، حياته تشكلت من حزمة من الخبرات في فرنسا وايطاليا وهولندا، تسرد هيلاري كل ذلك بطريقة (فلاش باك) هنا وهناك لنتعرف عليه: كان جنديا، وهو تاجر ومحاسب لبنك فلورنسا، تعلم كيف يقدر ثمن اللوحات الايطالية، يتقن العديد من اللغات، ذكي ومقاتل على نحو لاعب سيرك، لكن النهوض الذاتي ليس الدافع الوحيد عند كرومويل. يشمئز من الخرافات التي يواجهها، ويأخذ وجهة نظر مادية بالانغماس في الحياة. يتصرف بعقلية الإقطاعي من النبلاء، في الوقت الذي يسخر فيه من أصله المتواضع.دسائس وألمولدت هيلاري مانتيل في ديربيشير الانكليزية في السادس من تموز/ يوليو عام 1952، ودرست القانون قبل أن تنتقل للعيش مع زوجها في بوتسوانا ثم المملكة العربية السعودية وتحديدا في مدينة جدة، حيث قضت أربع سنوات كتبت فيها تحقيقاً صحفياً مطولا عن الحياة في السعودية ونالت عنه احدى الجوائز المحلية، ثم عادت للعيش في بريطانيا في منتصف عام 1980 من القرن الماضي.نشرت هيلاري روايتها الأولى بعنوان (كل يوم هو عيد الأم) عام 1985.وحصلت على جائزة (وينفرد هولتبي) عام 1989 عن روايتها (فلود)، واختارت صحيفة صنداي اكسبرس روايتها (مكان أكثر أمنا) ككتاب العام 1993، وفي السنة التي تلتها فازت روايتها (تجربة في الحب) بجائزة هوثورندن.وتعود هيلاري بذاكرتها ثلاثين عاماً إلى الوراء عندما كتبت روايتها الأولى (كل يوم هو عيد الأم) عن الثورة الفرنسية وأعيد طبعها عام 1992، وترى أن ثمة مساحة خافتة في ذهنها عن الجوائز، لكن المعالجة المحتدمة والحميمية في آن واحد لحياة كرومويل جعلت هذه المساحة مضاءة جداً.لا تؤمن هيلاري مانتيل بالحكاية التقليدية عن الأميرة التي تتزوج وتسافر إلى البلاد البعيدة، فكل الانكليز مرضى بداء السفر، لكنها عندما سافرت إلى الشرق اتخذت خطوة بالتحرك إلى الأمام على الأقل في ذهنها.لم تعد مانتيل إلى السرد التوراتي الشائع في كتابة أعمالها ولم تود أن تكرر الأفلام الوثائقية والمسرحيات وكتب السير التاريخية، كانت تبحث في تلابيب الشيخوخة كما كانت تحاور الطفولة، انطلاقا من طفولتها التي لا تنقصها الوحشة وسمات العذاب.تعرفت هيلاري على القهر داخل أسرتها منذ أن كان عمرها 11 عاماً عندما أطاح الأب بالأسرة برمتها، ولم تره بعد ذلك أبداً، حيث أخذت اسم عائلة زوج أمها، وعانت بعدها من سوء التشخيص الطبي حول إصابتها بمرض في الرحم (كانت مريضة وغير مريضة في وقت واحد، أي تعذيب هذا؟).ثم تزوجت جيرالد الجيولوجي الذي اصطحبها إلى بوتسوانا ثم إلى جدة في المملكة العربية السعودية.عندما عادت إلى انكلترا من السعودية منتصف عام 1980 كان عليها أن تعرف حقيقة مرضها، وهو ما دفع الأطباء إلى اعتبارها امرأة متعجرفة لا تثق بتشخيصهم، لكنها لم تكن تدرك طبيعة مرضها هل ثمة ورم في الرحم، وهل ينمو خارجه، هل ستنجب أم لا؟لكن الكتابة كانت حافزا للاستمرار في الحياة (سر المثابرة، كما تقول، هو الاحتفاظ بدفتر ملاحظات في السرير).أول شيء تفعله هيلاري مانتيل عندما تستيقظ هو الكتابة، لكنها أحيانا تبقى أياماً من دون أن تكتب، حالتها الصحية السيئة جعلت منها كاتبة، كانت تقاوم المرض بالخيال. لكنها تجيب عن سؤال يتبادر إلى الذهن قبل أن يطلق عليها (بالطبع أفضل صحتي على الكتابة).تفاقمت الأسئلة لدى هيلاري مانتيل عن علاقة الإسلام بالغرب عندما قضت سنوات في مدينة جدة السعودية مع زوجها الجيولوجي جيرالد، كان الإحباط لديها يتصاعد مع تطور الأحداث السياسية آنذاك، وكانت تتساءل مع نفسها (من أنا؟). أما الكتاب فكان الضحية في كل هذه الأحداث، كانت تفكر بقلق عما إذا كانت قادرة أن تكتب شيئاً عن السياسة من دون أن تكال إليها الاتهامات.كتبت عن تجربتها في مدينة جدة رواية (ثمانية أشهر في شارع الغازية) عام 1988، ثم (اتجاه الريح في جدة) وأصدرت (فلود) 1989، (مكان أكثر آمناً) 1992، (مناخ متغير) 1994، (تجربة في الحب)، 1995، ( العملاق اوبراين) 1998، (الكتابة المنزلية في أوروبا) 2002، (التخلي عن الشبح) 2003، (تعلم الكلام) قصص قصيرة 2003، (بيوند بلاك) 2005.تعالج موضوع الأصولية الإسلامية في رواية (ثمانية أشهر في شارع الغازية) مستثمرة إقامتها بمدينة جدة.يبدو أن إيحاء الحرب في العراق يثير التساؤلات غير المباشرة في روي هيلاري مانتيل، لكنها لا تود الحديث مباشرة عن العراق، وتكتفي بالتساؤل عما إذا كان احتلال هذا البلد نوعاً من الغزو التبشيري المسلح؟!هيلاري أحد الروائيين الذين استثمروا غياب الأب الفعلي عن حياتهم في الكتابة، لتثير دلالة الهوية في حياة الإنسان، وكيف جاء المرض أشبه بنتيجة عن غياب الأب، كانت في بعض الأحيان لا تعرف نفسها بسبب تعاطي العقاقير منذ أن كان عمرها 19 عاماً.في سنوات دراستها كانت هيلاري غالباً ما تغيب عن المدرسة بسبب المرض، الأمر الذي سبب لها نوعا من الصمت استثمرته لاحقا في الكتابة عندما تحول (البكم) إلى كلام على الورق.مرضت هيلاري مانتيل في غدتها الدرقية وزاد وزنها أكثر مما ينبغي الأمر الذي جعلها تفقد ملابسها خلال أسبوع واحد! لكنها لم تفقد الأمل في حياتها، وأصبح جسدها كما تصفه أشبه بقطعة أثاث من الدهون (الكاثوليك يرون أن الأسرار المقدسة تأتي من الخارج لتكون نعمة في الداخل).تنظر إلى جسدها مثل كتاب فكاهي وتضحك، وهي عازمة على رواية ذلك في قصة عن الجسد وتفضلها على كتابة المذكرات.تقول (سواء كنت كاتبة رواية أم مذكرات، وصلت إلى فهم معين في النهاية، أنني ألقي بعض الضوء على خلفيتي وما زال هناك الكثير الذي لا يوصف).