قصة قصيرة
نهلة الشقرانكان لزاما علي أن أكبر، ليس بيدي وربي هو قدر كل إنسان، ابن الجوع والفقد الذي غادرك يا الحبيبة سيكبر بلا دفء.. وجهك الغائب أمس ما تركني، زرعته بين يدي وسقيته أنفاسي كل صباح، أخبرته بحلمي أنني سأكبر، ضحك مني كل من رآني أحادث كفتي وأنت وحدك من علمني الصبر..رغيف خبز وزيت ومدفأة ذاكرتي هنا في هذه الوجوه القديمة، كانت أفواهنا مفتوحة رغما عنا..لا ندخر ولا نبالي بمساء بلا رغيف.. وكنا نضحك بعيون دامعة، ونسمي الجوع زهدا، والنوم ليلا بلا قفل وسرير تواضعاً، وتذوق أصناف الطعام العديدة بدعة، وشراء ملابس جديدة حراماً...ما ظل قلب فيّ...ليالي الشتاء طويلة وموجعة، تصيبني رجفة برد ليلية أعجز عن إخمادها، وعرفت حلها بيد أني لا أقوى عليه، مدفأة في كل ليلة أمر يصعب علينا في بيت مسقوف بالزينكو ومفروش بحصيرة مهترئة، أغالب الألم والبرد بتحريك قدمي ذهاباً وجيئة كمن يمارس رياضة ليلية، أسفل غطائي إلى أن تغفو عيناي..حلمت بمعطف، سنوات مرت من عمري وما زال معطف ابن الجيران يراودني كل ليلة، أشتمه....أمرر يدي على فروه الرمادي...أرفع الياقة العالية له، وترتمي خصلة من غرتي على طرفها، أبتسم في وجوه المارة وهم يرون وسامتي، وترمقني نظرات الفتيات بإعجاب أعهده دوما ولا أبالي، فلي معطف ولا أريد سواه..تعلمنا أن نفرك يدينا كل صباح، ننفث فيهما...نقرص خدودنا..نقفز..نغني بصوت عال..ونخرج غير آبهين بريح قوية تلفعنا..بت علماً معروفاً بين أصدقائي بالمدرسة، ليس لأني أكثرهم اجتهادا، ولا لأني أفضلهم أخلاقا، بل لأنني صاحب القميص الأزرق الواسع، والبنطال الأسود الذي يزيد عن خصري بنمرتين منذ اشتريته قبل سنة واضطر كل يوم لليه قبل وضع الحزام عليه، لم أكن أعرف حينها أنه سيرافقني ثلاث سنوات حين قلت لأمي أنه كبير جداً..ما ظلّ قلب فيّ..يقولون اليوم إنني كبرت يا من سكنت الروح والفؤاد منذ الشهيق الأول بعد الألف من موت جسدي البارد، كنت أقيس طولي بطبشور المدرسة كلما سقط فتاته أمام ناظري، وألصق يدي بعتبة الباب لأمرر جسمي بين دفتيه كي أطول أكثر، وأكبر.وعندما اعتلت قامتي عرفت إنه كان لزاما عليّ أن أكبر رغم أنوفهم جميعاً، ليس حكرا على أصحاب الوجوه الدافئة هذا، وعندما عرفت أنه لا يعنيهم بشيء تيقنت كم كنت غبيا...مآذن السماء تنادي وجعي، وغصن قارب على الاصفرار يتدلى من ياسمينة حينا، وأرى جسداً كبيراً لا يشبهني ولا يرتدي معطفا..صورتك تغفو في حلمي كلّ ليلة، وأشتم عبق إحساس دفين يسكنني، وأغطيك برمشي يا البعيدة النائمة، أستميحك عذرا فلست حالما ماهرا كمن في مثل سني.أغزل لك من ضوء الفجر القصائد، وعندما تغيب الشمس أقطع أذيالها وأدفنها في رمال تيهي، أرسمك في وجه بقايا مرآتي، وأمحوك بلفافة فقد ضائعة، أغمس حروف اسمك بوشاية حب كاذبة، وأضحك بملء فمي من قلب لا يمارس طقوس الحب إلا في صومعة مهاجرة، أقطعني وأقطعك، وأقيس جسدي كم شبر زاد وكم أسى ارتسم فوق ملامحه....يا المطر المهاجر من صحراء روحي...يا الندى المقبل أوراقي الجافة...يا الحبيبة لا تطلبي مني ما لم أحلم به يوما، لست ممن يحلمون إلا بخبز ومدفأة...ولا ممن يتقلبون ليلا أرقاً..ولا ممن يشكون من انتفاخ معداتهم..اعذريني ...ما ظلّ قلب فيّ.