كانت القضية الجنوبية و لا زالت القضية الأهم في خاصرة القضايا الكبرى خلال هذه الحقبة المتسارعة من تاريخ اليمن وهي نفسها القضية التي يتم التعامل معها حاليا بالكثير من التعقيد و التهميش ليس فقط من قبل فرقاء الوحدة أنفسهم في شمال اليمن و لكن أيضًا ضمن إسقاطات ما يحدث في اليمن على الخارج والعكس بالعكس.لذا قد لا يتسرب إلى قائمة الأولويات الإعلامية العربية و العالمية اهتمامٌ لائقٌ ناحية هذه القضية على أهميتها و قد لا يعتد بحديثي هذا الكثيرون ممن استسلموا لافتراضات مجافية للواقع رسمت ملامحها الهيمنة الأمريكية و التأثير السعودي و الخليجي على كل ما يجب أن يطفو على السطح الإخباري العربي و العالمي وكل ما يتم فلترته للرأي العام مؤخراً.مع أن المبادرة الخليجية التي تم التوقيع عليها بين النظام الحاكم متمثلًا في شخص الرئيس السابق علي عبدالله صالح و حزبه المؤتمر وبين أحزاب اللقاء المشترك المعارضة ؛ نصت على أن حل القضية الجنوبية هو أحد أولويات المرحلة إلاّ أنها كانت كمن يصب الزيت فوق النار وهي تنفذ هذا الحل فيما صاغته بـ (يقف الحوار أمام القضية الجنوبية بما يفضي إلى حل وطني عادل لها يحفظ لليمن وحدته واستقراره وأمنه) المقصود بالحوار هنا «الحوار الوطني «المزمع عقده في المرحلة الثانية حسب شروط التنفيذ للمبادرة أما الاقتراح فهو ما أثار حفائظ الجنوبيين و دفعهم إلى مقاطعة الانتخابات التوافقية و التهديد بمقاطعة الحوار الوطني الذي رسمت نهايته مسبقًا بالوحدة و حجبت كل آلياته بل و سلّمت إلى يد طرف أوحد دون الآخر الأمر الذي أعاد إلى الأذهان رحلة التفاوض الفاشلة على حوار مشابه في صيف 94 تحديداً إلى تلك الشروط العنجهية التي فرضها نظام صنعاء على « الأخضر الإبراهيمي « موفد الأمين العام للأمم المتحدة و رئيس لجنة تقصي الحقائق التي تكونت انطلاقًا من قرار مجلس الأمن رقم 924 حول ضرورة وقف إطلاق النار و الجلوس على طاولات الحوار لإنهاء الأزمة آنذاك ووضع حينها نظام صنعاء جملة من شروط ألغت فكرة الحوار و حولته إلى مطلب للاستسلام فيما بدا لاحقًا و كأنه كان محاولة لكسب الوقت و فرض الانتصار العسكري على الأرض و الدخول القسري في مرحلة «وحدة الضم و الإلحاق» المستمرة حتى الآن .. دعوني أذكر لكم من هذه الشروط :- إلغاء قرار الانفصال.- انضمام ما تبقى من مقاتلين تحت قيادة المتمردين إلى القوات المسلحة الشرعية.- تسليم جميع الأسلحة والمعدات العسكرية إلى القوات الشرعية.- يجرى الحوار في صنعاء دون حضور طرف ثالث.في الحقيقة لا يبدو أن الأمر قد يختلف كثيرًا هذه المرة فيما عدا أن هذا الحوار سيتم بحضور طرف ثالث هو نفسه الطرف الذي هندس للمبادرة الخليجية بكل ما فيها من تجاهل واستهتار للقضية الجنوبية كما أن الأطراف التي وقعت على المبادرة و اشترطت بنودها و تراضت عليها بما يضمن لكل طرف مصالحه و موقعه في الخارطة السياسية هي نفسها الأطراف التي تناصب هذه القضية و حاملها (الحراك) العداء منذ 2007 وهي نفسها الأطراف التي ساهمت في تفاقم الاحتجاجات الشعبية الجنوبية جراء ما كانت تمارسه من سياسات مجحفة في حق الجنوب ( لا يتسع المجال هنا لفرز عدد الأراضي الجنوبية التي تم نهبها من قبل مشايخ بيت الأحمر و عائلة الرئيس و أقاربهم و لا لذكر الصفقات المشبوهة التي تم فيها تسليم ميناء عدن إلى موانئ دبي لصالح نجل الرئيس و لا لتعداد عدد المصانع و المؤسسات الحكومية التي تم غلقها في عدن خاصة و الجنوب عامة و لا لكم البنية التحتية للدولة الشريكة في الوحدة التي تم تدميرها و لا حتى للتنظير حول سياسة المركزية الخانقة التي تدار بها مصالح المحافظات الجنوبية ضمن دولة الوحدة الحالية ) لكنها إشارات مهمة لمدى الصعوبات والإحباطات التي قد يواجهها حاملو هذه القضية في محفل «الحوار الوطني» الوشيك ..لا أريد أن أستبق الأحداث وأبدو متشائمة لكني أكاد أجزم أن هذا الحوار لا يبدو أنه سيفضي إلى أية نتائج حاسمة فيما يخص القضية الجنوبية بالتحديد، ذلك أن أقطاب الحراك الجنوبي - المعول عليه تمثيل القضية - تتحفّز لأحد حلّين يشطران الحراك نفسه إلى فصيلين كبيرين أحدهما مطالبه تتجه نحو فك الارتباط ( أو الانفصال ) و آخر ينحو نحو الفيدرالية المشروطة بخمس سنوات ليتم بعدها استفتاء الجنوبيين في حق تقرير المصير هذا في أحسن الأحوال .كلا الخيارين لا يناسبان مراكز القوى التي تتحكم في الصورة العامة للشأن اليمني الآن القوى التي تضغط و بكل طاقتها لتمرير الحوار الوطني- أو ما اصطلح على تسميته - و الخروج بنتائجه مفصلة حسب الطلب لذا قد تستعين في سبيل ذلك بأطراف جنوبية لا تمثل الحراك الجنوبي و لا القضية ليتم بعدها غلق هذا الملف في وجه قراري الأمم المتحدة رقمي 924 و 931 اللذين أشارا بوضوح إلى إنه «لا يمكن فرض الوحدة بالقوة و أن الحوار بين الطرفين يجب أن لا يكون مشروطًا» ويتم تحويل مسار هذا الحراك الشعبي السلمي بفعل الديكتاتورية القبلية القادمة من الشمال إلى حركة تمردية لا شرعية لها والسعي للتعامل معها دوليا وفق هذا البند .. يتعزز هذا الافتراض يوما بعد يوم مع انفجار حنفية التصريحات التي يرشها ممثلو النظام المفاوض في صنعاء في وسائل الإعلام المختلفة لعل أهمها و آخرها ما صرح به حميد الأحمر- و هو الأمين العام للجنة التحضيرية للحوار الوطني و القيادي البارز في أحزاب اللقاء المشترك - عن أنه لا يحق للجنوبيين الاستفتاء على حق تقرير المصير ليجيء بعده صادق الأحمر - شيخ مشايخ اليمن - ويلغي فكرة الفيدرالية و الكونفيدرالية من الأحقية الجنوبية لأنه لم يسمع بهذه المصطلحات قبلاً و لأنه يعتبرها غريبة و يعتبر أنه من الأفضل البقاء على النظام المركزي الحالي.إذن ما هو نوع التفاوض الذي سيتم بين قطبين يقفان عند طرفي نقيض، لنقل ما هو نوع السلام الذي سيقدمه هذا النظام الديكتاتوري الهجين ؟يقول جين شارب في كتابه الأشهر «من الديكتاتورية إلى الديمقراطية»: المقاومة لا المفاوضات هي الضرورية للتغيير في الحالات التي تكون فيها القضايا الأساسية على المحك إذا قرر الحكام الديكتاتوريون و الحركات الديمقراطية أن يتفاوضوا فسيكون هناك حاجة كبيرة للتفكير بوضوح بسبب المخاطر الكبيرة الكامنة وراء عملية التفاوض فليس كل من يستخدم كلمة سلام يريد السلام العادل الحر السلام الذي يقدمه الحكام الديكتاتوريون لا يعني أكثر من سلام السجون أو القبور !»لعلها القبور التي لا تتردد القوى الحاكمة في الشمال أن تحفرها و هي تفتح الجنوب ليكون جبهة استباحة لما يسمى (أنصار الشريعة) أو (القاعدة) التي تسيطر الآن على أبين الجنوبية و تسميها « إمارة وقار» و على شبوة التي تحولت هي الأخرى إلى إمارة إسلامية تحت سيطرة (القاعدة) (إمارة عزان) و عدن التي لا تبدو أنها بمأمن خاصة بعد الهجوم على معسكر نصر والهجوم الانتحاري في المنصورة في وسط عدن قبل يومين الذي قالت القاعدة أنها تتبناه، هذا النقل السريع لجبهات الصراع إلى الجنوب يثير الكثير من التساؤلات حول أفضلية الدمار و الخراب بالنسبة للقوى الحاكمة في الشمال على المخاوف من الانفصال لماذا كل هذا الهلع من الانفصال الذي يتجاوز المتفيدين من الوحدة ليكون بمثابة بيت للطاعة في العقلية الشمالية عند كل مستوياتها ؟لماذا كل هذا التعلّق بالوحدة التي لم تعد حلمًا قوميا و لا تحمل أي معنى أخلاقيا و هي تتم بالإكراه و الإرغام و بشعارات (الوحدة المعمدة بالدم) ؟سأحاول فيما يلي أن أسبر أغوار هذا الحب الذي يظهر و كأنه من طرف واحد و أضع تنظيرات قد تساعد على فهم إشكالية الوحدة ومخاوف الانفصال و انعكاسها على نتائج الحوار الوطني:[c1]أولاً : ثروة الجنوب :[/c]« إن انفصل الجنوب ستأكلون من الجبال» كانت هذه العبارة التي أطلقها نائب وزير إعلام النظام السابق «عبده الجندي» لثوار الساحات في الشمال في مؤتمر صحفي عقده خلال الثورة يحذرهم فيه من مهلكة الانفصال في مقابل حمى صالح الذي ظل ينكّل بالجنوبيين طوال سنوات وسط مباركات شمالية واسعة لهذا القمع لذا يكفي أن نعرف أن 80 بالمائة من ثروات اليمن تأتي من الجنوب لندرك ما رمى إليه السيد الجندي، حقول النفط جنوبية، حقول الغاز جنوبية ثروة سمكية هائلة جنوبية، ميناء عالمي و غيره الكثير هذه الأموال المنهوبة ساهمت في صناعة «كريمة» مجتمعية باذخة في الشمال معظمها تشارك في اللعبة السياسية اليوم وبعضها يدعمها بالمواقف و الإعلام و الدبلوماسية الدولية من وراء الستار لكني أشير في هذا المعرض إلى أن المطلب الجنوبي للانفصال ليس مطلبا حقوقيا في الأصل و إلاّ لما دخل الجنوبيون في هذه الوحدة من الأساس و تخلوا و هم أهل الثروة عن العاصمة و العملة و الرئيس هي قضية سياسية وقودها شراكة فاشلة والمظالم الاقتصادية أكبر جوانحها وهي بالتالي أكبر مسببات هذه الـ «انفصالوفوبيا»..[c1]ثانيا : دور الأحزاب الإسلامية[/c]كتب الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر مؤسس حزب التجمع اليمني للإصلاح أكبر أحزاب اللقاء المشترك في مذكراته التي صدرت عام 2007: « قال لي الرئيس : إن الاتفاقية تمت بيني وبين الحزب الاشتراكي وهم يمثلون الحزب الاشتراكي والدولة التي كانت في الجنوب، وأنا أمثل المؤتمر الشعبي والدولة التي في الشمال، وبيننا اتفاقيات لا أستطيع أن أتململ منها، وفي ظل وجودكم كتنظيم قوي سوف ننسق معكم بحيث تتبنون مواقف معارضة ضد بعض النقاط أو الأمور التي اتفقنا عليها مع الحزب الاشتراكي وهي غير صائبة ونعرقل تنفيذها، وعلي هذا الأساس أنشأنا حزب التجمع اليمني للإصلاح « انتهى قول الشيخ الأحمر.الإصلاح الذي كان رديف المؤتمر في الانقضاض على اتفاقيات الوحدة المغدورة ( قبل أن ينضم هذا الحزب بشخصياته و نفوذه للثورة و يطالب بإسقاط النظام الذي كان هو أحد أهم أركانه) كان يسميه « اليدومي» القيادي البارز فيه «حزب الرئيس وقت الشدائد» بالتأكيد هو يقصد بهذه الشدائد «الحرب» التي شنها حزبه جنبا إلى جنب مع الرئيس و المؤتمر ضد الجنوب و زودوه فيها بالمقاتلين و السلاح و الدعم الوجائهي و القبلي و الديني فلم يعدم هذا الحزب ذي الطبيعة الإسلامية المتشددة إنتاج الفتاوى الـ «تيك أواي» بوجوب حرب المرتدين عن الوحدة واعتبار الزحف عليهم «زحفًا مقدسا» و اعتبار الجنوبيين «ماركسيين» كفّاراً و دماؤهم حلال وأرضهم غنائم الفتوى التي صدرت عن الشيخين الديلمي و الزنداني و أثارت استياءً واسعًا وقتها في الجنوب و العالم العربي أمن عليها إخواننا في الشمال ليتكرس هذا الزخم فيما بعد بفعل عقلية المنتصر إلى «إنجاز» اسلامي و «فتح» يجب الذود عنه لذا من السهل أن تجد معدما في صنعاء يحدثك عن الوحدة و كأنها عقيدته مع أنه لم يستفد منها في أي شيء في الواقع و مع أن عمرها لا يتجاوز الـ 22 عاما فقط![c1]ثالثًا : دور الإعلام :[/c]يلعب الإعلام اليمني دوراً مفصليا في عملية التشويش على القضية الجنوبية منذ حرب 94 إلى ما بعد الثورة و في أثنائها الآلة الإعلامية ربما تكون الأكثر بطشا و تدليسا من الآلة العسكرية الكثير من الحقائق غابت و غُيبت عن الوعي العام في الشمال فإلى جانب ربط الحراك بالقاعدة و منحه التسمية الجديدة «الحراك القاعدي» هناك تسميات أخرى كـ «الحراك الحوثي» و الحراك الإيراني «الغرض في الحقيقة من هذه التسميات ربط الحراك الجنوبي و مطالبه بالصراعات الأيديولوجية و الخطر الإرهابي المحدق هذا بالإضافة إلى رواسب كثيرة عمل هذا الإعلام على تجميعها في وجدان اليمنيين الشماليين منها « نظرية عودة الفرع إلى الأصل « الترويج لأصحاب القضية على أنهم «القلّة المندسة» و« أصحاب المشاريع الضيقة «نظرية» نكران الجميل» و غيرها من الابتداعات التي عززت من الاعتبارات التي تجعل الوحدة صنيعة شمالية بامتياز و من الشمال الوصي الشرعي على الجنوب و بالتالي فإن هناك دائما ما يبرر هذا القسر «الأبوي» و الرغبة الملحة في استمرار هذه «الحضانة» المزعومة ..[c1]رابعًا : موازين القوى الخارجية :[/c]المراقب للشأن اليمني يستطيع أن يلمح بوضوح أن أمريكا ( صاحبة اليد الطولى في اليمن اليوم ) لا تقف في صف القضية الجنوبية و تقف ضد مشروع الانفصال في حين تدعم إيران هذا المشروع و تسخر له إعلامها .. محاولة معرفة الفعل من رد الفعل في لعبة القط و الفأر «الأمريكوإيرانية » ستكون مرهقة للغاية لكن دعونا نخلص إلى افتراضية أن الجنوب اليمني -إلى ما قبل الوحدة - ظل تابعا للمعسكر الشيوعي و ربما تكون هذه أحد مخاوف الرأسمالية الأمريكية أمريكا الأم قد تفكّر بأنه إذا ما انفصل الجنوب اليمني فإنه سيحن لحليفه القديم و سيكون لروسيا بذلك و معها حليفتها إيران موطئ قدم في المنطقة و لسان حالها يقول « بيدي لا بيد عمرو» لذا تستخدم أمريكا مخاوفها هذه كفزاعة مع دول الخليج تلبسها رداء «المد الشيعي» و الاستعداء الإيراني .. الخلاصة: أيا تكن مصادر هذه المخاوف من المد «الشيوعي الشيعي» فإنها ستترجم على الفور إلى مساع و مواقف لدى السلطة و الأحزاب لتقليص حجمها بل إنها ستكون بمثابة تطمين كبير للتصرف بصلافة تجاه القضية الجنوبية بلا شك أنه سينعكس على مجريات الحوار الوطني القادم..
|
آراء
الحوار الوطني في مواجهة الـ (انفصال فوبيا)
أخبار متعلقة