د. كاظم شمهودكانت بداية نشأة الفن الإسلامي معتمدة على التراث الحضاري للأمم القديمة التي شملها الإسلام كالحضارة الرافدية والفارسية والمصرية والبيزنطية والهندية والصينية . وبالتالي كانت هناك بواعث ودوافع وأرضية خصبة لأحداث تحول وتطور على صعيد التفتح العقلي والنمو الوجداني وقد تمثلت هذه الأرضية بوجود الزقورات وقصور الآشوريين وطاق كسرى والقصور الساسانية التي كانت تعج بمحاسن الرسوم وجمال العمارة وهناك الأهرامات والكنائس البيزنطية المنتشرة في الجزيرة العربية التي كانت مزينة بأنواع الرسوم والمنحوتات الدينية. وكذلك المعابد الهندية والمخطوطات المزينة بأنواع الرسوم مثل مخطوطات ماني التي ظهرت في القرن الثالث الميلادي .. ثم وفد عدد من المصورين المانيين إلى العراق في القرن الثالث الهجري للعمل في تزويق المخطوطات. وكان ماني مصلحاً اجتماعياً ومصوراً ماهراً من الطراز الأول. ويذكر بأن مصطلح منمنمات جاء من اسم ماني..وكانت صناعة الخزف والتزجيج أول ماظهرت في وادي الرافدين حيث الألوان الساحرة المتلألئة التي نشاهدها تزين باب عشتار والقصور الآشورية وبنغمة أسطورية حضارية جميلة. كما كانت مادة الفسيفيساء مستخدمة بكثرة خاصة في جداريات الكنائس الشرقية وهو ما استفاد منه الفنانون المسلمون في تزيين مساجدهم مثل قبة الصخرة . غير أن الفنانين المسلمين استطاعوا بعد ذلك من أن يبتدعوا سواء في فنونهم المعمارية أو الزخرفية والتشكيلية ذلك الطابع المميز النابع من وجدانهم العقائدي . وقد شارك في انبعاث هذا الفن وازدهاره خلال مسيرته الكبرى التي استمرت أكثر من عشرة قرون عدد كبير من كبار الفنانين المسلمين منهم : 1 - ابن الرازي الجزري ( 1206 م ) مصور كتاب الحيل الميكانيكية .2 - عبد الله بن الفضل ( 1222 م) مصور كتاب خواص العقاقير .3 - علي بن حسن بن هبة الله ( 1209 م ) مصور كتاب البيطرة .4 - يحيى بن محمود الواسطي ( 1227 م ) مصور كتاب مقامات الحريري وصاحب مدرسة بغداد . 5 - كمال الدين بهزاد - الذي اشتهر في أواخر القرن الخامس عشر (1450 م) حيث يعتبره بعض النقاد من أعظم الفنانين المسلمين . وهو مزوق كتاب ( البستان) للشاعر سعدي وبعض من كتاب ( المنظومات الخمس) للشاعر نظامي . وشارك في تزويق الشهنامة للفردوسي . ويعتبر بهزاد مؤسس المدرسة الصفوية للفن .6 - رضا عباس 1635-1565 الذي برز واشتهر في النصف الثاني من القرن السادس عشر ويعتبر رائد المدرسة الأصفهانية في زمن الأسرة الصفوية . 7 - عبد الجبار بن علي -الذي ظهر توقيعه على المخطوطات التي ترجع إلى عام 1229 م لديوسقوريدس والتي أنجزت في سوريا.8 - ابن عزيز العراقي و قصير المصري- في أواسط القرن الحادي عشر- وقد اشترك الاثنان في مسابقة للرسم أمام الوزير الفاطمي اليازودي الذي كان مولعا بجمع الصور . والقصة مشهورة ينقلها معظم المؤرخين العرب .9 - احمد الخراط البصري وهو من أقدم المصورين المسلمين حيث ظهر في النصف الأخير من القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي - وقد اشتهر برسم الأشخاص وكذلك رسم الكاريكاتير. وقد أورد المؤرخ المقريزي مئات الفنانين من المسلمين في كتابه (ضوء النبراس وانس الجلاس في أخبار المزوقين من الناس) ولكن هذا المخطوط قد اختفى مع الأسف مثله مثل آلاف المخطوطات العربية والإسلامية التي نهبها المستعمرون الأجانب وكما حدث ويحدث للعراق اليوم عندما دخلته القوت الأجنبية حيث نهبت معظم تراثه العظيم ونقلته إلى الخارج . وقد دخل الفن الإسلامي جميع مرافق الحياة . و نشط بعد حركة الترجمة والتأليف . حيث كانت المخطوطات تزين بالزخارف والخطوط والصور التوضيحية ، كما نشط بعد النهضة العمرانية كبناء القصور والمنازل والمساجد والقباب و المآذن و زخرفتها بالنقوش العربية. كذلك زينت الأواني والملابس حتى وصلت الزخرفة إلى قباقيب الحمامات . لقد انفرد الفن الإسلامي من بين فنون العالم بالخط الزخرفي الذي استعمل في أوسع نطاق وفي جميع المنتجات الفنية . فقد حل الخط العربي بجماليته و معانيه الروحية محل الصور التي نراها في الكنائس . فأدرك الفنانون المسلمون الأوائل أهمية هذا الخط فجعلوا منه عنصرا تشكيليا طيعا في الزخرفة . فأبدعوا في تشكيلاته وتنويعاته وجعلوا نهاياته أحياناً تنتهي بالأزهار أو الأوراق .وكان القرآن الكريم هو الميدان الأول الذي اهتم به الخطاطون ،حيث ذهبوا و زخرفوا عناوين السور و وضعوها داخل إطارات مزخرفة بأنواع الزخارف النباتية والهندسية . كما انفردت العمارة الإسلامية بطابعها المميز الذي لا نظير له في الحضارات الأخرى، وكان المسجد الميدان الثاني بعد القرآن الذي نال اهتمام المهندسين والفنانين حيث فاضت فيه إبداعاتهم و عبقرياتهم فأصبح المسجد بمثابة المتحف الذي يرى الزائر من خلاله جمال وروح الفن الإسلامي. وقد أبدع هؤلاء الفنانون في جعل المساجد تتجه إلى السماء في قبابها الزرقاء ومنائرها العالية وكأنها في صلاة دائمة .فجاءت أشكال المباني الدينية راسية ضخمة عالية . وقد ظهر ذلك واضحاً في أعمال المهندس التركي سنان الذي صمم جامع السليمانية سنة 1550 وجامع السلطان سليم . وتمتاز هذه المساجد بقبابها المتعددة و منائرها العالية المضلعة والممشوقة والتي تنتهي بمخروط أما في الأندلس فقد وصلت العمارة الإسلامية إلى مستوى رفيع من المعرفة وذلك لان الأندلس أصبحت مركزاً تنتهي عنده الحضارة الإسلامية . وقام عبد الرحمن الناصر ببناء مدينة الزهراء حيث كانت مبانيها أفخر ما عرفه ذلك العصر. كذلك ما عمله بنو نصر من عمارة قصر الحمراء الذي يعد آية في الجمال والرونق . أما مسجد قرطبة الذي بناه عبد الرحمن الداخل سنة 784 فقد ذكر بان العمل استغرق فيه قرنين من الزمان . فهو اكبر اثر تركه العرب في اسبانيا يحكي قصة أمجاد وعظمة الهندسة المعمارية الإسلامية إلى اليوم . ورغم ذهاب أكثر من أربعة عشر قرنا على نشأة الفن الإسلامي إلا أنه لم يتغير بتغير العصور والأنظمة فقد ذهب الخلفاء والسلاطين والحكام واحترقت مدنهم الخيالية التي بنوها.. ولكن الفن الإسلامي بقى حياً لايهتز أنيقاً يزين المساجد والمصاحف والسجاجيد والأواني وغيرها . إن سر هذه الديمومة هو أن الفن الإسلامي يتجاوز الأفكار الوضعية والأشكال الظاهرية وانه لم ينحاز إلى عصبة أو حزب أو قوم ...... فبقاؤه قائم مع وجود المساجد وأماكن العبادة مدى الحياة .. لقد ولد الفن الإسلامي في المسجد ورغم أن وظيفة المسجد هي العبادة إلا انه يبقى المكان الذي تتجلى فيه معاني وروح الفن الإسلامي وفلسفته المحكمة . وهذا يدلنا على العلاقة الوثيقة بين العقيدة والفن وإن هذه العلاقة تسري كالدم في عروق الفن الإسلامي . فنجد هذا الفن يزين المصحف الكريم والسجاجيد وآواني الوضوء والمنابر والقباب والمصابيح التي تتدلى من سقوف المساجد وغيرها . غير أن هذا التلاحم والترابط لا يفسر بأن الفن الإسلامي عامل مساعد في شرح تعاليم الدين كما هو عند الأديان الأخرى . وإنما دوره هنا يشير إلى فلسفة الفن الجمالية النابعة من قوله تعالى: (يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) .لهذا نرى أن القرآن يؤكد تمتع الإنسان بمظاهر الزينة والجمال وان إحساس الإنسان بالجمال واندفاعه نحوه إنما هو شعور فطري ينبع من إحساس النفس و توجهها الفطري نحو الكمال و هذا الاندفاع لا يقف عند الإحساس المادي والصور الظاهرة وإنما يتعدى ذلك إلى الغور في العمق ليوقظ في النفس الإشراق الروحي والإحساس الوجداني ورفعها من ركودها المادي إلى عالمها العلوي وتوجهها الأخلاقي . فعندما يمارس الإنسان المظاهر الجمالية من أناقة وملبس وزينة وغيرها وعندما تنعكس هذه الأمور على ذاته الباطنية وتتفاعل معها لتكون بالتالي صورة حية للحس والذوق الجميل فيصبح سلوكا ومواقف إنسانية تبتعد عن الممارسات الشريرة والقبيحة .( إن الله جميل يحب الجمال ).[c1]فن الأنا[/c]الملاحظ في الفن الإسلامي إن فن الأنا غير موجودة (على العموم) بل تختفي الصفات الخاصة بالصفات العامة للفن بينما نرى الفن الأوروبي خاصة الفن الحديث انه فن فنانين . فالمتأمل في أعمال دافنشي أو رمبرانت أو بيكاسو وغيرهم ، يجد أن كل واحد منهم له خصوصية ومعالجة ينفرد بها عن غيره من الفنانين... ولهذا فمن السهل معرفة أعمال بيكاسو و دالي و فان جوخ أو غيرهم.وكانت المدرسة التكعيبية هي أول من نادى بالبحث عن هوية وخصوصية الفنان في العمل الفني وقد وضعت صيغة معينة لوظيفة العمل الفني وتذوقه ومعرفته . فبدلاً من أن تكون صيغة المعرف على الطريقة : لوحة + مشاهد .أصبحت : لوحة + فنان + مشاهد. فالفن الإسلامي فن عام غير شخصي بمعنى : فن واحد أو طراز واحد . فالفنان المسلم في أي بلد من بلدان العالم الإسلامي لا يعبر عن الطبيعة أو الحقيقة أو عن شعوره تعبيراً خاصاً يميزه عن غيره من الفنانين وإنما نراه في كثير من الأحيان يتبع الطرق القديمة ويسير على الأساليب الموروثة . فالفنان الماهر يومذاك هو ذلك الذي يفوق غيره في عملية إتقان الرسم أو زخرفته . ولهذا يذكر الدكتور زكي محمد حسن وكثير من المؤرخين الأجانب بأنه يكاد يتعذر القول إن هناك في الفن الإسلامي اتجاها عربياً أو فارسياً أو تركياً أو هندياً... وإنما هناك هوية عامة وفن وطراز عام تنضوي تحته مدارس كثيرة لها خصوصية محلية أخذتها من تقاليدها وعاداتها الموروثة كمدرسة بغداد ( السلجوقية ) والمدرسة الصفوة والمدرسة التركية والهندية والمغولية والتيمورية والأندلسية. فالعلاقات المعمارية والزخرفية المتشابهة بين مسجد في سمرقند وآخر في بلاد الشام، وبين صحيفة خطت بالخط الكوفي في العراق وأخرى في بلاد المغرب، وبين قوس مدبب ظهر في بلاد فارس وآخر مشابه له في مصر.. كل هذه العلاقات المتشابهة تحدو بنا إلى مفهوم واحد هو وحدة الفن الإسلامي رغم تباعد المكان والزمان . ويذكر المحللون والمؤرخون بأن هناك عوامل كثيرة أدت إلى وجود هذا الطابع العام المميز منها : خضوع العالم الإسلامي إلى حكومة واحدة. تجمع الفنانين المسلمين من كل أنحاء البلدان الإسلامية للعمل في مركز الخلافة. سهولة التنقل من بلد إلى آخر فكانت المنتجات الصناعية والتجارية والفنية تنتقل بحرية تامة خاصة تنقل المخطوطات المزينة بأنواع الرسوم الجميلة التي أدت إلى عموم الأسلوب الواحد للفن الإسلامي . وكان الواسطي وبهزاد من أعمدة الفن الإسلامي الأساسية رغم أن الأول عاش في فترة 1227 والثاني في 1450 الا أن المؤرخين والنقاد عندما يتحدثون عن الفنان العراقي الواسطي نراهم بعد ذلك يتحولون بشكل عقلي وعاطفي إلى الحديث عن بهزاد ذلك الذي قال فيه احد النقاد انه من أعظم الفنانين المسلمين.... وقد ذكرت كتب التاريخ بان الشاه إسماعيل الصفوي حينما دخل في حرب مع أعدائه خشي على حياة بهزاد فحفظه هو والخطاط شاه محمود النيسابوري في قبر سري حتى انتهت الحرب . وقد انطبعت الزخرفة الإسلامية بطابع عقلاني فالعناصر النباتية والهندسية بخطوطها المختلفة وتشكيلاتها المتنوعة كلها نظام هندسي كما أن تنوع الخطوط العربية ورسمها ضمن مقاييس معينة، كل هذه من طبيعة العقل الذي من صفاته التفكير والنظام والدقة .وكأن الفنان المسلم أراد أن يحاكي الطبيعة بروحها و جوهرها لا بأشكالها المتغيرة. ونتيجة لهذا الحس الأخلاقي جعل مقياس الأشياء روحياً وجدانياً . كما حاول تجريد الأشياء المادية و تجزئتها وإحالتها إلى عناصر أولية ثم إعادة بنائها من جديد وفق نظرة فلسفية جمالية .ونرى اليوم الفنان الأوربي الحديث ينهج نفس منهج الفنان المسلم الذي بدأ به قبل عشرة قرون . حيث اخذ كثير من الفنانين الأوربيين الحديثين أمثال بيكاسو وبراك و ماتيس وكلي بتفكيك عناصر الطبيعة وتحويلها إلى أشكال جديدة بحثا عن المضمون أو جوهر المادة . وهو ما يعتبرونه من المعاني الجمالية الراقية. وان مبدأ الجمال في الفن الإسلامي لا يخضع لمكان أو زمان ، انه شكل مجرد بلا تغيير ولا تحوير انه امتداد بلا حدود .. وقد ذكر بعض المفسرين بأن ظاهرة التكرار في الزخرفة الإسلامية تعني السعي وراء خالق الكون الذي ليس له حدود، و داعية إليه . لذلك فإن وحدة الرقش العربي بغير بداية ولا نهاية فهي سرمدية . وقد ذكر الدكتور زكي محمد حسن هذه الظاهرة بما يسميه - كراهية الفراغ - وقد ظهرت هذه واضحة في أعمال الفنان المسلم في بلاد المغرب والأندلس خاصة في قصور غرناطة حيث جاءت الزخرفة متكررة بأسلوب جذاب وصيغة عذبة طروبة .
|
رياضة
معاني وجمالية الفن الإسلامي
أخبار متعلقة