مشاعر متشابهة من الحزن والذهول انتابتني.. وعندما أمسكت بالقلم لأكتب عن لحظة من أصعب اللحظات في حياتي مثل لحظة وفاة أمي وأبي رحمهما الله أو اغتيال الأخ الصديق محمد ناجي بن شجاع أو الأخ الصديق محمد صالح مطيع أو لحظة وفاة الأخ الصديق محمد أحمد البحاح أو الصديق محمد حسين الجياشي أو محمد ناصر جابر أو الوالد والصديق الشاعر الكبير شايف محمد الخالدي رحمهم الله.. توقف القلم في يدي هياباً وجلاً من هيبة وجلال الموقف الصعب فحاولت كثيراً ولم أستطع مقاومة طوفان من الدموع تنهمر من قلبي وعينيَّ وقلمي في آن واحد.. لم أستطع إجبار قلمي على الكتابة سوى “إنّا لله وإنّا إليه راجعون .. لا حولَ ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”.. عزاؤنا أننا نملك قلوباً مؤمنة صادقة مصدقة أنْ الموت حق وأنّ لقاء الله حق وأنّ الجنة حق وأنّ النار حق.ومع انشداد العقل والقلب إلى عمق الحدث المؤلم انسابت الذكريات وأخذت تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء.. وأحسن كل شيء خلقه.. وأخذت أجبر القلم على الكتابة، ولكن هذه المرة مرثية ليست ككل المرثيات التي كتبتها وكتبها غيري، ما ابتعد عن الأسلوب التقليدي المكرر في مثل هذه المرثيات، سأكتب بأسلوب جديد بأسلوب مختلف متحرر ومتميز، يثبت فيه قطعياً بفضل الله مقولة الأخ (الخلاقي) ذات مرة (لصهيري عمر) حفظهما الله أنّ الذي يكتبُ هو فعلاً كما وصفاه ذات مرة (الطاوس اليافعي ما أكثر ريشه وأزهى ألوانه وأقل طيرانه).سأكتب بدمع حارٍ وحبرٍ متجمدٍ يعود إلى قلم أهداه لي العزيز الفقيد سلمان من رحلته للقاهرة عند أول عرض لمسرحية “شاهد ما شافش حاجة” والتي حفظ كثيراً من مشاهدها عن ظهر قلب ليرويها لنا عند عودته لدلالاتها ومغازيها في تلك المرحلة من عمرنا في سبعينات القرن الماضي، لم يكن القلم هديته الوحيدة لي ولكن كان ذلك القلم هدية اعتززت بها كثيراً، قدرني بها ورفع معنوياتي وقال لي وهو يقدم هديته التاريخية : أعرف أنّ القلم سلاحكم وهذه هدية تليق بمثلك، ويليق بمثله أنْ أكتب عنه بالقلم نفسه مرثيته.ففور سماعي الخبر اتجهت أعزي أختي الحبيبة بنت عمي محمد سالم الوالي رحمه الله بوفاة الفارس الجسور “سلمان” كانت الدموع تنهمر وظلت كذلك ولم تتوقف!!ومن ذا الفارس الذي تفيض الأعين من الدمع لوفاته؟؟إنّه “سلمان” !بكل بساطة إذا استعرضت أمام الناس بعض الأسماء الشهيرة في تاريخ يافع وتاريخ اليمن الحديث وذكرت “سلمان” فإنّ الجواب يأتيك سريعاً باللهجة العامية : (رجَّال) أي رجل بكل معنى الكلمة! في زمن عزَّ فيه وجود الرجال ! رجل والرجال قليلُ.ومن ذا الذي يحتاجُ أنْ نعرِّفه بـ “سلمان” ؟؟وهل عنده الصبر لقراءة مجلدات سِفر حياة “سلمان”! بما حفره على صفحاتها من أحداث ومواقف! كبيرة ومثيرة! خطيرة وعظيمة!أو مشاهدة مسلسل مثير يتكوّن من أكثر من 60 سنة!! كل يوم حلقة جديدة !! تلك حياة صاحبي “سلمان”!من أين أبدأ الحديث أعن الهرم الأكبر والجبل الأعظم الوالد أحمد علي الوالي والوالدة الحنون صاحبة القلب الكبير عمتي حمامة بنت سالم رحمهما الله اللذين خصهما الله بهذه الكوكبة من النجوم المتلألئة في سماء اليمن والعالم ؟؟من أين أبدأ من الحيد الأحمر ومن جبال ووديان يافع التي أحبها وغضب ورثى لحالها وأصر على أنْ تخرج مما كانت عليه من عزلة وتخلف عن الحياة العصرية، وسارع لطلب العلم والثقافة من أجل ذلك.من أين ابدأ الحديث أعن ابن بنجسار التواهي (ستيمر بوينت) تلك المدينة الحالمة المظلومة التي احتوته واحتوت مسجد الهتاري وكنيسة العذراء ورمز ساعة بيج بن وسجن مربط ودار الرئاسة وسجن الفتح ومقر الحكومة وشواطئ جولد مور!!من أين أبدأ الحديث أعن ذلك المهندس الراصد المتأمل للكون المحلق دائماً من علو والأرض كلها تحته؟!من أين أبدأ الحديث أعن المناضل لاجتثاث التخلف الاجتماعي ومن أجل السلام الاجتماعي العامل المثابر لإنهاء موروثات التخلف مثل الثأرات والمنازعات والحروب القبلية والأهلية والمسارع إلى بث روح الصلح والتسامح والتكافل والتعاون الاجتماعي.من أين أبدأ الحديث عن الرمز البارز في تاريخ الاتحاد اليافعي والمنظمات الاجتماعية الشعبية؟من أين أبدأ الحديث عن صاحب أجرأ المواقف في أصعب الأحداث وسط صراعات ما بعد الاستقلال حتى قيام الوحدة التي بتحقيقها تحقق حلم من أحلامه الكبرى ووضع يده بيدي وذهبنا سوياً إلى منزل الشيخ عبدالمجيد الزنداني ليتعرف عليه ـ لأول مرة ؟ ، ولذلك قصة تروى بإذن الله في سجل الذكريات الخالدة، بغض النظر عن الأحداث اللاحقة التي ليس هذا مجالها، من أين أبدأ الحديث أعن السفير “سلمان”!! عن سلمان في الصومال ولبنان وسورية والأردن!؟من أين أبدأ الحديث أعن العَلاقات مع الزعماء والقادة والأحزاب والجلسات التي لم يُنشر عنها إلا النزر البسيط، وفي آخر زيارة قبل مرضه الأخير إلى منزلي بصنعاء برفقة المهندس البارع / حسين الوالي وبحضور عدد من أعز الأصدقاء تذاكرنا بتاريخ لا يذكره إلا القليلون شيئاً من كثير ينبغي أنْ تعرفه الأجيال !! لأنّ هناك مع الأسف من يتطاول على التاريخ وحقائق التاريخ وهو لا يستطيع التمييز بين الألف والعصا وهناك من لا يقرأ بقلب وأعين مفتوحة بل بتموجات تحت تأثير ترسبات ركام الماضي وضغوط الواقع المؤلم وهناك من لا يستطيع التمييز بين الجدية والمزاح ولا يستطيع التمييز بين العَلاقات الشخصية والعائلية والإنسانية من جهة والمواقف السياسية والتعددية الحزبية من جهة أخرى فيخلطون الأمور والحابل بالنابل وبعضهم لا يسألون ولا يتعلّمون صغاراً نشؤوا في الفترات المتأخرة ولم تعصرهم تجارب الحياة بمآسيها وآلامها وبعض ضيقي الصدور وحملة الأحقاد والفتن والدسائس غرقوا في مستنقعات الجهل والحسد والغيرة والنميمة والارتزاق والقزمية وتعوّدوا بتربية خاطئة ومسلكية سيئة هدم الأشجار العملاقة المثمرة لا تعرف القيم الكبيرة النبيلة إلى قلوبهم سبيلاً وكنت وكان الفقيد سلمان يردد معي أنّ الصغار صغار والكبار كبار نتعفف عن الرد عليهم وسنظل كباراً في القمم العالية.عندما كنت والفقيد الكبير سلمان في خضم التاريخ ومعامعه بحلوها ومرِّها كان أولئك النفر نطفاً في أصلاب آبائهم وترائب أمهاتهم لم يولدوا بعد وكان بعضهم حينها رضعاً يعضون إبهامهم ولم يقلعوا عن هذه العادة السيئة حتى اليوم.أما نحن أنا والفقيد سلمان وغيره من جيلنا تعلَّمنا أنّ الصغير لا يتطاول على الكبير بل يحترمه ويوقره والكبير يرحم الصغير ويوجهه وفي كل الأحوال فإنّ أمثال أولئك الصعاليك والأقزام قد أعمى قلوبهم وأبصارهم وبصيرتهم الحقد والحسد والانتقام الثوري والوهم الباطل ونحن نترفع ونتعفف عن النزول من منابرنا الشريفة التي ارتقينا إليها بفضل الله ولن ننزل من سلم المجد والتسامح إلى المستويات المهينة التي وضعوا أنفسهم فيها وما زالوا مختبئين في زواياها المظلمة ولا يرون الشمس ولا يملكون طرقاً لإزالة الروائح الكريهة التي تصدر عنهم بين الحين والآخر، فهذا البعض من الصعاليك المستأجرين لتشويه المقاصد الشريفة للعمالقة الكرام لن يحالفهم الفلاح أبداً ونحن على يقين من ذلك.من أين أبدأ الحديث أعن الصديق “سلمان” عن الأفراح والأتراح، عن الآلام الآمال عن النكتة السياسية التي لم تفارقنا في مسيرتنا الطويلة؟.وهل يكفي حبر المطابع ولو كان في حجم فيضانات وسيول هذا العام لأكتب به شيئاً من ذلك؟إنّا أيام وليالٍ وسنا عشناها سوياً ليلها بنهارها بعض الليالي كأنها (سنين) كأنها (قرون) لهول ما عاصرناه فيها من أحداث ومواقف عزيزة ورهيبة، أستطيع أنْ أجزم أنّ كثيراً بل كثير وكثير منها لم يروِ حتى الآن للتاريخ والأجيال.ما يُميِّز علاقتنا إننا كنا نختلف ونتجادل ولكن لا نتقاطع أبداً، قلبان لا يحتويان على ذرات الحقد والانتقام بل ملنا بالصفا والتسامح والقابلية للتفاهم الدائم، قال لي رحمه الله في رسالة من رسائله قبل أكثر من ربع قرن : (إننا جسدان افترقا بقلب واحد).وبين سطور أوراقي الضخمة تبرز كلمات الفقيد الكبير سلمان وهو يقول لي رحمه الله :لا تتعب ولا تيأس ولا تتضايق، ملأت قلوبنا بالأمل وكلما نراك ونسمعك نرى ونسمع الأمل ونخرج مفعمين بالأمل، أنت شيخنا زمان والآن ويتبع ذلك برنين ضحكته الطيبة التي لن أنساها، فنسأل الله أنْ يمن عليه بالرحمة والغفران آمين.زميلي السفير كنت أعرف مدى معاناته في البلاد التي أبعد إليها في تلك الفترة “الصومال” تحت حكم سياد بري حتى أنّه قال لي ضاحكاً : (سأحقق رغبتك سأختصر تقاريري (كسفير) وسأكتب لك تحقيقات صحفية (يا صاحبي) ويا لله ستكون أول تجربة كتابة لي من الصومال فكتب لي ما سيُنشر كله في مجلد ذكرياتي وبعضه في مرثيتي الكاملة له بإذن الله لأنّ هذا فقط مختصر يقتضيه المقام الآن.لقد بلغت عَلاقاتنا الشخصية الذروة فكان يقول ويكتب رحمه الله (عندما يصل البريد الدبلوماسي كنت افتحه بشغف وأول شيء أبحث عنه رسالتكم الحبيبة إلى قلبي وكم أسعد لوجودها وأبدأ أقرأها قبل أنْ التفت إلى أي شيء آخر في البريد الدبلوماسي!!).وفي رسالةٍ أخرى قال : (رسائلك افتحها قبل أنْ أكمل التأكيد من البريد الدبلوماسي ومحتوياته،، أشعر بشوق لقراءة أشياء مهمة لا أدري هل لأني أفتقد إلى صديق مثلك في الصومال وبالتالي أتشوق لقراءة كلمات من صديق، أم لسلاسة كلماتك الرقيقة ذاتها الصادرة من صديق عزيز يكتبها بدون الالتزام ببلاغة أحمد صدقي التيجاني تسلمت الرسالتين الأخيرتين معاً لا أدري تأخرهم للتصوير!! أم الإهمال والله أعلم، ولكن مع ذلك المهم وصولها).ومن جانبي بلا شك كتبت إلى صاحبي سلمان كثيراً وكثيراً منها ما مرَّ على الخصوم والمخابرات وصورته وأرسلت لنا الصور واحتفظت بالأصول وطبعاً الأصول الحقيقية كانت عندنا ومنها ما مرّ دون أنْ تراها ولذلك حكمة وشأن.إنّ ما كتبت في هذه اللحظات قطرة من مياه البحر الممتد من ساحل أبين وخور مكسر إلى أعماق المحيط الهندي، ولولا أنّ في عيناي دمع هذه اللحظات وفي فمي ماء وملح وتراث لواصلت الكتابة عن أدق الأخبار والأحداث والمواقف والأسرار ولربما يهيئ الله لنا ذلك في ظرف آخر.وكما بدأت المرثية بقلم هدية سلمان من أرض الكنانة أختم من أرض الكنانة أيضاً إذ يتفاخر إخواننا أهل مصر ـ الذين أحبهم سلمان في حياته كثيراً ـ يتفاخرون في تاريخهم القديم بالأهرامات الشامخة وهي من تراث وطين ونحن نتفاخر في تاريخنا الحديث بهذا الهرم الأكبر الجبل الأشم من لحم ودم “سلمان” نسأل الله أنْ يرحمه.وذكرياتنا لا تكفيها هذه الأسطر التي كتبتها لحظة وصول أنباء وفاته إلينا وهي تحتاج على عرض خاص ضمن مجموعة كبيرة من الذكريات المريرة والحلوة الطريفة والمزعج سواء في عَلاقاتنا الشخصية الاجتماعية ببعضنا أو مع الأصدقاء من المناضلين ومن الأدباء والشعراء ومع الآخرين نسأل الله أنْ يقدر لنا أنْ ندونها للتاريخ والأجيال نأخذ منها الدروس والعبر.ومرةً أخرى إنّ العين لتدمع والقلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.. وسبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.[c1]* صنعاء الإثنين 28 شوال 1429هـ الموافق 27 أكتوبر 2008م[/c]
سلمان الوالي في رحاب الخالدين
أخبار متعلقة