جدة / متابعات: يبتسم الشرطي وهو يطلب من المارة دون جدوى التقدم قليلا لركوب سيارات الأجرة التي تغلق مدخل المسجد النبوي المزدحم بالمصلين المغادرين، كثيرون يدعون أنهم لم ينتبهوا لتعليماته وآخرون ينظرون إليه ويكتفون بهز رؤوسهم ثم يواصلون محاولاتهم.يكتفي أن ينادي أحدَهم «يا حاج روح قدام شوية الله يهديك»، ثم يشيح بوجهه للناحية الأخرى محاولا توجيه السير في الجهة المقابلة لفك الازدحام الذي تلا الصلاة ويتلو كل صلاة في «الموسم». والموسم هنا يعني موسم زيارة الحجيج للمدينة المنورة للصلاة في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام. وفيه تزدحم طرقات المدينة بوفود الحجيج القادمة من شتى بقاع الأرض.خليط من الناس غير متجانس الألوان واللغات والملابس لكنهم جميعا يتصرفون على النحو ذاته يقدسون المكان ويتزاحمون للسلام على صاحبه عليه السلام.بعضهم ينام على الأرض فترات طويلة وآخرون يقفون في صفوف مزدحمة للاقتراب من قبره، وغالبية القادمين تفترش الأرض ساعات طوال تتلو آيات من القرآن أو تسبح وتدعو بصمت، والهدوء يلف المكان رغم الزحام الشديد. حتى سيارة الإسعاف المتعجلة للوصول إلى موضع ما لمساعدة حاج مريض تكتفي بإطلاق صفارة هي أقرب لنقيق الضفادع منها لصوت مكبرات الصوت المزعجة، وكأنها تستجدي المتجمعين أن يفسحوا لها طريقا للمرور، لا أحد يلح بل إن المشترين لا يبذلون غالبا جهدا كبيرا لخفض السعر من شاء اشترى ومن شاء مضى بهدوء. الشرطي الواقف على مفترق طرق لتنظيم حركة السيارات لا يهتم لسائق صدم سيارة سائق آخر صدمة خفيفة! حتى السائق الذي تعرضت سيارته للصدمة لا يأبه لما جرى، يواصل الجميع السير في دروبهم دون ضجيج، ليس غريبا إذن أن هياكل السيارات هنا تبدو غالبا وكأن طفلا كان يداعبها بمطرقة صغيرة خلفت ندوبا كثيرة. على مدخل المسجد من الجهة الجنوبية تنتصب لافتة كهربائية تؤكد للمصلين أن التقاط الصور ممنوع، وأن التدخين ممنوع، وتحثهم على منع أطفالهم من اللهو والعبث في ساحات المسجد، يلتزم الجميع بما تحث عليه اللوحة إلا التصوير. كثيرون يعشقون تخليد لحظاتهم تلك، ولا يبذل رجال الشرطة الكثير لمنعهم ويكتفون بالقول «يا حاج ممنوع»، لكن الحاج يزعم أنه لم يفهم أو لم يسمع، والشرطي يدعي أنه أدى ما عليه ويمضي بهدوء.سكينة غريبة تلف المكان حتى في الشوارع البعيدة عن المسجد تبدو الحركة وكأنها تنساب بلطف شديد، لا غضب في الشوارع ولا توتر بين الناس، الكل يمضي في طريقه ولا ينشغل كثيرا بغيره. أسماء الفنادق تأخذ طابعا مختلفا هنا فالإنتركونتيننتال يسبق اسمه «دار الهجرة»، والموفنبيك هنا هو «أنوار المدينة»، لا نساء للخدمة في الفنادق والكل يتحدث العربية. جاؤوا من بلاد شتى منهم ذوو الأصول الصينية ومنهم باكستانيون وهنود وأفغان وأفارقة والكل يتحدث العربية، تختفي اللغات الأخرى في التخاطب بين الباعة وإن كان بعضهم يحادث بعض الوفود بلغاتها المحلية، لا مكان للإنجليزية وإن علت اللافتات الرسمية بعد العربية والأوردو والفارسية حتى، فالخدمة للجميع لكن العربية هي الأساس. وقرب باب مسجد مغلق يقع على بعد 200 متر تقريبا من بوابة المسجد النبوي يقف رجل دين شيعي وسط مجموعة من الحجيج تحلقوا حوله على الأرض قرب مدخل مسجد علي. يقال إن المسجد أقيم على بيت للخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب، لكنه اليوم مغلق مثل مساجد أخرى قريبة من الحرم. لم يبد منظر الخطيب الشيعي لافتا لأنظار المارة ولا الشرطة ولا غيرهم، الكل هنا مسلم وضيف على النبي عليه الصلاة والسلام، لا يفكر المجتمعون هنا في فروق تضرب المنطقة وتؤجج خلافات سياسية توشك أن تتحول لصدامات أهلية أحيانا. الرضا يملأ النفوس حتى الشمس التي ترتفع في صلاتي الظهر والعصر تبدو محببة ولا تثير انزعاجا كبيرا، فالبعض يجلس تحت مظلات ضخمة خاصة تفتح وتغلق مثل أزهار عملاقة لتحمي المصلين من أشعة الشمس، لكن كثيرين غيرهم لا يبدون تبرما من تلك الأشعة. تبدو المدينة وكأنها خارج دوامات الزمان، تنمو وحدها وتحيا وحدها، يأتيها الحجاج من كل مكان فتستقبلهم وتودعهم، ثم تبقى على حالها تستعد أكثر لتستقبل زوار المستقبل.