أضواء
في غمرة القصف الرهيب على غزة، كل غزة، واشتعال المواجهات الأرضية بين قوات إسرائيل ورجال حماس، على قاعدة انقسام إقليمي، عربي وغير عربي، عميق ومتشعب. في غمرة هذه الأدخنة والدماء والانقسامات الفلسطينية والعربية، يحق للمرء أن يقف وقفة تأمل وهدوء، رغم أن الأصوات المتأملة، والمتألمة في نفس الوقت، لا يراد لها ان تتحدث او تقول شيئا، حاليا كما لاحظ الكاتب إياد أبو شقرا أمس في هذه الجريدة. الحرب ليست بلا نهاية، ستنتهي هذه الحملة الإسرائيلية الشرسة على قطاع غزة، خصوصا مع تزايد وقوع الأبرياء المدنيين من الأطفال والنساء، وهو ما يحرج الضمير العالمي كله ويخلق رأيا عاما ضاغطا على إسرائيل، إذن فمهما تحدثت إسرائيل عن حرب أيام طويلة، فلا يظن أن هذا الكلام يؤخذ بحرفيته، وحماس مهما تحدثت عن بطولات وانتصارات، فهذا ايضا يجب أن لا يؤخذ بحرفيته، والأولى بكلام إسرائيل وحماس أن يكون جزءا من الحرب النفسية. بكل حال، لم يعد هناك كثير من الغموض، غرض إسرائيل، إن لم يكن إنهاء حماس كما قال حاييم رامون، فهو شل قدرتها على إطلاق الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية، وخلق واقع جديد كما قالت وزيرة الخارجية الأمريكية رايس، على غرار ما حصل مع حزب الله في جنوب لبنان، فوضعية الحزب الإلهي بعد حرب تموز غيرها قبل هذه الحرب، من ناحية التموضع العسكري والقدرة على الاشتباك مع إسرائيل. ستنتهي هذه الحرب البشعة على مدنيي غزة، إما بإلغاء حماس، وهو أمل إسرائيل، وإما بإضعاف قدرتها على السيطرة وإرغامها على القبول بتسويات كانت ترفضها قبل الحرب الحالية. ولكن هل يعني هذا انتهاء حالة الحرب والاشتباك بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ الحق أنه من الصعب أن يقتنع المرء بحلول لحظة انتهاء الصراع بين العرب والإسرائيليين، لأسباب تتجاوز المجريات والأحداث اليومية لتصل إلى أزمة الرؤية ومشكلة الشجاعة في مواجهة الحقائق الجغرافية والسياسية على الأرض. أنا مع من يقول باستحالة القضاء على حماس، وان إسرائيل واهمة إن هي فكرت بقدرتها على إلغاء حماس سياسيا وعسكريا من الوجود، وهذا ليس راجعا إلى «سماوية» حماس، ولا الى معجزة ما معها، بل الى أن وجود حماس يمثل «حالة» وليس مجرد حركة معينة، حماس نتيجة وليست سببا للأزمة أو القلق الذي تشعر به إسرائيل. باستمرار كانت مشكلة فلسطين منهلا يغرف منه كثير من الحركات الثورية، علمانية كانت أم أصولية، على طول العالم العربي والإسلامي. حتى لو تعبت حماس، وهي قد جنحت للتهدئة فعلا قبل أن تخرقها، حتى لو تعبت أو غيرت فإن هناك منظمات وتيارات ستوجد بعد حماس لتزايد عليها، ونحن رأينا كيف رفضت حركة الجهاد الإسلامي في غزة الخضوع للتهدئة التي وافقت عليها حماس مع إسرائيل وحاربت كل من خرقها واعتبر الزهار وغيره من قادة حماس أن من يطلق صاروخا على إسرائيل حينها خائنا لفلسطين، وقال وقتها خالد البطش القيادي البارز في حركة الجهاد الإسلامي في تصريحات صحافية، إن محاولة حركة حماس عقد هدنة أو تهدئة مع إسرائيل هي «فكرة مرفوضة غير ملزمة لحركة الجهاد الإسلامي». وأكد البطش «التزام حركة الجهاد الإسلامي بخيار المقاومة طالما هناك احتلال». وحين حاولت حماس فرض التهدئة على التنظيمات والجماعات الفالتة في غزة اضطرت للاشتباك مع مجموعات يشتبه بصلتها بـ«القاعدة» مثل مجموعة جيش الإسلام في غزة أو مجموعة آل دغمش التي خطفت الصحافي البريطاني ألان جونسون. لكن يجب أن نتذكر قبل ذلك أن حماس كانت تنتقد حركة فتح والسلطة الفلسطينية بسبب مضيها في خيار السلام لا الحرب مع إسرائيل وكانت دوما تطلق العمليات الانتحارية داخل العمق الإسرائيلي أثناء المفاوضات بين السلطة وإسرائيل، الأمر الذي يجلب ردا وحشيا من إسرائيل فتعود الأمور لنقطة الصفر... وهكذا دواليك، حتى وصلت حماس للسلطة، فتغيرت الأمور، وهدأت كتائب القسام، لكن خرج على حماس من يقول لها الكلام الذي كانت تقوله للسلطة. هل هذا الأمر مقتصر على حماس التي تعتبر من آخر الوافدين على الحركة النضالية الفلسطينية ؟ أبدا، فلو رجعنا قليلا إلى الوراء لرأينا أن حركة فتح نفسها وهي التي أعلنت عن نفسها 1965 كانت تعتبر أنها ليست ملزمة بمنظمة التحرير الفلسطينية التي رعتها مصر عبد الناصر وكان زعيمها احمد الشقيري، وكانت فتح تنتقد منظمة التحرير والشقيري على وجه الخصوص بحجة انه ساق القضية الفلسطينية في متاهات الدول العربية، وأفرغ القضية من المضمون الثوري، وعبرت حركة فتح عن رأيها، في منظمة التحرير. داعية الى: «أن يكون الكيان ذا مضمون ثوري، ومرتكزاً للثورة المسلحة، وليس بديلاً منها. وأكدت موقفها بشكل تطبيقي، عندما انتهجت الكفاح المسلح، بعد أشهر قليلة من إعلان قيام المنظمة، ودعتها، في بيان، وزع على أعضاء المجلس الوطني، في دورته الثانية، في القاهرة، في مايو 1965، إلى سلوك درب «العاصفة»، الجناح العسكري لفتح». حسب ما يذكره أحد الباحثين الفلسطينيين الذي نشر بحثه في موقع الملتقى الفتحاوي. وبالفعل حذرت حركة فتح الدول العربية بعد مؤتمر الخرطوم (1967) من التعامل مع احمد الشقيري، وبعد وقت دخلت فتح منظمة التحرير فارضة شروطها الثورية وأصبح ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير. لكن فتح نفسها لم تسلم من الانشقاقات، ودوما بحجة التخاذل او بيع القضية أو رفض هذا التوجه السياسي أو ذاك، ووجدت جماعات مثل فتح ابو نضال التي كانت برعاية عراقية بعثية، وفتح ابو خالد العملة برعاية سورية البعثية أيضا. وغيرهما. باستمرار كانت مأساة فلسطين سببا من أسباب التضاد العربي، أو قل وسيلة من وسائل التراشق العربي، منذ أيام الملك عبد الله بن الحسين في الأردن ونزاعه مع مصر، ثم عبد الكريم قاسم في العراق وجمال عبد الناصر في مصر، الى عراق صدام وسوريا حافظ وليبيا القذافي وإيران الخميني. الغرض من هذا الكلام، أن المشكلة في التعامل مع أزمة فلسطين، هي في تكرار الأخطاء وعدم الوضوح واستغلال الأنظمة العربية للفصائل الفلسطينية في صراعاتها عبر تكتيك الإحراج بخيانة القضية، وهو تكتيك ما زال مستخدما، لكن هذه المرة من طرف غير عربي وهو ايران. لا العرب كانوا واضحين في رؤيتهم تجاه حل مشكلة فلسطين، ولا الفلسطينيون، كانوا واضحين أيضا، ومنذ تبني خيار التسوية، الذي ابتدأته مصر السادات، رغم صيحات التخوين ضده حينها، والأمور أصبحت واضحة، ففكرة إلقاء إسرائيل في البحر وتحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر الى البحر، لم تعد خيارا واقعيا ولا عمليا. المطلوب الآن أن يكون الفلسطينيون على أعلى قدر من الوضوح مع الذات، وأيضا العرب: هل نحن في مسار حرب أو في مسار تسوية؟ يجب حسم هذه النقطة الرجراجة، في الرؤية وفي الخطاب السياسي، إن كان هنا أغلبية فلسطينية بتبني مسار الحرب حتى تحرير الأرض من النهر للبحر، فليكن، ولكن كيف يعد لهذا المسار حقا، كيف تبنى التحالفات على ضوئه، كيف يعد الشارع الفلسطيني له، كيف تبنى القوة العسكرية، حتى لا يفنى الشعب نفسه الذي يراد تحريره؟ ثم هل العرب، وغير العرب من دول ومنظمات، يملكون القدرة على الدخول في مسار الحرب مع اسرائيل؟ (للتذكير فسعيد جليلي مستشار الأمن الإيراني قال إن حزب الله لن يدخل هذه الحرب مع إسرائيل!) أو انهم مع التسوية وليسوا مع شعار: من النهر إلى البحر؟ حتى وإن كانوا يوهمون حماس بأنهم معها في هذا الشعار، وهم في نفس الوقت يتفاوضون مع إسرائيل من فوق وتحت الطاولة؟ «الصراحة صابون القلوب» كما يقال، وهذه الفوضى في المواقف والتناقض في إطلاق الرسائل والإشارات تعتبر هي الضرر الأكبر على الفلسطينيين أنفسهم، أن يصارحك من يساعدك بأن هذه هي حدود قدرتي في المساعدة، فهذا خير ممن يكذب عليك ويعطيك الكلام المعسول ويطلق الهتافات الصاخبة، ثم على أرض الواقع لا تحصد من كلامه إلا فقاعات الكلام، ولا تظفر منه لا بصاروخ شهاب ولا بقذيفة كاتيوشا فالتة حتى. المحزن أن الذي دفع في الماضي، ويدفع الآن، ثمن هذا التكاذب السياسي، والتخبط في السير، هم الناس، الناس العاديون الذين يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويرقدون على سرير القلق آخر الليل. سينتهي هذا الفصل من المأساة الفلسطينية، لكن لن تنهى هذه المأساة إلا بعد أن نحدد لأنفسنا ماذا نريد: الحرب أم التسوية، ثم نعمل حقا على هذا أو ذاك، أما شتم العدو.. فالأمر أكبر من الشتم أليس كذلك؟ [c1]*عن / صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية [/c]