حضـرمـوت
[c1]محمد زكريا[/c]لعلنا لا نبتعد إذا قلنا إن مسألة العثور على قبر النبي هود ـ عليه السلام ـ تعد مسألة تاريخية وعلمية غاية في الأهمية شغلت ومازالت تشغل بال الكثير من المؤرخين والأثريين حتى يومنا هذا . والحقيقة لقد سمحت لي الظروف أن أقوم بزيارة ميدانية إلى منطقة الأحقاف في حضرموت من فترة ليست بقصيرة حيث كنت مرافقا لبعثة مختصة في العمارة الإسلامية التابعة لجامعة الدول العربية . ولقد شاهدت قبرا طويلا ضخم الهيئة مستطيل الشكل . وقد طليت جدرانه باللون الأبيض وكسيت بالنورة . والقصة التي أرويها شاهدت وقائعها ، ولمست أحداثها قصة ليست من نسيج الخيال . [c1]في الأزمنة السحيقة [/c]والحقيقة أن المكان الذي قيل لنا أنه قبر النبي هود ـ عليه السلام ـ مكان يشي بالغرابة وأن الإنسان يشعر أنه يغوص في أعماق الأزمنة السحيقة الموغلة في القدم. وأنه ينفصل عن عالمه بكل ذرة من كيانه الذي يعيش فيه وينجذب إلى عالم آخر مثير وغريب في نفس الوقت. فكل مكان من حولك يثير فيك الخوف، فالريح لا تكاد يتوقف صفيرها القوي الذي يكاد يصم الآذان.. وكثبان رملية حمراء تطفو في كل مكان , والأعجب من ذلك أنه يترامى إلى مسامعك أصوات مختلطة مبهمة كأنها أصوات صخور ضخمة ترتطم بالأرض بقوة فتهتز الأرض من تحت أقدامك، وتحدث دويا مفزعا. وبين الحين والأخرى يترامى إلى أذنيك صرخات استغاثة تأتي من مكان بعيد جدا. [c1]خاوية على عروشها [/c]وبجانب قبر النبي هود يطفو عدد غير قليل من المنازل , ويتخيل المرء من أول وهلة أنها ممتلئة بسكانها. فواجهات البيوت تبرق وتلمع وأنها سليمة البنيان وكل شيء فيها يدل على أن الحياة تسري في كل ركن من أركانها. ولكننا نفاجأ أن تلك البيوت خاوية على عروشها أي أنها خاوية من ساكنيها. فلا تسمع سوى صفير الريح الشديد , وترى أبواب البيوت تتحرك يمنة ويسرة من جراء الريح الشديد ةكأنها أوراق الشجر في مهب الريح. وأتذكر في هذه اللحظة أن أحد المختصين في بعثة الآثار المصرية. قال لي بما معناه : " أنه يشعر برهبة المكان وخصوصا عندما شاهد بنفسه ومضات من نور خرجت من بعض ثنايا الحفرة التي كان يقوم بفحص أحجارها والتي كانت بجانب القبر بهدف معرفة الفترة الزمنية لها ". [c1]البعثة الأمريكية[/c]الذي جعلني استحضر تلك الزيارة إلى الأحقاف في حضرموت مع بعثة العمارة الإسلامية المصرية التابعة لجامعة الدول العربية هو أن إحدى المجلات الأمريكية العلمية المختصة بالآثار وخصوصا في الوطن العربي. قامت بنشر بحث علمي مفاده أنه عثر على قبر النبي هود في العقبة بالأردن والغريب في الأمر أن المجلة لم تحدد مدى العثور على القبر المزعوم هذا. فتقول المجلة : " أثبتت بعثة الآثار الأمريكية التي مكثت فترة طويلة في عقبة الأردن العثور على قبر النبي هود وذلك من خلال الكتابات النبطية التي عثر عليها في خرائب معبد جبل (آرم) والذي يقع في بطن أحدى كهوف جبال العقبة. ويمضي البحث العلمي الأمريكي , فيقول " ولقد دلت الكتابات النبطية أن القبر القابع في أخدود كهف (آرم) مكتوب عليه هود. وإلى جانب الجبل عثر على آثار قديمة جاهلية". [c1]تقرير يشوبه الغموض [/c]والحقيقة أن هذا التقرير الأمريكي العلمي الذي يدعي العثور على قبر النبي هود يشوبه الكثير من الغموض والاضطراب العلمي , فهو يقول أن الكتابات النبطية دونت على هذا القبر في كهف الجبل باسم (هود). ولم تذكر بالتحديد اسم النبي هود , وإنما اكتفت باسم (هود) فحسب. والشيء الآخر أن تقرير البعثة الأمريكية لم يحدد أو لم يذكر الحقبة الزمنية التي يرجع إليها نوع الحجارة الذي بني منه القبر. ويلفت نظرنا أن تقرير الأثريين الأمريكيين يشير إلى أنهم وجدوا بجانب الكهف آثار اًقديمة جاهلية ولم يسعفنا بمعطيات واضحة تنير لنا طريق الفترة التاريخية لتلك الآثار الجاهلية التي وجدت بجانب الكهف هل تعود إلى حقبة النبي هود وكل ما ذكر في التقرير أنها (قديمة وجاهلية) وبعدها يصمت التقرير. وهذا دليل واضح وقاطع بأن تقرير البعثة الأمريكية للآثار يلفه الغموض ويحتاج إلى دلائل وبراهين لتدعم ما جاء فيه.[c1]أين قبر النبي هود ؟[/c]والسؤال المطروح هو أين يقع قبر النبي هود أو بمعنى أوسع أين يوجد قبره ؟. وفي الواقع أن المصادر التراثية القديمة، والتفسيرات مثل تفسير ابن كثير أجمعت أن قبر النبي هود ـ عليه السلام ـ موقعه في منطقة الأحقاف وهي المنطقة الواقعة بين عمان وحضرموت وعلى وجه التحديد " الواقعة بالقرب من وادي برهوت على سفح الجبل في الشعب المعروف بشعب هود كما جاء في المراجع التاريخية علاوة على الروايات الشفوية المتناقلة من جيل إلى جيل.[c1]في شرق وادي حضرموت [/c]وهناك بعض المراجع التاريخية الحضرمية تشير إلى أن قبر النبي هود مكانه أو موقعه في شرقي حضرموت. ويذهب المؤرخ صالح بن علي الحامد إلى أن قبر هود واضح وبين للعيان لا يحتاج إلى الشك به حيث كتب يقول : " وعلى كل حال فلا يوجد قبر لنبي من الأنبياء غير نبينا ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يبلغ في صحة تعيين ناحية قبره ما بلغ منه قبر النبي هود ـ عليه السلام ـ."ويضيف قائلا : " فقد كان أن يطبق المؤرخون على أنه بحضرموت. وفي القرآن الكريم ما يدل على ذلك. إذ قال تعالى (واذكر أخا عاد إذ انذر قومه بالأحقاف) ". ويضيف قائلا : " وموضع الأحقاف ـ لا خلاف فيه ـ شرقي حضرموت. وقد كان وادي حضرموت قديما وحديثا يسمى بوادي الأحقاف. وقد كان معروفا في مهد الجاهلية وما قبله، ثم في العهود الإسلامية، ومازال معروفا يزار إلى اليوم ".[c1]ما اسم الأحقاف القديم ؟ [/c]ويروي كتاب (الفرج بعد الشدة في انساب فروع كندة) أن الموضع الذي قبر فيه هود اسمه (الهيسو). وأن هذا الاسم كان قديما يطلق على الأحقاف ـ وكما ذكرنا سابقا ـ وأن الأحقاف تقع بين عمان وحضرموت وبتعبير أدق تدخل في حدود حضرموت الشرقية. [c1]قول الإمام علي [/c]وهناك بعض الروايات نقلت عن الإمام علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ يحدد فيها مكان قبر هود , فيقول : " أنه كان ـ يقصد القبر ـ بحضرموت على الكثيب الأحمر ". وفي السياق نفسه يقول ابن هشام في سيرته: " أن هود قبض ودفن في الأحقاف بموضع يقال له (الهنيبق) بجوار نهر الحفيف ". ويعقب صالح الحامد على قول ابن هشام، قائلا : " ومن المحتمل أن يكون نهر الحفيف هذا في موضع آخر غير هذا الموضع، أو أنه كان نهرا وانقطع لأسباب طبيعية ". وأما الشيخ عبد الوهاب النجار ـ وهو من علماء حضرموت الكبار ـ فيروي أن أهل حضرموت يقولون إن هودا ـ عليه السلام ـ سكن بلاد حضرموت بعد هلاك عاد إلى أن مات ودفن بها في شرقي بلادهم على نحو مرحلتين من مدينة تريم قرب وادي برهوت ". وربما كان يقصد أنه رحل من الأحقاف ذات الكثبان الرملية الحمراء إلى بلاد أخرى من حضرموت . وإذا ألقينا نظرة متفحصة على الطريق الذي يمتد من داخل حضرموت ونقصد به وادي حضرموت أو منطقة الأحقاف إلى الشحر المطلة على البحر فإنه من المحتمل أن يكون النبي هود ومن آمن معه . قد سلكوا ذلك الطريق لأنه الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى الشحر سواء كان بعد أن حلت الكارثة بقوم عاد الكافرين أو قبلها.[c1]ما معنى الأحقاف ؟ [/c]ويشرح القاضي العلامة محمد بن أحمد الحجري معنى كلمة الأحقاف، فيقول : " نقلا عن بامخرمة المتوفى سنة (947 هـ / 1540م) : " هي الرمال واحدها حقف ـ ولأحقاف تعني باللغة العربية كثبان رملية ـ " ويضيف قائلا : " واختلفوا في أي موضع هي على أقوال أصحها الشحر باليمن على ساحل بحر الهند ومسكن قوم عاد المذكورة في قوله تعالى : " واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف ". وقال سعيد بن المسيب : " كانت منازلهم باليمن ومهرة , وكانوا جبابرة. و قد حظوا بالطول والقوة، فكان الرجل يأتي بالصخرة فيحملها على الحي فيهلكهم , وقصتهم مشهورة في التفاسير ". ومن اللافت للنظر أن قبر النبي هود ذكر في تلك الرواية التاريخية أن مكانه في الشحر. بخلاف الكثير من الآراء التي تؤكد أن النبي هود مدفون في الأحقاف شرق وادي حضرموت. والحقيقة لقد شاهدت بنفسي تلك الكثبان الرملية وذلك من خلال السيارة (اللندروفر) التي كانت تصعد وتهبط حتى وصلنا إلى قبر النبي هود.[c1]ذو القرنين [/c]ولقد روى الأخباريون عددا من الروايات التي لا يمكن إثباتها أو نفيها لكوننا لا نملك الدلائل القاطعة التي تؤكدها أو تنفيها. ولكن الشيء المشترك في تلك الروايات أنها تجمع على مسألة واحدة تتمثل بأن قبر النبي هود ـ عليه السلام ـ مدفون في الأحقاف بوادي حضرموت وعلى وجه الدقة بجانب وادي برهوت ـ كما جاء في كتب التراث القديمة ـ ولقد ذكر الأخباريون أن ذا القرنين زار قبر النبي هود بحضرموت, وزاره ـ أيضا ـ النبي سليمان بن داؤود. وتضيف بعض روايات الإخباريين بقولهم : " فسار ـ أي النبي سليمان ـ حتى نزل الأحقاف، ودخل إلى قبر هود ـ عليه السلام ـ ثم انصرف ". كل تلك الروايات التي ذكرها الإخباريون بصرف النظر عن حقيقتها أو عدم صدقها فهي تعطينا صورة واضحة على قدم وجود قبر النبي هود في منطقة الأحقاف المعروفة بالكثبان الرملية العالية. [c1]من أول من سكن الأحقاف ؟[/c]يقول أحد الباحثين المحدثين أن أول قبيلة سكنت بلاد الأحقاف هي قبيلة حضرموت وتنتسب إلى حضرموت بن قحطان بن الهميسع بن الذبيح إسماعيل. ولكننا لا ندري هل يقصد الباحث أن قبيلة حضرموت سكنت قبل قوم عاد في الأحقاف ؟ أم يقصد أن قبيلة حضرموت هي قبيلة عاد.وفي واقع الأمر، أن الباحث اكتفى فقط بذكر اسم قبيلة حضرموت بأنها كانت أول قبيلة تسكن الأحقاف ولم يعلق على أكثر من ذلك ـ كما قلنا سابقا ـ. وأما المؤرخ سعيد باوزير فهو يقول أن المؤرخين حتى هذه اللحظة لا يعلمون علم اليقين من أول من سكن الأحقاف أو بمعنى آخر أن هناك تضارباً في الآراء والأقوال حول تلك المسألة , فالبعض يرى أن قبيلة عاد هي أقدم الأقوام التي سكنت الأحقاف. والبعض الأخر يقول إن قبيلة حضرموت هي أقدم من سكنها من القبائل وهذا ما ذكره المؤرخ محمد عبد القادر بامطرف بقوله : " من قبائل اليمن القديمة ولا يزال فروعها موجودة بحضرموت ومنهم الحموم، وثعين وأفخاذهما العديد " . والسؤال المطروح هو هل قبيلة عاد وحضرموت قبيلة واحدة ؟. [c1]بين اليمن وعمان[/c]وينفرد سعيد باوزير برواية عن مكان قبر النبي هود، فهو يقول أن النبي هود ومن آمن معه بعد أن حل غضب الله على القوم الكافرين من خلال الريح العاتية. رحلوا إلى الشحر , وهناك مات ودفن النبي هود , وأن قبره موجود في الشحر ولكن لم يعرف تماما أين موقع ذلك القبر بالتحديد. فهو بذلك ينفي أن القبر الذي يقع في شرق وادي حضرموت بالقرب من وادي برهوت لهود. ولكنه لم يسعفنا بمعلومات عن ذلك القبر الضخم الراقد في الأحقاف لمن صاحبه ؟ إذا لم يكن قبر النبي هود. وفي واقع الأمر، أن بعض المعاجم عرفت موقع الأحقاف بأنه بين اليمن وعمان إلى حضرموت والشحر. وهذا التعريف يعطينا معلومات واضحة أن الشحر المطلة على البحر العربي يقع ضمن الأحقاف. وقال الأصمعي في تحديد موقع الشحر أنها بين عدن وحضرموت. [c1]الرحيل إلى الشحر[/c]وهذا ما يجعلنا نفترض أن النبي هود بعد الكارثة التي حلت بقوم عاد الكافرين رحل إلى الشحر ـ على حسب قول سعيد باوزير ـ ولكننا مع ذلك لا نستطيع أن نجزم بأن قبره مدفون في الشحر. ولكن كل الذي نملكه هو طرح الافتراضات التي ربما توصل المؤرخين المحدثين والباحثين الحاليين إلى أقرب نقطة من الحقيقة التاريخية حول قبر النبي هود سواء كان ذلك في الأحقاف في شرق وادي حضرموت أو في الشحر، ولكن الشيء الذي أجمعت عليه المراجع التاريخية والروايات الشفوية كلها أن النبي هود مدفون في حضرموت. وفي هذا يقول القاضي محمد الحجري : " وحضرموت ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر وحولها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف وبها قبر هود عليه السلام وبقربها بئر برهوت".[c1]زمن الرحيل[/c]والحقيقة التي تؤكد افتراضاتنا بأن قبر النبي هود مدفون في الشحر هو ما ذكره المفسر الكبير والمشهور ابن كثير عندما قال أن هودا رحل إلى الشحر بعد أن حل غضب الله سبحانه وتعالى على قوم عاد الظالمة نفسها. والحقيقة يجب أن نتوقف عند توقيت رحيل النبي هود هو والذين معه. وأغلب الظن أن النبي هود رحل هو وأتباعه من أرض قوم عاد بالأحقاف إلى الشحر عندما أقترب موعد عقابهم. ويضيف ابن كثير معلومة جديدة حول مساكن قوم عاد في الأحقاف، فيقول : " وكانوا عربا يسكنون الأحقاف ـ وهي كثبان من الرمال ـ وكانت باليمن بين عمان وحضرموت بأرض منخفضة على بحر يقال لها (الشحر). ونستخلص من كلام ابن كثير أن الشحر اسم قديم موغل في القدم من ناحية أنها امتداد للأحقاف المعروفة بكثبانها الرملية. وكان رحيل النبي هود وأتباعه من المؤمنين إلى الشحر سواء بعد الكارثة أو قبلها كان شيئا طبيعيا لأن ينتقلوا إليها لأنها تناسب البيئة التي سكنوها من قبل في الأحقاف. [c1]رواية ضعيفة [/c]والحقيقة أن الرواية التي تزعم بأن النبي هود وأتباعه المؤمنين رحلوا من الأحقاف إلى مكة المكرمة للاستسقاء بعد أن وقع الجدب والقحط اللذين أصابا الأحقاف من جراء الريح العاتية التي كانت تقلع البشر، والحجر، والشجر ليس لها أساس من الصحة بسبب أن مكة المكرمة لم تُبن إلا في عهد النبي إبراهيم الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما جاء في تفسير ابن كثير المتوفى (774هـ / 1373م). ويضيف ابن كثير معلومة أخرى عن قوم عاد بأنهم أول الأمم على وجه الأرض الذين عبدوا الأصنام بعد طوفان نوح. ونسلهم يعود إلى النبي نوح ـ عليه السلام ـ. [c1]من بنى قبر النبي هود ؟ [/c]والسؤال المطروح من هو الذي بنى قبر النبي هود ـ عليه السلام ـ في شرق وادي حضرموت بالقرب من وادي برهوت الذي يطفو على وجه الأرض بطوله الفارع، وهيئته الضخمة الشكل. أجابت بعض المصادر التراثية الحضرمية أن الذي قام بإعادة بنائه هو الشيخ الفقيه حكم بن عبدالله المتوفى (878 هـ / 1473م) أي قبل أكثر من خمسمائة سنة. ولكن المصادر التراثية لا تسعفنا بمعلومات عن شكل القبر الأول الأصيل والأصلي الذي كان عليه في السابق أي قبل ذلك البناء. هل كان القبر عبارة عن لحد ثم امتدت إليه يد البناء. والحقيقة لقد امتدت إليه يد الترميم والصيانة والبناء بصورة تكاد تكون شبه دائمة. فقد ذكرت بعض المراجع التاريخية الحضرمية أن علماء وفقهاء مشهورين في حضرموت أمثال السيد الشريف أبو بكر بن محمد بلفقيه، وعلوي بن عبد الله الكاف كان لهما اليد الطولى في ترميم وصيانة قبر النبي هود وغيرهما كثير من علماء حضرموت. ويبدو أن علماء حضرموت وخصوصا شيوخ الصوفية في حضرموت الذين رأوا أن اعتقاد الناس بوجود قبر النبي هود في الأحقاف سيجعل المنطقة تتسم بالأهمية الروحية وستكون لها حظوة عند الكثير من مناطق اليمن وخصوصا في كل مكان من مناطق حضرموت وبسبب ذلك اهتموا بصيانة القبر، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى العمل على إقامة الاحتفالات الدينية بجانبه والتي تعرف بـ (الزيارة) والتي تقام في ليلة النصف من شعبان من كل عام هجري.[c1]تصميم القبر[/c]ولقد كتبت بعثة العمارة الإسلامية التابعة لجامعة الدول العربية تقريرا حول تصميم قبر النبي هود بأنه بناء حديث، استخدمت فيه مواد البناء الحديثة بصورة ملفتة للنظر وعقبت على ذلك بأنه يمكن أن يكون بناؤه جاء في وقت متأخر. وأنه لا يمكن العثور على شواهد تقودنا إلى البناء القديم الذي كان عليه القبر الأصلي الشكل. ويضيف التقرير قائلا بما معناه : " ولكن الشيء المؤكد هو أن المكان الذي يحيط بالقبر يعود إلى الأزمنة السحيقة وذلك من خلال دراسة وفحص جيولوجية الأرض.[c1]التفسير الشعبي لوجود القبر[/c]والحقيقة أن بعثة العمارة الإسلامية التابعة لجامعة الدول العربية والتي زارت قبر النبي أو ما قيل إنه قبر النبي هود في شرق الأحقاف بحضرموت بالقرب من وادي برهوت. خرجت بنتائج قيمة وهي أن الموروث الشعبي والمتمثل بالحكايات الشعبية أسهمت بدور كبير في التأكيد أن ذلك القبر هو للنبي هود وذلك من خلال الروايات الشفوية التي تناقلتها الأجيال من جيل إلى جيل وكان كل جيل يضيف أو ينقص حسب رؤيته لأحداث الحكاية. [c1]الموروث الشعبي[/c]وهناك ملاحظة سردها المؤرخ سعيد باوزير في حديثه عن نفيه بأن قبر النبي هود مدفون في شرق وادي حضرموت وذلك حسب قول الإخباريين. وبأنه يجب ألا نعتمد على معلوماتهم فهي مغلوطة وليس لها أساس من الصحة. وفي الحقيقة أن قوله ذلك يجانب الصواب. فإن روايات الإخباريين الكثير منها تحمل في طياتها الحقيقة أو قل إن شئت أنها تحمل في ثناياها جزءاً من الحقيقة التاريخية. فاعتمادنا على المصادر التقليدية في كتابة التاريخ كالوثائق المكتوبة يعد قاصرا إذا لم نقرأ الأساطير التي تروى عن مسألة (ما) لكون الأسطورة أو الأساطير تكون بمثابة النواة الأولى أو الخيط الأول الذي يقودنا إلى الحقيقة التاريخية والذي نحن بصدد الحديث عنها. أو بعبارة أخرى أن الأسطورة تفوح منها رائح الحقيقة التاريخية. ولسنا نبالغ إذا قلنا إن التاريخ هو الابن الشرعي للأسطورة . وبالأحرى أن اعتمادنا على الوثائق والسجلات المكتوبة في دراسة وقائع التاريخ واستخراج الحقيقة منها أو محاولة الوصول إلى اقرب نقطة من الحقيقة التاريخية يكون مبتورا وناقصا إذا لم نطلع على الموروث الشعبي لكشف بعض المسائل التي تغطيها سحب كثيفة من الغموض بسبب أنها موغلة في القدم أو بمعنى آخر أن التاريخ لم يولد بعد حتى يسجلها في سجلاته .. ولا يفهم من هذا أن الموروث الشعبي أو الأسطورة تحمل في ثناياها الحقيقة الكاملة ـ كما قلنا سابقا ـ ولكنها تحمل بصيصا من الحقيقة. [c1]رؤية الشعوب لتاريخها[/c]وهذا ما دفع الدكتور قاسم عبده قاسم أن يفرد صفحات طويلة في كتابه القيم (بين التاريخ والفلكلور) للموروث الشعبي والدراسات التاريخية الاجتماعية والذي كان محورها يدور حول أن الموروث الشعبي يجيب على الأسئلة التي لم يستطع أن يجيب عليها التاريخ من ناحية وأن الموروث الشعبي يعد مرآة صادقة لمشاعر العامة من الناس من ناحية أخرى.والحقيقة الذي يهمنا في هذا الصدد هو أن الموروث الشعبي الحضرمي لعب دورا هاما وبالغا في تشكيل عقول ونفوس الناس وخاصة العامة منهم بأن صاحب القبر الموجود في وادي برهوت في شرق الأحقاف بحضرموت مدفون فيه النبي هود ـ كما قلنا سابقا ـ والأحرى أن نقول إن الموروث الشعبي الحضرمي رسم على مسرح أحداث شرق الأحقاف بحضرموت في وادي برهوت روايات مثيرا للغاية بأن جعل منطقته تصطبغ باللون الروحي وتتلفع برداء القداسة عندما أكد وجود قبر النبي هود في منطقته. وكأن الموروث الشعبي يرد على المؤرخين المتغطرسين الذين لا يرون سوى أعمال الملوك، والقياصرة، والحكام ولا يلتفتون إلى العامة من الناس. فكانت الحكايات الشعبية والتي هي جزء من نسيج الموروث الشعبي ونبض قلب العامة من الناس، ومع مرور الوقت صار الموروث الشعبي من المصادر الهامة الذي اتكأ عليه المؤرخون والباحثون في دراسة التاريخ الاجتماعي وفي هذا يقول الدكتور قاسم عبده : "... لم تعد الحوليات والمدونات التاريخية والوثائق والآثار هي المصادر (المحترمة) الوحيدة في عيون المؤرخين وإنما صارت (القراءة الشعبية للتاريخ). أي رؤية الشعوب لتاريخها وتفسيرها له ـ من أهم مصادر المؤرخين المشتغلين في مجال دراسات التاريخ الاجتماعي " .ويضيف قائلا : " وصار (الموروث الشعبي) بكافة أجناسه القولية والشكلية، مادة ذات وزن كبير يقيم عليها دارسو التاريخ الاجتماعي دراساتهم ". ويضيف قائلا : " وكان هذا التطور قائما على فكرة منطقية مؤداها أنه ليس من المعقول، أو المقبول، أن ندعي أننا نفهم مجتمعا ما دون أن نعرف كيف يرى أبناء هذا المجتمع أنفسهم في مرآة الزمان، وما تفسيرهم لأحداث تاريخهم ". [c1]الروايات الشفوية[/c]قبل أن نحمل عصا الترحال (البعثة المصرية للعمارة الإسلامية وأنا) من تريم إلى قبر النبي هود في الأحقاف بأيام قليلة. تحدث إلينا بعض الناس المطلعين على الأحداث التي وقعت في المكان الذي يوجد فيه القبر. واستندت أقوالهم على الروايات الشفوية التي تناقلها الناس من جيل إلى جيل آخر. فتقول بعض الروايات أنه كل مئة عام يحدث في مكان القبر شيء عجيب وهو أنه يخترق السحب الكثيفة عمود نور ضخم متجه صوب القبر. وأنه يخرج من جوانب القبر المختلفة ومضات نور قوية تكاد تخطف الأبصار. وهذا يحدث - كما تروي الروايات الشفهية - كل مائة عام ـ- كما قلنا سابقاً. وعندما تحدثنا مع أحد الطاعنين في السن في تلك المسألة أكد لنا ذلك الخبر , وكأنها من الأمور الحقيقية والواقعية التي لا تقبل الشك. والحقيقة أن ما يعتقده الناس في حضرموت اعتقادا جازما أن قبر النبي هود يرقد في شرق الأحقاف سبب ذلك يعود إلى إضفاء نوع من القداسة والأهمية التاريخية على منطقتهم - كما ذكرنا سابقا. [c1]مدفون في حضرموت[/c]وفي الحقيقة أن ما عرضناه من آراء، وأفكار، وأقوال حول مكان قبر النبي هود الغاية منه هو الوصول إلى أقرب نقطة من قلب الحقيقة التاريخية. ولقد عرضنا في السابق الآراء والأفكار وهي الأعم والأغلب التي تقول إن القبر موضعه في شرق الأحقاف في وادي حضرموت. وهناك رأي آخر عرضناه وهو أنه يرى أن قبر النبي هود في الشحر ـ كما جاء في تفسير ابن كثير ـ. وعلى الرغم من تباين الآراء والأقوال حول مكان القبر سواء في شرق الأحقاف أو في الشحر. فإن المؤرخين المحدثين والباحثين الحاليين يجمعون أن قبر النبي هود مدفون في حضرموت وأنه لم يخرج عن تلك المنطقة. [c1]شعب نبي الله هود [/c]وقلنا سابقا إن أهل حضرموت ومن بينهم كبار العلماء أمثال العلامة عبدالرحمن السقاف متشبثون بأن النبي هود مدفون في شرق الأحقاف وأن تلك المنطقة التي فيها قبره ينبعث منها روح وريحان، والضياء والنور يملآن كل مكان. وفي هذا يصف المكان الذي فيه القبر، فيقول : " هو شعب متقد بالنور، فياض بالسرور، شبيه بمنى من حيث الاجتماع، والبهجة والدور، فلا بدع أن يجيء فيه موضع قول الشريف الرضي : فوا لهفي كم لي على الخيف شهقة ×××× تذوب عليها قطعة من فؤاديا.ويعقب العلامة عبد الرحمن السقاف على ذلك البيت من الشعر، فيقول : " وكيف لا يكون كذلك، وهو مهبط وحي، ومعقل نبوة، ومختلف ملائكة، ومتنزل سكينة. وقد دللت بالأصل على وجود نبي الله هود في حضرموت بالدلائل المجلوه... ". ولقد أكد عبد الرحمن السقاف أن قبر النبي هود من المحتمل أن يكون في الشحر , فهو ينقل عن الهمداني، بقوله : " أن قبر هود ـ عليه السلام ـ بالأحقاف بموضع يقال له الحفيف في الكثيب الأحمر ". ويضيف قائلا : " أن (شعب هود) داخل في مسمى الشحر ".[c1]وادي برهوت [/c]وادي برهوت الواقع في شرق الأحقاف بحضرموت والذي يقع بالقرب منه قبر النبي هود نسجت حوله الكثير من الحكايات الشعبية الشفوية التي تناقلتها الأجيال من جيل إلى جيل. فالحكاية أو الحكايات الشعبية تروي عنه أنه مكان غريب ومن يقترب منه يختفي في الحال. ويصفه العلامة عبد الرحمن السقاف في كتابه (معجم بلدان حضرموت) المسمى (إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت) : "وحدثني من سار إلى بيره المشهورة , وقال إنها عبارة عن غار يضيق تارة ويتسع أخرى، وهو مظلم وفيه روائح منكرة , ولما انتهينا إلى حيث انطفأت السرج لم نجسر على التقدم....". أما ابن كثير فقال عن وادي برهوت أن الأخباريين يقولون عنه إنه مكان لا يستطيع بشر الاقتراب منه ومن يحاول التقدم نحوه تتخطفه الجان فيهوي في مكان سحيق من قاع البئر، فيختفي عن الأبصار. [c1]في منتصف شعبان[/c]وفي النصف من شعبان من كل عام تقام الاحتفالات بجانب قبر النبي هود وذلك بعد أن يفرغ الناس من جني ثمرات التمر من أشجار النخيل، وتعبئته. وفيها تقام مسابقة الهجن (الجمال). وتقام أيضا الكثير من الأعراس بتلك المناسبة. وتموج الحركة والنشاط والحيوية بجانب القبر لمدة أيام يصير ليلها نهاراً مشرقاً. [c1]المراجع :[/c]القاضي محمد بن أحمد الحجري ؛ مجموع بلدان اليمن وقبائلها : تحقيق وتصحيح ومراجعة القاضي إسماعيل بن علي الأكوع، المجلد الثاني ـ الطبعة الأولى 1404هـ / 1984م. منشورات وزارة الإعلام والثقافة ـ صنعاء. سعيد عوض باوزير ؛ صفحات من التاريخ الحضرمي، مكتبة الثقافة ـ عدن. سالم علي عبد الله الجرو ؛ بلاد الأحقاف رموز وكنوز، الطبعة الأولى 1421هـ / 2001م، مكتبة التراث الإسلامي ـ الرياض ـ المملكة العربية السعودية. ابن كثير ؛ قصص الأنبياء، تحقيق : أبو عبد الله سيد توفيق، الطبعة الأولى 1418هـ / 1997 م، دار العلوم العربية ـ القاهرة ـ مصر العربية. الدكتور قاسم عبده قاسم ؛ بين التاريخ والفولكلور ؛ الطبعة الثانية 2001 م، الناشر : عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ـ مصر العربية.العلامة المؤرخ عبد الرحمن حسن السقاف ؛ معجم بلدان حضرموت المسمى (إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت)، تحقيق : إبراهيم أحمد المقحفي، الطبعة الأولى 1423هـ / 2002 م، مكتبة الإرشاد، صنعاء ـ الجمهورية اليمنية.محمد عبد القادر بامطرف ؛ الجامع، الطبعة الأولى 1424 هـ / 2003 م، الناشر : الهيئة العامة للكتاب ـ صنعاء ـ الجمهورية اليمنية.