المقابر
[c1]* الناس نيام .. فإذا ماتوا انتبهوا "صدق رسول الله"[/c]محمد علي الجنيدقالها كمن افترسه يقين غامض بأنه سيقولها للمرة الأخيرة :السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..انتم السابقون ونحن اللاحقون ..اللهم وارحمنا إذا صرنا من اصحاب القبوراللهم أجعل الموت خير غائب ننتظره واجعل القبر خير بيت نعمره ..كررها ثلاثاً وقد كاد ان يقتلع حنجرته البكاء .. ثم بسمل وبسط يديه المرتجفتين إلى الأعلى، حتى خيل إلى أنهما رجتا بطن السماء، وتلا الفاتحة والمعوذات وآية الكرسي في صوت أجش يتسلق آخر خيط في شبهات الحضور والغياب المتأرجح بين أقاليم الغيب وجغرافيا الموتى !![c1]الحيرة تطاردني[/c]كيف يمكن دق مسمار في نعش هذه الضدية الابدية والثنائية الهرمة!!؟الحقيقة التي لاريب ولاقطرة شك فيها ـ يملكها الانسان دون سلة هذا الوجود، غير القابلة للتفسخ كبقية الحقائق الوجودية، أنه راحل باتجاه الموت الرابض في قرى الغيب التي يضيء من تخومها كل يوم ثقاب أو شعلة انذار!!حتى حقيقة وجوده، محاصرة بزعانف الحيرة والشك وان لم تدهسها عربات الحياة المهرولة.ليت قابيل الذي فكر في القتل ولم يفكر فيما بعده، كان قد ابتكر طريقة لمواراة الجثث البشرية في عوالم دماغه اللامتناهي القدرات / دماغه الانساني، ظل كالأبله في انتظار الغراب الذي ارسلته المشيئة ليتعلم هو والبشرية ايضاً كتاب الموت "المقرر طبعاً علينا" من غراب !!هكذا اذن عليه دفن جثة أخيه .. كم هي صاخبة وعنيفة مفردة " اخيه" هنا وكم تسكنها ارواح الكذب والمكر والخديعة الشريرة ايضاً !!منذ ذلك اليوم اصبح الغراب نذيراُ للشؤم مع ان باعثه الحقيقي هو الانسان/ قابيل ومع انه إلى البشرية في حلة الاستاذ والمعلم الذي علمنا درساً، لاحرفاً ويفترض ان نتحول بعدها إلى عبيد له، لانه كاد يرقى إلى منزلة الرسل بحسب قول أمير الشعراء "شوقي"!!هل نامت جمرة الخيانة والشر والقتل في دمانا من يومها واستفحلت في جيناتنا الوراثية وهل نحن موصومون بالتبعية والتقليد منذ تبلد ذلك القاتل الذي خلصه الغراب وشرع لبني آدم طريقة مواراة الجسد؟!هل كان لابد ان يستهل المشهد بقطبين متناقضين شر وخير/ قابيل وهابيل !![c1]ماهي مواكب الاحتفاء؟![/c]الانسان يمر بأربعة مواكب احتفاء كبرى، يسار به على رأس جموع جيرانه وصحبه وذوي القربى ولازم في حياته تمر الاربعة المواكب أولها زفة ميلاده، وثانيها زفة زواجه وثالثها زفة حجة وعمرته، وحتى اذا ما غيبه الردى وحان اوان الرحيل الاخير تحت الثرى.كان ذلك ايضاً في موكب زفة اخرى هي الاخيرة ربما لكنها لاتخلو من الاحتفاء بها.الموت يأتي غالباً بعد مرض عضال أو اثر حادث اليم، وسواء جاء رحمة منهياً عذاب آلام المرض أو هكذا اختياراً بلا مرض أو سبب، فان جنازة الميت عقب الصلاة عليها تشيع إلى المثوى الاخير، ليس إلى قبور محفورة عرض صخور الجبال كما في حياة اليمنيين قديماً ، بل إلى لحد محفور في تراب الأرض طبعاً.وشهادة الوفاة هنا لاتحرر بالضرورة فور الوفاة من مرفق صحي ولكن تستخرج لاحقاً بشهادة خطية معمدة بختم عاقل الحارة أو الحي .. ويتم اشعار القائم على المقبرة ليقوم بالحفر مقابل ثلاثة الف ريال تورد إلى خزينة الاوقاف ومثلها أجر من سيحفر .. بينما هناك في قرى وريف عروس البحر الأحمر يتم الحفر والدفن مجاناً دون مقابل احتساباً للاجر عند رب العالمين.يتم تجهيز الميت بعد غسله وتكفينه الذي لايتم إلا بواسطة متعهدين لهم محلهم ومكاتبهم أو امام الجامع أو بعض كبار السن العارفين، ويأتي حاملاً النعش الخشبي والسجادة السوداء المذهبة بالايات القرآنية، ويتولى أهل الميت والجيران توفير الريحان وماء الورد والعود والبخور وغيرها مما تستخدم في تجهيز خروج الجنازة .تتحرك الجنازة في موكب مهيب بناسه واجوائه .. اهل الميت والأقارب والأصدقاء وسكان الحارة أو ما شابه ذلك .. يحضرون لصلاة الجنازة بلا عذر لأحد رغم انها كفاية إلا أنه ضرورة البلد تجد الجميع متنقلين بين اركان النعش مرددين توشيحات وابتهالات تشييع غاية في المواساة وفي حمد قضاء الله وفي الفرح لمن اختاره خالقه إلى جواره .يتم وضعه في "اللحد" والردم بالطين، إلى الأبد وهناك يكون زحام كسب الاجر .. اجر الحسنات عند الله عزوجل للمشيعين ولو بإلقاء حفنة من تراب داخل القبر قبل تحديده باللبن وبعد يدفن ويفرش بارتفاع شبر واحد لايزيد بنائه واحدة ويوضع عليه احجار أو أسمنت وثم تثبت شاهد الضريح المنقوش غالباً على حجر وبعد ما يقرأ سورة "يس".وثمة صوت صادح لابد ان تسمعه قبل تشكيل دوي الميت طابور تلقي عزاء المشيعين يصدح به القائم على المقبرة بايعاز من أهل الميت معلناً مسامحتهم من كان عنده دين لميتهم ورجاءهم بالمقابل مسامحة المدينين له ومحدداً مكان مجابرة العزاء.[c1]غرابة وتأمل !![/c]لو تأملنا في طبيعة حياتنا اليومية لوجدناها في غاية التشابك مع الموت الكثير من الاشياء يقود إلى الموت يذكرنا به، ديننا الإسلامي يحث على كثرة زيارة المقابر كباعث للحياة والتأمل في مصيرها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اكثروا من ذكر هادم اللذات".النوم بشكل يومي يكاد يكون ترويضاً هادئاً لرياضة الموت، لاننا نستسلم فيه للمجهول فيما ترحل الروح في أرض الاحلام والكوابيس وغابات الغيب التي لاتفقهها تفاسير الاحلام وتأويلاتها!!كل شيء يتداعى باتجاه الموت والفناء والاختفاء والغياب .. يكفي ان تحدق في راحة يديك قليلاً كي تتذكر الذين عبروا حياتك لهذا العام من احبة واصدقاء ومعارف .. ما اقسى غياب من تحب .. فقدت امي العام الماضي .. اللهم ارحمها وارحمنا معها !!يتداعون حتى تخالهم بشرية كاملة عبرت من غير أمل في عودة او لقاء هكذا دائماً يقتحم الرائع طارق حسين عرين السر الوجودي المظلم.وذات مرة في مقيل جرى الحديث عن بيوت الايجار وجشع المؤجرين واستبدادهم ومخاض قانون العلاقة بين المؤجر والمستأجر في مجلس النواب "البرلمان" وفجأة طارق حسين انعطف بالحديث إلى شعاب الموت حين قال بحزن العام الماضي فقدنا أمك يا محمد وبالامس صديقك "محمد علي عمر" وزميلك "حميد شحرة" قطف الموت هؤلاء !!يالهوس الساعة السليمانية .. سرعان ما تلبد المقيل بسحب ذكريات الموت ومن أي نافذة دخلت رياحه ومن كان ضحيته، سحب قاتمة سوداء لازمتنا حتى اليوم الثاني الذي افتتحه الزميل رجوف بقوله " لاسماح الله طارق حسين الذي مرر علينا القات.كل الأمكنة مسكونة بكيمياء الرفض، النفس ما تقنع إلا من التراب ورد في الاثر "لايملأ جفن أبن آدم إلا التراب " حين نعود إلى منازلنا لابد من طرق الباب أو دق الجرس .. ليس بيوتنا فحسب، بل حتى بيوت الله عادة ما تغلق المساجد بعد صلاة العشاء.كل الأمكنة مسكونة بها جس الدوام الرسمي ومحدودية الزوار .. ومن أنت وضع الرسالة وهل أنت موظف .. وتفتيش .. هذا المزاجية العسكرية عند بوابات الوزارات والمؤسسات ؟وحدها المقابر لاترد سائلاً أو قاصداً لحلقة علم في خصائص الارواح ورياضة الموتى واطيافهم اللزجة المبتلة بالاسرار دوماً تجدها مفتحة الابواب.هذا ان تذكرت الجهات المعنية تسويرها وتبويبها باستثناء "مقابر الشهداء" التي من الله على موتاها بحراسة امنية ولايكون افتراش ترابها، الأكثر نعومة ورطوبة الا بقرار وهذا النوع من المقابر موجود في معظم بلدان العالم ان لم يكن في جميعها من مقابر السبعة نجوم.تواضع المقابر لم يفهمه الاحياء الذي يتفننون في التنغيص على حياة الاموات .. احياناً تتحول المقابر إلى فنادق مكشوفة للمتسولين والعابرين ومن شفاهم الله من جنونه العقل والحيوانات تجد فيها السرير الاكثر أمانا في غابة البشرية .. تارة تصبح حبلاً كهربائية تجفف عليها وبكل بشاعة ملابس الاعياء والرغبة.قال رسول الله " الناس نيام .. فإذا ماتوا انتبهوا " صدق رسول الله .[c1]زفة اخيرة [/c]الأجمل في الزفة الاخيرة هو تلاشى الوحشة شيئاً فشيئاً وشبح الوحدة يتوارى عن صدور اهل الميت حين يحاطون بالمعزين ماعني محبة مؤكدة لفقيدهم .. وتخيم " الروحانية" ويمنع البكاء على الميت لان ذلك اعتراض على مشيئة الله عزوجل ويقيمون "مولد" على الميت أحدهم للرجال ،وآخر للنساء ويسدوها التوشيحات ذاتها والصلاة وقراءة الفاتحة والدعاء للميت !!قال المعري :خفف الوطأ .. ما أظن أديمالأرض الا من هذه الاجساد"كلما ذهبت للمقبرة لزيارة "قبر أمي" اللهم ارحمها .. اتذكر حينها عندما سرت في جنازتها ولم اصرخ ولكن بكيت كثيرا حين اوسدت رأسها بيدي في " اللحد" حتى ان دموع عيناي تساقطت على الكفن .. لا اله إلا الله محمد رسول الله .. توقفت للحظات غامضة عند قبرها فتحت ذاكرتي فضمتني .. والذاكرة اعلم !!اقسم أنني توقفت للحظات مجهولة الاسرار وانني شعرت في ذلك الصباح الحار ان علاقتي بمقبرة " أبو زهر" كانت استثنائية جداً ونمت فيها تلك الليلة وقمت بساحة في "الموت، والزمن ، والغياب"اللهم ارحمنا بالموت .. وكانت ليلة موحشة جداً !!