عرض/ محرر الصفحة:يدخل الطفل يومه الثاني من حياته بعد الولادة بمجموعة من ردود أفعال تساعده على التطور والبقاء ، ويتميز الأطفال بحدسهم من خلال قدرتهم على حبس أنفاسهم تحت الماء وهي غريزة نشترك فيها نحن البشر مع مجموعة من الثدييات والطيور والزواحف ، ويقل في هذه العملية عدد نبضات القلب و تدفق الدم إلى الأطراف ما يحفظ الأوكسجين للدماغ والأعضاء الحيوية لدى الطفل.لكن هذه الغريزة واحدة من ردات فعل فطرية تحمي الأطفال في الشهور الأولى من حياتهم،فلمس وجنة الطفل يجعله يدير رأسه ويرضع ، ولمس راحة يده تجعله يضم اصابعه، والجفلة تجعله يمد ذراعيه وساقيه .ولكن أكثر ردود الفعل إثارة للده شة هو المشي، ويبين ذلك أننا مفطورون على المشي، حتى الطفل الذي عمره ساعة واحدة يستطيع القيام بالحركات الضرورية عند منحه بعض المساندة.والغريب في الأمر حين يبلغ الرضيع اسبوعه السادس فإن هذه الغريزة تختفي عنده ، فحين تلمس قدما الطفل الأرض لا يعود يمشي تلقائيا ، ولكن حين نضع الطفل في الماء يعود لديه رد فعل المشي بشكل سحري ، ما يبين انه لم يفقده أصلا خارج المياه وحتى مع توفير المساندة ليست العضلات قوية بدرجة كافية لتحريك السيقان التي أصبحت ثقيلة.والمشي ليس الشيء الوحيد الذي نحن مستعدون مسبقا للقيام به.ويقول علم النفس إن هناك مفهوما شائعا بان الطفل يدخل إلى الحياة بذاكرة خالية تماما بلا أي توقعات ويجد العالم مربكا جدا وفوضويا وأشبه بوابل من الانطباعات والأحاسيس، وفي الواقع فإن هذا المفهوم بعيد جدا عن الحقيقة.وهناك رأي للطبيبة النفسية (فييال كارين وين) إن أطفال البشر يولدون بقدرات عقلية مذهلة و يجيدون حتى العمليات الحسابية. ففي مختبرها تستخدم الدمى لتعرض بواسطتها على الأطفال الصغار مسائل الجمع والطرح البسيطة، لمعرفة ما يفكرون به وهي ليست مهمة سهلة ،لذا فهي تستخدم ما يسمى طريقة مدة النظر، ويظهر هذا أن الأطفال ينظرون أفضل للأشياء التي يجدونها مدهشة وغير متوقعة لذا من الممكن أن نعرض عليهم بعض المواقف الحسابية أو العروض السحرية حيث يرى الأطفال مجموعة من الأجسام تضاف إلى عدد آخر من مخزون ذاكرتهم الحديث وإلى جانب بعض الخدع من صاحب التجربة يمكننا أن نجعل النتيجة صحيحة أو غير صحيحة.فالأطفال في سن الستة الأشهر وحتى في الأربعه الأشهر يستطيعون الجمع والطرح.ورغم اكتشاف (وين ) المثير للجدل إلا انه من وجهة النظر المنطقية يمتلك أطفال فكرة عن الحساب في وقت مبكر،وتضيف وين أنها سوف تتفاجأ إن لم تصل إلى هذه النتيجة لأنها تتناغم مع الذي وجدته مع أجناس أخرى غير بشرية .فالنحل على سبيل المثال يعرف أين يجد اللقاح عن طريق نقاط الاستدلال، بينما الحمام يستطيع معرفة زاوية الشارع التي تحتوي فتات خبز أكثر فقط من خلال نظرة خاطفة.ورغم أن الأطفال مجبولون مسبقا بمهارات وردود فعل معينة لمساعدتهم على البقاء إلا أن قدرتنا على التعلم من البيئة المحيطة أيضا هي ما تميزنا عن غيرنا، وتبدأ هذه العملية في أعماق اعقد آلة في الكون (الدماغ) فدماغ الأطفال حديثي الولادة هو آلة تعلم مدهشة وتبني نفسها مع ما يتلاءم مع بيئتها، فإذا فكرنا بطريقة صنع الكمبيوتر فسنتبع رسم الدائرة الكهربائية ونأخذ كل المكونات ونصلها بعضها ببعض ليكون لدينا دماغ ولكن أدمغتنا أكثر إبداعا من ذلك لأنها تستطيع تجهيز نفسها بنفسها.العصبونات.. أو الخلايا العصبية التي تستثار كهربائيا هي السر، وكل خلية عصبية تتواصل مع الخلايا العصبية الأخرى عبر ممرات ضيقة تدعى مشابك ، ويولد الطفل ولديه مائة مليار خلية عصبية وهي كل الخلايا العصبية التي سوف يمتلكها في حياته، ولكن سوف يتضاعف حجم الدماغ في سنته الأولى ، وما يضيفه خلال هذه الفترة من النمو المكثف هي توصيلات أكثر فأكثر.مليارات الخلايا العصبية تشكل روابط مع مليارات الخلايا العصبية الأخرى وفي النهاية سيتشكل عند الطفل ملايين ومليارات الروابط وهي روابط أكثر من عدد النجوم في المجرة.فطريقة الدماغ في تجهيز نفسه والروابط التي تبقى أمران يساعدان على تحديد طريقتنا في النمو. يقول (جيفري ليكمان) اختصاصي البيولوجيا العصبية في جامعة (هارفرد) يدرس طريقة حدوث هذه العملية لدى الفئران،«ما يبدو كالشجرة تحت المجهر هو في الحقيقة عبارة عن شبكة متشعبة من خلايا الفأر العصبية المرتبطة بعضلته ، وفي وقت مبكر تربط خلايا عصبية متعددة كل نسيج عصبي في الدماغ لكنها تخوض عدة معارك حتى يبقى لكل نسيج خلية عصبية واحدة فقط لتربطه».هذه المعارك تتكرر أثناء نمو الطفل ،إنها تعزز كثيرا من نمونا فكل خطوة يتخذها الطفل تساعد على تقوية روابط معينه وإضعاف أخرى ، ورغم أن الطفل عمره ثلاثة أشهر إلا انه عاجز مقارنة بالمخلوقات الأخرى .وهذه الحالة من عدم النضوج بالتحديد تتيح لنا التعلم من العالم المحيط بنا بطرق تعجز عنها مخلوقات أخرى ، فيعتبر الطفل مخلوقاً يتكون بشكل هزيل جدا ، قد نظن أننا نمتلك جهازا عصبيا لا يعمل ، لكن الميزة أن البشر يحظون بهذه الفرصة للتعلم وهي فرصة لاتحظى بها الحيوانات الأخرى .تخلق الحشرة على سبيل المثال وهي تمتلك سلسلة من الغرائز الطبيعية لكنها لا تتطور أكثر وهي لن تتعلم الكثير من بيئتها، فهي ليس عليها الذهاب إلى المدرسة لتعلم الطيران أو الاصطياد إنها تبدأ القيام بهذه الأمور فحسب، والمثير للدهشة أن كل المعلومات التي تحتاج إليها للبقاء موجودة لديها مسبقا .فالطفل المحروم من الخبرات الحسية والطفل المحروم من التدريب أو الاستخدام أو الممارسة يصاب بإعاقة دائمة لأننا لسنا مفطورين على ذلك منذ البداية بل علينا أن نتعلم عن طريق الممارسة.وحين يحرم طفل من المعلومات يمكن أن تسير الأمور بطريقة سيئة جدا في السنة الأولى من الحياة يمر الطفل بسلسلة من التغيرات المذهلة.وبعد مرور ثلاثة أشهر يمتلك الطفل قوة كافية في روابط الخلايا العصبية لرفع رأسه ،ومد يده للإمساك بشيء ما ، وفي عمر الثلاثة الأشهر تتشكل غالبية حاسة السمع ولكن النظر لم يتطور بعد.تحتاج أعين الأطفال إلى تحفيز من العالم الخارجي لربطها بالدماغ بالشكل الصحيح ،وفي هذا العمر حتى إغلاقها لبضعة أسابيع قد يسبب تلفا دائما لنظر الطفل . ويقول العلماء عن هذا إن هناك مجالا ضيقا للبيئة في تشكيل عملية النمو ، ولكن حين تسير الأمور بشكل جيد في دماغ الرضع سيكون النمو أكثر مرونة مما يظن معظم الناس.(ديلان نور وود ) هو مثال على المرونة التي يمكن لدماغ أن يكون عليها.. انه يبلغ الآن الرابعة عشرة ويلعب كرة القدم ويتزلج ويسبح وهو عضو في الكشافة،ولكن حين كان (ديلان) رضيعا وقعت له مشكلة مريعة حيث كان يبدو طفلا طبيعيا في البداية وحين أصبح عمره خمسة أشهر بدأ والداه يلاحظان نوباته وخلال مدة قصيرة أصبح يمر بأكثر من خمسين نوبة في اليوم.فاخبر الأطباء والديه انه أصيب بسكتة دماغية نادرة ،حيث تم إجراء التصوير المقطعي الأول له فوجدوا أن ثلاثة أرباع الجهة اليمنى من الدماغ ميت ،فقرر الأطباء أن الأمل الوحيد لحالة (ديلان) هو إجراء عملية خطيرة اسمها استئصال نصف الكرة المخية،ولاستئصال نصف دماغه الأيمن بالكامل حتى لا تتأثر الأنسجة الحية في اليسار بالمنطقة المتضررة ،وقيل لوالديه أن نسبة الوفيات في هذه العملية تبلغ 40 % حيث شعرا أنها الحل الوحيد.وقالت العائلة انه كان القرار باعتبار انه لم يكن لديهم خيار آخر إذا أردناه أن يحظى فعلا بحياة ما بعد نجاح العملية.كان الأمر مذهلا بعد العملية وكان أشبه باستيقاظه من النوم ،توقفت النوبات فورا وبدا ينمو بشكل كبير كطفل طبيعي.اليوم يدرس (ديلان) في مدرسة عادية ويأخذ جدولا كاملا من المواد مثل الموسيقى والفن والدراسات الاجتماعية والرياضيات والعلوم ومادتي اللغة رغم انه متخلف عن نظرائه بسنتين في القراءة إلا انه في مستواه الطبيعي ،مادته المفضلة هي الرياضيات وهو يطمح إلى مواصلة الدراسة إلى الجامعة بعد سنوات. باستثناء فقدانه القدرة على استخدام ذراعه اليسرى وانخفاض مستوى الرؤية الهامشية فهو يعيش حياة طبيعية رغم انه يمتلك نصف دماغ (فديلان) هو دليل حي وملموس على الليونة المدهشة لدماغ الطفل وعلى قدرته على إعادة تجهيز نفسه ليتعايش مع العالم المحيط به.