نبض القلم
اعتاد الناس أن يضعوا رسماً معيناً بأيديهم على الورق أو غيرها عند إقرارهم بمضمون ما كتب في الصك الذي وضعوا فيه ذلك الرسم الذي يسمونه (توقيعاً) للدلالة على شخصية الموقع.وللشخص أن يرسم توقيعه على النحو الذي يروق له، بصرف النظر عن الشكل الذي يظهر فيه توقيعه، فهو يدل عليه ولو تعددت أشكاله، لأن شخصيته تدل عليه مهما تعددت صور التوقيع أو أشكاله، ولهذا السبب صار التوقيع معتمداً في الشهادات والصكوك على اختلاف أغراضها وفي الشيكات والتحويلات المالية والمعاملات التجارية ونحوها.وتقتضي طبيعة المعاملات اليومية بين الناس أن يكون لكل واحد منهم توقيعاً خاصاً به يدل على شخصيته، حتى لو لم يكن صاحب التوقيع متعلماً بل أمياً بالكاد يكتب اسمه، لأن خبراء الخطوط يستطيعون بسهولة الكشف عن التوقيعات المزيفة.ولما كانت بعض التوقيعات تترتب عليها التزامات واستحقاقات كبيرة، كان لابد من توثيقها ووضع نماذج منها لدى الجهات ذات العلاقة حتى يمكن الرجوع إليها للمقارنة بالتوقيع المراد اعتماده.ولأهمية التوقيع في المعاملات وإحقاق الحقوق ظهر في التراث العربي/ الإسلامي نوع من الخط يسمى التوقيع، اختص به في أول الأمر الخلفاء والملوك والحكام المسلمون، حيث كان لكل واحد منهم توقيع خاص مميز بأنواع من الاستدارات والانحناءات في خطوطه بحيث يصعب تقليده أو تزويره، وصارت بعض التوقيعات منقوشة على خاتمه المعتمد في المعاملات الرسمية.ولسهولة بعض التوقيعات تمكن بعض مزيفي التوقيعات من تقليدها والتوقيع على بعض الصكوك الرسمية لإنجاز بعض المعاملات غير القانونية أو لتمرير بعض القضايا أو للتحايل على بعض الإجراءات، إلا أن خبراء الخطوط يستطيعون اكتشاف التوقيعات المزيفة بسهولة من خلال ملاحظتهم لمسار الخطوط واتجاهاتها، بل يستطيعون معرفة صاحب التوقيع المزيف.وعلى الرغم من شيوع التوقيع في المعاملات وأهميته في إحقاق الحقوق إلا أنه يمكن تزييفه مما ترتب على ذلك ضياع بعض الحقوق نتيجة للتزييف المتعمد أو لتشابه التوقيعات أو تقليدها، غير أنه في أوائل القرن العشرين قام العلماء ببحوث كثيرة لدراسة بصمات الأصابع، فأثبتت نتائج بحوثهم أن لكل شخص بصماته الخاصة التي تختلف عن بصمات غيره من الناس، وأن هذه البصمات لا تقبل التغيير أو التقليد أو التزييف كالتوقيع، فهي لذلك دليل قاطع على صاحبها، لا سبيل إلى الشك في صحته، وصارت البصمة من يومها معمولاً بها في دور القضاء ومراكز الشرطة في جميع أنحاء العالم، وأصبحت مكاتب تحقيق الشخصية تحتفظ بسجلات لبصمات المتهمين، ومن يشك رجال الشرطة بسلوكهم، فإذا ما عثروا على بصمة في مكان الحادث رجعوا إلى ذلك السجل، واستطاعوا أن يعرفوا منه صاحبها، ثم يقبضون عليه ويقدمونه للمحاكمة.وقد يحدث - أحياناً - ألا يكون للبصمة نظير في البصمات المحفوظة في ذلك السجل، وحينئذ يستعين رجال الشرطة بهذه البصمة على الكشف عن خصائص صاحبها كسنه أو مهنته، أو حرفته أو طوله أو جنسيته أو حالته الصحية أو غير ذلك من صفاته الخاصة. وقد استطاع العلماء أيضاً أن يبينوا نوع الجنس ويحددوا سنه من بصمات أصابعه وأن يميزوا بسهولة بين بصمة وأخرى، بل بين بصمة المرأة وبصمة الرجل. ومن بصمات الأصابع استطاع العلماء أن يحكموا على الشخص بالبدانة أو النحافة، وبسلامة الصحة من الاعتلال.ومن غريب ما وصلت إليه البحوث العلمية أن البصمة لا تتأثر بالوراثة أو الأصل، ولذلك لا تتطابق بصمات الأبناء والأشقاء تطابقاً تاماً.وقد استطاع العلماء أن يحددوا سن الإنسان من بصمات أصابعه فبصمات كبار السن مثلاً تظهر فيها خطوط بيضاء واضحة ترجع إلى أن الجلد يتكون من طبقتين: طبقة سطحية وطبقة داخلية تحتوي على الغدد الدهنية والعرقية وأعصاب الحس والشعيرات الدموية، هذه تنكمش وتضمر إذا تقدمت السن، فتظهر تجعدات تظهر في شكل خطوط بيضاء، وتظهر هذه الخطوط عادة في سن الستين.وتحدد البصمة كذلك مهنة الشخص أو حرفته، لأن كل مهنة تترك في يدي صاحبها أثراً يظهر في بصماته، فالبناء مثلاً تميل بشره يديه إلى الصلابة والجفاف، وتتآكل خطوط بصماته، لأن الإسمنت ومركبات الجير التي يستعملها بكثرة تقلل من الإفرازات العرقية، فتجف بشرته وتغلظ.وكذلك تظهر في أيدي العمال الزراعيين تشققات يحدثها استعمال مبيدات الآفات الزراعية والمخصبات، وهذه التشققات تساعد على تعيين حرفة صاحبها. ولذلك صارت البصمة في حياتنا المعاصرة وسيلة هامة وضرورية تدل على صاحبها، ويعتمد عليها في كشف المجرمين، وقد أخذت البصمة طريقها إلى الانتشار في جميع أنحاء دول العالم، وصارت معممة في المطارات والموانئ والمداخل البرية والبحرية الجوية عبر الكمبيوتر، وأصبح المسافر ملزماً بوضع بصمته في الجهاز، لتحديد هويته وشخصيته، قبل أن يسمح له بالدخول أو المغادرة.تلك بصمات الإنسان التي خلقها الله بقدرته، وهدانا إلى كشف أسرارها وإدراك فوائدها، وهي آية من آيات الله التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة القيامة بقوله: “بلى قادرين على أن نسوي بنانه” (آية 4) بما يدل على ما في البصمات من إعجاز قرآني، وسر إلهي عظيم.[c1] خطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)[/c]