بعد حصار طويل ومواجهات دامية ورهيبة استمرت 106 أيام تمكن الجيش اللبناني مؤخراً من تحقيق نصره الساحق على تنظيم (فتح الإسلام) الذي تحصن بمخيم نهر البارد بعد أن سطا على بنك البحر المتوسط في بلدة أميون،. ونصب كميناً غادراً للجيش ومارس إرهاباً وقمعاً ضد الأهالي بهدف بث الرعب والفوضى وتحدي سلطة الدولة لتحقيق مخطط في سلخ محافظة شمال لبنان وتحويلها إلى (إمارة طرابلس الإسلامية) تكون دويلة (القاعدة) في بلاد الشام، وبديلة عن دولة (طالبان) الحلم الذي أجهض. استشهد في تلك المواجهات 163 جندياً وضابطاً والعديد من الضحايا المدنيين وقُتل وأسر 424 عنصراً من فتح الإسلام ودمرت أجزاء كبيرة من المخيم وتم تهجير نحو 30 ألفاً من سكانه ومن القرى المجاورة. لقد احتفل اللبنانيون بهذا الانتصار وهللوا لجيشهم ورفعوا الأعلام ورشوهم بالورد والأرز، وقد حق لهم ذلك فقد دفعوا ثمناً غالياً من أرواحهم. في التحقيق مع المقبوض عليهم من فتح الإسلام اتضح أنهم من جنسيات عربية عديدة، معظمهم لبنانيون، يليهم فلسطينيون، ثم بعض السعوديين والسوريين والتونسيين والجزائريين، ومعظمهم شباب في العشرينات، ما الذي أتى بهؤلاء إلى مخيم نهر البارد؟! ومن الذي زين لهم هذا الموت (العبثي)؟! ولماذا فضلوا الموت على الحياة! وما هي الأيديولوجية الدينية التي هيمنت على عقولهم ونفوسهم فاعتقدوا أنهم في حالة جهاد ومقاومة؟! وبأي عقل ودين يكون التدمير والتفجير وإرعاب الآمنين مقاومة وجهاداً؟! مثل هذه التساؤلات يطرحها الإنسان العربي البسيط مندهشاً ومحتاراً ومستنكراً تدهور الأوضاع العربية التي أفرزت مثل هذا الظواهر السلبية! من هم فتح الإسلام ولماذا تحصنوا بنهر البارد؟ (فتح الإسلام) فصيل ديني مسلح انشق عن (فتح الانتفاضة) والذي بدوره منشق عن (حركة فتح) الأم، الانشقاق وتناسله، قانون غلاب حكم مجمل النضال الفلسطيني وألقى بظلاله السلبية على كافة الحركات والأحزاب العربية منذ الخمسينات، أما السبب في تحصنهم بمخيم نهر البارد فلأن المخيمات الفلسطينية في لبنان وعددها 16 مخيماً يقطنها أكثر من 400 ألف فلسطيني، خارج سيطرة الدولة اللبنانية بموجب اتفاق القاهرة 1969 الذي منحها أمناً خاصاً بها لا يجوز لرجال الأمن دخولها مما حولها إلى ملاذ آمن للخارجين على القانون وهيأها ساحة مفضلة للتنظيمات الأصولية التي وجدت فيها مناخاً خصباً لجذب الأنصار بحجة ( المقاومة) و(الجهاد) منذ التسعينات.. ومخيم (نهر البارد) بالذات به ملاجئ محصنة تحت الأرض منذ عدة طبقات ولهذا طال أمد المواجهة فضلاً عن شراسة المقاومة والخبرة القتالية السابقة لعناصر فتح الإسلام في العراق، إضافة إلى التمترس بالنساء والأطفال، وفي ذلك ما يجيب عن تساؤل د. البغدادي وغيره: هل هذه دولة أم مخيم؟ كتب يقول: «في كل يوم يقتل جندي لبناني ويتساءل العاقل: لو كانت عصابة فتح الإسلام الإرهابية دولة، ماذا هو الحال الذي ستكون عليه الدولة اللبنانية؟!». ولكن التساؤل الأهم والذي يحتاج إلى دراسة تاريخية سوسيولوجية للعالم الإسلامي لنفهم أسباب ازدهار الحركات المتطرفة وبخاصة تلك التي تتخذ ميليشيات مسلحة، تنازع الدولة سلطتها وتريد الاستحواذ على دولة أو إمارة خاصة بها، بزعم إقامة الشريعة حسب مفهومها!! فأينما وجهت بصرك على امتداد الساحة العربية خاصة والإسلامية عامة رأيت جماعات أصولية منظمة تنازع حكوماتها وتشهر السلاح في وجهها، ليس السلاح التقليدي القديم، السيف، وإنما الصواريخ والمدفعية الثقيلة، بل عند بعضها من الأسلحة ما لا يتواجد عند بعض الجيوش، مثل (الجماعة السلفية) في الجزائر التي تقابل الدولة منذ (16) عاماً، وجماعة (الحوثيين) في اليمن، و(طالبان) في أفغانستان،. والجماعات المسلحة في باكستان، ومنها (طلاب المسجد الأحمر) و(حماس) التي دبرت انقلاباً دموياً واستقلت بغزة، و(حزب الله) الذي كون دولة (المربعات الأمنية) المستقلة بعلمها وسلاحها وإعلامها وفضائياتها ومحاكمها وخدماتها وأخيراً شبكة الاتصالات التليفونية، و( المحاكم) في الصومال، والميليشيات المسلحة في العراق بدءاً بجيش المهدي مروراً بمسلحي السنة وانتهاء بالعصابات الإرهابية التي تمارس القتل والتفجير والتخريب بلا رحمة ودون تمييز. جميع تلك التنظيمات الدينية المسلحة تجمعها قواسم مشتركة، منها: أن ولاءاتها ليست لأوطانها ومجتمعاتها بل هي عابرة لحدود الوطن إلى أيديولوجية دينية حاكمة، ومنها أنها: تتوسل بـ (الجهاد) و(المقاومة) ذريعة لقدسية (سلاحها) وممانعتها لتجريدها منه، ومنها أنها تعد من سقط منها في نزاعها مع الدولة شهيداً بالرغم من تسببه في مقتل المئات من الأبرياء ـ لا عجب أن يصرح شقيق العبسي وهو طبيب أن شقيقه (شهيد) نال ما يصبو إليه! جميع تلك الميليشيات المسلحة بأسها شديد على مواطنيها وتخوض حروباً أهلية مقنعة باسم ( المقاومة) وهي دائماً تصطنع عدواً خارجياً، وتتهم خصومها بالعمالة والخيانة لشحن الجماهير واستمالتها إلى صفها. وجميعها تشكل كابوساً أسود إذا وصلت إلى السلطة بالنسبة لمستقبل الثقافة والفنون والآداب والحقوق والحريات المدنية، وجميعها فاشلة بامتياز في البرامج التنموية والإنتاجية، وكلها تدعي أن فهمها للإسلام هو الصحيح، لكن الأخطر أن هذه التنظيمات تتسبب بتصرفاتها السيئة ومغامراتها الكارثية في إتاحة الفرصة المناسبة للتدخل الخارجي. السؤال الآن: ما هي العوامل التي أسهمت في نمو وانتشار تلك التنظيمات المسلحة والمتمردة على حكوماتها ودولها؟! بداية يجب أن نوضح أن هذه الظاهرة ليست حديثة فقد لازمت الخلافة الأموية بل قبلها إبان عهد الخلافة الراشدة متمثلة في (الخوارج) وكافة الحركات المتمردة على امتداد التاريخ الإسلامي والتي شكلت دويلات إسلامية متحاربة، وربما ضعفت خلال الفترة الاستعمارية وعهد الوصاية لتبدأ الظهور ثم تتعاظم شيئاً فشيئاً بداية بعهود الاستقلال الوطني ليستفحل خطرها في السنوات الأخيرة. هناك من يفسر الظاهرة أن (الدولة الوطنية) الحديثة، ومنذ الاستقلال لم تنجح وحتى الآن في ترسيخ جذورها بالرغم من مظاهر ومؤسسات ودساتير الدولة الحديثة، إذ ما زالت شرعيتها هشة أو منتقصة ولم تفلح في إعلاء قيمة (الانتماء الوطني) وتكريسه في التربة المجتمعية. باعتباره الولاء الأسمى فوق كل الولاءات الأولية الأخرى كالطائفية والقبلية والمذهبية والأيديولوجية الدينية ولذلك يقولون إننا ما زلنا في مرحلة المجتمعات شبه السياسية ولم نتحول إلى دول حقيقية لأن الدول ليست مجرد نشيد وعلم ومؤسسات حديثة بل هي دولة القانون والمساواة والحرية والحقوق المدنية واستقلال القضاء والإعلام الحر. وهذا الضعف أدى إلى زيادة تعصب المرء لقبيلته أو طائفته أو جماعته الدينية والاحتماء بها باعتبارها الملاذ الآمن من قسوة السلطة وأيضاً للحصول على المغانم والمصالح والنفوذ والمجد الشخصي وقد انتعشت القيم القبلية بشكل أكبر بعد حرب الخليج الثانية وغزو الكويت. كما يقول عبدالله بن بجاد (فقد كان الحدث ضخماً بكل المقاييس، هزته الاجتماعية تركزت في إضعاف الولاء للدولة الحديثة وإضعاف قناعة الناس بقدرة الدولة على حمايتهم من العدوان وإشعارهم بالأمان التام، وفي هذا السياق فقد هربت أسر كويتية كثيرة والتجأت إلى أقربائها وامتداداتها القبلية في السعودية والخليج فانتعش الشعور القبلي في صدور الناس من جديد). وهناك من يربط الظاهرة بتقديسنا وتمجيدنا لثقافة (المقاومة)، إذ باسم (النضال) عسكرنا نظمنا وثقافتنا ومناهجنا وإعلامنا وخطابنا الديني والثقافي وحتى مفاهيمنا، ومنها مفهوم ( الوطنية) التي حولناها من مفهوم تنموي حضاري بنائي إلى مفهوم سلبي هدام، فأنت ( وطني) بمقدار عدائك لإسرائيل وكراهيتك للغرب وشتمك لأميركا، وباسم (المقاومة) شاعت ثقافة (التخوين) و(العمالة) و(التكفير) وغفرت خطايا وآثام واستبداد وهزائم المستبد الوطني. وأضعنا (التنمية) و(الثروة) و(الإنسان) وبعد نصف قرن من الفشل في (النضال) انقلب سلاح (المقاومة) على مجتمعاتنا وحكوماتها، ولكن هذه المرة باسم (الجهاد) الديني بعد أن كان نضالاً وطنياً. تريد تلك الجماعات السلطة بعد أن فشلت في تحرير الأرض بحجة تطبيق الشريعة واستعادة الخلافة. القوميون باسم النضال أهدروا الثروة وغيبوا الإنسان، والأصوليون باسم الجهاد يريدون تضييع الأوطان. [c1]نقلاً عن / صحيفة (البيان) الإماراتية [/c]
التنظيمات الأصولية المسلحة وشرعية الدولة
أخبار متعلقة