محمد زكريافي فجر يوم من أيام سنة (820 ـ 822 هـ / 1417 ـ 1419م) استيقظت مدينة عدن من سباتها على أسطول ضخم ملأ الأفاق ، وغطى مياه بحرها. وكان ذلك الأسطول العملاق الذي بث الرعب والخوف الكبيرين في نفوس أبناء عدن الذين لم يشاهدوا مثله في الضخامة والعدد الكبير عبر تاريخ مينائهم الطويل أسطول الإمبراطور الصيني (ابن السماء) القادم من أقصى المعمورة في الأرض من مملكة الأسرار وهي الصين. والحقيقة أن المصادر الصينية القديمة قد حفظت لنا وقائع تلك الزيارة الصينية لميناء عدن بصورة تفصيلية ودقيقة . [c1]طريق الحرير [/c]في يوم من الأيام ظهر على مسرح الحياة السياسية في العالم حينذاك شخصية دموية شغلت الدنيا وقلبت الموازين السياسية والأمور الاقتصادية في كثير من مناطقه رأسا على عقب أنه تيمورلنك . كانت جحافل جيوشه أشبه ما تكون بطوفان ضخم أغرق الممالك والكيانات السياسية أو قل قد أزالها من الوجود . فكانت جيوشه الجرارة تدمر الحجر والشجر, وتحرق القرى والمدن والبلدان الضاربة جذورها في أعماق الحضارة الإنسانية . ولقد توجه تيمورلنك إلى العالم الإسلامي أو بعبارة أدق إلى أهم مناطق في العالم الإسلامي وهي الشام ، العراق ، وما وراء النهرين . وفي طريقه إلى الصين رحلت تلك الشخصية البشعة من مسرح الحياة . ولكن آثاره المدمرة شوهت الكثير من المناطق التي وطأها . فقد دفن الطريق التاريخي البري الذي يصل أوربا بالصين والمعروف باسم طريق الحرير والذي كان في يوم من الأيام ملء السمع والبصر في رمال الخوف والفزع , ولم يعد طريق آمنا يسلكه التجار كما كان سابقا أي قبل ظهور تيمورلنك بفترة طويلة . وكانت تلك ضربة قوية للإمبراطور الصيني الذي وجد نفسه وإمبراطوريته في موقف اقتصادي غاية في الصعوبة وذلك بعد أن توقف شريان الحياة في ذلك الطريق الهام . وكان لا بد من التفكير في إيجاد طريق آخر يعيد النشاط التجاري للصين مع الدول الأخرى التي كانت تتعامل معها . وكان ذلك الطريق هو البحر. والسؤال المطروح هو هل كانت هناك علاقة وثيقة وقوية بين العرب المسلمين ومملكة الأسرار الصين دفعت بالأباطرة الصينية الإبحار في المحيط الهندي ، والبحر العربي ، والخليج العربي والوصول إلى سواحل شرق أفريقيا ؟. [c1]في عهد الخليفة عثمان بن عفان[/c]وفي الحقيقة أن المصادر التاريخية الإسلامية ، والمصادر الصينية القديمة , والشواهد والدلائل المادية و الملموسة قد أكدت أنه كانت هناك علاقة تجارية ودبلوماسية بينهما موغلة في القدم. و لقد روت كتب التاريخ أن العلاقة العربية الصينية تعود في عهد خليفة المسلمين عثمان بن عفان ، فقد وصل رسول من الخليفة إلى الصين في عهد الإمبراطور قاوتسنغ عام 651 ميلادية ( 30 ــ 31 هجرية ) . و أن العلاقة الدبلوماسية بين بلاد العرب والصينيين استمرت بالتواصل وذلك في عهد الخلافة الأموية عندما وقف القائد العربي قتيبة بن مسلم الباهلي على أبواب الصين . وفي عهد الخلافة العباسية في فترة حكم الخليفة أبي جعفر المنصور .[c1]شهادة من سفينة غارقة[/c] ويفيد المفكر الإسلامي فهمي هويدي في كتابه ( الإسلام في الصين ) بأن أول اتصال تجاري عربي صيني كان عبر تاجرا عمانيا يسمى أبو عبيدة عبد الله القاسم " الذي أقلع من عمان إلى كانتون حوالي عام ( 133 هـ / 750 م ) لشراء الصبار والأخشاب . وهو الرجل الذي يقول عنه العمانيون إنه أول من أطلق عليه وصف (( السند باد )) " ومن الدلائل والقرائن المادية التي تؤكد قدم العلاقة بين بلاد العرب والصينيين هو العثور على سفينة خشبية في قاع خليج تسي تون في الصين في سنة 1974 م وهي " ... بحالة جيدة ، ويرجع تاريخها إلى ما بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر ، وبدا واضحا لأول وهلة أنها سفينة تجارية ، إذ كانت من النوع الكبير ... وعثر في مقصورتها على بقيا خشب الصندل المعطر وعقاقير طبية ولبان وفلفل ، ودرع سلحفاة ، وبخور وعنبر ، كما عثر في الجزء المطمورة من السفينة على لوحة خشبية كتب عليها اسم (( علي )) ربما كان اسم صاحب السفينة ، أو احد التجار العرب الكبار". ويمض فهمي هويدي في حديثه : " ومنذ سنوات عديدة أيضا عثر في أطلال مدينة الفسطاط جنوب القاهرة ، على الألوف من أواني القيشاني الصيني . وثبت من الفحوص أنها من منتجات محافظة يويياو بمقاطعة تشجيانغ في أسرة سونغ . ونقلت إلى مصر على يد التجار العرب ، عبر الشام ".[c1]الخليج العربي والصينيون[/c] وفي نفس السياق أكد الدكتور شوقي عبد القوي ، أن العلاقة بين بلاد العرب والصينيين تعود إلى ما بعد ظهور الإسلام في فترة ليست بطويلة ، وأنه لا يوافق على ما زعم بعض المؤرخين الغربيين أن العلاقة بينهما كانت غير معروفة حتى أواخر القرن الثاني عشر الميلادي . فقد ذهب هيرث إلى القول بأن عدن المطلة على البحر العربي ، وسيراف المطلة على الخليج العربي " لم تكونا معروفتين لدى الصينيين حتى أواخر القرن الثاني عشر " . ويعقب شوقي عبد القوي على ذلك الرأي ، فيقول : " ومعنى ذلك أن الملاحة الصينية لم تكن حتى ذلك الوقت قد وصلت إلى السواحل العربية ". ويطرح عددا من البراهين والدلائل التي تدل على أن العلاقة التجارية العربية الصينية كانت قبل ذلك التاريخ بفترة طويلة الذي أشار إليه عنه . فهو ينقل عن السيرافي المتوفى ( 329 هـ / 950 م ) ، كالتالي : " أن أكثر السفن الصينية تحمل من سيراف ، وأن السلع تحمل إلى سيراف من البصرة وعمان ، حيث تحملها أيضا السفن الصينية . كما تتزود السفن بالمياه العذبة من سيراف " . ويضيف قائلا : "أما المسعودي ( ت 346 هـ / 957 م ) فيذكر أن، مراكب الصين كانت تجتمع مع مراكب المسلمين في كله ( في الملايو ) عرفت فيما بعد القرن الخامس عشر الميلادي باسم ملقا . ولكن قبل ذلك في بدء الزمان كانت مراكب الصين تصل إلى سيراف ، وساحل البحرين ، والأبلة ( عبدان حاليا ) والبصرة ". [c1]في شرق أفريقيا[/c]وكانت هناك علاقات تجارية كبرى بين الصين والمناطق الواقعة على شطآن المحيط الهندي وذلك ما أكدت عليه الكشوف الأثرية عندما " أكتشف أكثر من 240 قطعة عملة صينية في أماكن متعددة من شرق أفريقا ، وهي تمتد من عصر أباطرة تانج ( 201 ــ 294 / 816 ــ 906 م ) حتى تصل إلى فترة حكم سونج ( 349 ــ 669 هـ / 960 ــ 1270 م ) . [c1]جسور حضارية[/c]وفي واقع الأمر ، أن التجار العرب كانوا الوسطاء بين البضائع والسلع الصينية وسلع بلاد العرب وغيرها كشرق أفريقيا . وكان هؤلاء التجار إلى جانب أنهم كانوا وسطاء بين العرب والصين في مجال التجارة . كانوا يمثلون جسورا حضارية بين العرب والصين , و في هذا يقول الأستاذ فهمي هويدي " ... لم ينقل العرب الحرير والخزف والشاي فقط . ولكنهم نقلوا معها أيضا صناعة الورق ، والبارود ، والإبرة المغناطيسية إلى بلاد العرب. وفي الكتابات الصينية أن أول مصنع للورق أنشء خارج الصين على أيدي العرب كان في بغداد عام 794م ، وأن الطباعة دخلت بغداد في الفترة ذاتها ، ثم انتقلت صناعة الورق إلى دمشق ثم القاهرة والإسكندرية ومنها إلى صقلية ثم أسبانيا وأوروبا ". الحقيقة أن الصين استفادت بشكل كبير من دخول العرب إلى أراضيها أو بمعنى أوسع استفادت من العلوم والمعارف الذي نقلها التجار العرب إليها . وفي هذا يقول فهمي هويدي : " وبالمقابل نقل العرب إلى الصين علوم الطب والرياضيات والفلك فنجحت الصين في زراعة الأعشاب الطبية الواردة من بلاد العرب . حتى عرفت اللغة الصينية بعض أسماء العقاقير الطبية المتداولة عند العرب ، والأحجار الكريمة مثل : روشيانج ( اللبان العربي ) ، ودواء موياو من (( المر العربي )) وخلوصبا ( الحلبة ) ، ويابلو من جذور الداتورة ( من النباتات الطبية ) حتى ( التربة ) فإنها تنطق بالصينية ( توبا ) ومن الحجار الكريمة ياقو ( الياقوت )، وزمولا ( الزمرد([c1]آفاق واسعة[/c]وفي الحقيقة أن تلك المعلومات الذي ساقها الأستاذ فهمي هويدي فتحت آفاق واسعة في مجال العلاقة بين بلاد العرب ومملكة الأسرار الصين أو بعبارة أخرى أنه كشف جوانب أخرى غير التبادل التجاري بين بلاد العرب والصين وهو أنه كان هناك تبادل ثقافي أو جسور ثقافية وحضارية عميقة بينهما . استفاد وأفاد كل واحد من الآخر. وبناء على ما تقدم ، فإن دراستنا حول زيارة الأسطول الصيني لعدن يجب ألا تقتصر على الجانب التجاري فحسب بل يجب دراسة الجانب الثقافي والحضاري فيها . وربما يكون ذلك الأثر الثقافي غير ذا بال أو آثاره محدودة وغير واضحة نظرا أن الأسطول الصيني مكث قرابة شهر في عدن وهي تعد فترة قصيرة جدا حتى تظهر فيها أثر التبادل الثقافي بينهما . وبالرغم من ذلك فإن المصادر الصينية سجلت العادات والتقاليد , والمراسيم الخاصة بالبلاط الملكي اليمني في عهد الملك الناصر الرسولي بصورة تدعو إلى الإعجاب . وسوف نذكر ذلك بالتفصيل بعد قليل .[c1]ما أسباب إبحار الصينيين ؟[/c]والسؤال المطروح هو ما هي الأسباب المباشرة وراء إبحار الصينيين إلى المحيط الهندي والبحر العربي ، والخليج العربي ؟ . ولقد أجاب على ذلك السؤال أحد الباحثين بأن اكتشاف الصينيين للبوصلة شجعهم على ركوب المخاطر ، والإبحار مباشرة في عرض البحر بدلا من محاذاة الساحل . ومن العوامل الأخرى التي طرحها الباحثون حول أسباب ازدهار الحركة التجارية في الصين وتوسيع رقعتها إلى البلدان البعيدة عنها أو بالعكس عندما تذبل الحركة التجارية في الصين يعود في الأساس إلى الأباطرة الصينيين دون الاستناد إلى قرار اقتصادي في اتخاذ هذا القرار أو ذاك . فالقضية الاقتصادية تعود إلى تفكير ورؤية الإمبراطور نفسه ومدى قدرة تأثير الموظفين الحكوميين المرتبطين بالشئون التجارية والاقتصادية على أقناع الإمبراطور بتشجيع الحركة التجارية والإبحار نحو بلدان المحيط الهندي ، والبحر العربي ، والخليج العربي أو العزلة عن بلدان العالم الأخر ، والتقوقع في داخل الصين . ولكن هذا الرأي الأخير سرعان ما يتبخر ، ولكن سرعان ما ينتصر رأي أنصار الانفتاح و أن تمد الصين نظرها إلى بلدان العالم الآخر. وهذا ما أكدت المصادر الصينية بأن فترة الانغلاق كانت فترة غير طويلة . [c1]بعثة تجارية صينية[/c]وفي خبر أن الإمبراطور الصيني في القرن العاشر الميلادي أمر بتجهيز بعثة تجارية هدفها تشجيع وترغيب التجار الأجانب إلى السفر إلى بلاده . " ... وقد زود أعضاء تلك البعثة بأوراق الاعتماد والأموال لشراء البضائع ، وتضمنت هذه الأموال سبائك ذهبية وبضائع عالية القيمة ". [c1]نمو قوة الأسطول الصيني[/c] وأغلب الظن أن من الأسباب الرئيسة التي دفعت الإمبراطور الصيني إلى الإبحار إلى المحيط الهندي ، والبحر العربي ، والخليج العربي أو بعبارة أخرى الإبحار خارج مملكة الأسرار الصين هو نمو قوة الأسطول الصيني بصورة ملحوظة حتى صار له عدد من المحطات التجارية الهامة في الهند كميناء كيلون ، وميناء فاليقوط . وفي الميناء الأخير شاهد الرحال ابن بطوطة السفن الصينية التجارية الضخمة المعروفة باسم (( الخنك )) وهي تستعد للرحيل إلى موطنها الصين . وأما المؤرخ عبد الله محيرز يزيد في توضيح الأسباب التي دفعت الإمبراطور الثالث من أسرة منج (( يونج ــ لو )) الذي شجع المشروعات البحرية الكبيرة في المحيط الهندي , فيقول : " ووضعت أسباب عدة لهذه الرحلات منها : اقتصادية كإيجاد أسواق ، وطرق تجارية بعد إغلاق طريق التجارة التقليدي عبر أواسط آسيا نتيجة حروب تيمورلنك ( وهو طريق الحرير ) ، ورومانتيكية كملاحقة إمبراطور سابق هارب أو مختبئ في مكان ما في هذا المحيط الرحيب ، وسياسية كالسيطرة على الشعوب (( البربرية )) وإخضاعهم للبلاد المركزية : الصين ، أو فرض نظام الحرية عليهم أسوة بما هو متبع في الصين نفسها ".[c1]الشعوب البربرية[/c]وفي الحقيقة يجب أن نتوقف عند عبارة قالها المؤرخ الله محيرز وهي : " وسياسية كالسيطرة على الشعوب البربرية ، وإخضاعهم للبلاد المركزية الصين ". أن من يطلع على السجلات الصينية القديمة سيلفت نظره أن العقيدة الصينية تؤمن إيمانا عميقا أنهم من جنس آخر راقٍ عن الشعوب الأخرى التي تعيش على سطح الأرض ولذلك تسميهم بالشعوب (( البربرية )) . وفي هذا الصدد ، يقول فهمي هويدي : " إذ كانوا يعتبرون أنفسهم ( أي الصينيون ) في الأزمنة القديمة جنسا أرقى من الآخرين ... وكل تعامل خارجي لهم . كان يصاغ على اعتبار أنه أحدى صور التبعية والخضوع ، والتماس العفو أحيانا حتى أن إمبراطور الصين عندما استقبل الرحالة البندقي الشهير ماركو بولو وأباه وعمه ، في عهد قريب نسبيا ( عام 1295م ) فإن السجلات الصينية تذكر أن الإمبراطور استقبلهم باعتبارهم (( رسلا أذلاء من الغرب الناشئ )) . وهذا ما دفع برسول الإمبراطور الصيني عندما تحدث للملك الناصر الرسولي ملك اليمن ــ الذي حكم اليمن قرابة 24 عاما ـــ أن يقول له ، العبارة التالية : " أن سيدك صاحب الصين يسلم عليك ، ويوصيك بالعدل في رعيتك " . ولقد عقب المؤرخ ابن الديبع المتوفى سنة ( 944 هـ / 1537م ) على عبارة رسول الإمبراطور الصيني ، بقوله " أن ملك الصين يظن أن الناس عبيده ، والظاهر أن فيهم حمقا وجهلا بأحوال البلاد وملوكها ، وإلا فالأدب موجب لمن تحقق من نفسه الكمال أن لا يخطب غيره إلا باللطف والجمال". [c1]الصينيون قادمون [/c]قام الأسطول الإمبراطوري الصيني بسبع رحلات إلى العديد من البلدان المطلة على المحيط الهندي . وكان عدن نصيبها الرحلة الخامسة ، السادسة ، والسابعة . ويصف عبد الله محيرز الأسطول الصيني الذي ألقى الذعر في نفوس أهالي المدن الساحلية عندما رأوه يطرق أبوابهم , فيقول : " وأيا كانت هذه الأسباب فإن بعثة كهذه تصل عدد سفنها إلى أكثر من ثلاث مائة ، وقوامها حشد يبلغ تعداده أكثر من 37000 فرد خليق بأن تلقي الرعب والهيبة في قلوب من تتوجه إليهم ، أو أن يساء فهم هدفها على أقل تقدير " . ويضيف قائلا : " بل إنه من المؤكد أن الدول المعاصرة قد أقلقها هذا التحرك المريب ، فقد قام الأسطول ــ فعلا ــ بتدخل محدود في بعض الشؤون الداخلية لبعضها ، واستعراض للعضلات في مقدشوه والأسعاء ( من أعمال الشحر ) وعدن ، وفسرها أكثرهم على أنها محاولة للسيطرة عليهم أو إشعارهم بالتبعية لهذا البلد العملاق ، وحاولوا مداراة مبعوثي إمبراطورية الصين بالتي هي أحسن ". [c1]الرحلة الخامسة[/c]والحقيقة أنه الذي يهمنا من تلك الرحلات السبع الذي قام بها الأسطول الصيني هي الرحلة الخامسة التي وقعت في سنتي ( 820 ـــ 822 هـ / 1417 ـــ 1419 م ) حيث قام جزء من ذلك الأسطول الضخم بزيارة عدن ، الأسعاء ( تقع بين الشحر وظفار ) ، و مقدشوه . ويذكر عبد الله محيرز أن الأسطول الصيني الزائر للأسعاء قد أستعمل القوة . ولكن لم يوضح الأسباب التي دفعتهم إلى استعمالها . وربما توجس أهل مدينة الأسعاء المطلة على البحر العربي خيفة من الغاية التي جاء من أجلها الصينون ، فظنوا أنهم قدموا للاستيلاء على مدينتهم، فبادروهم بالقوة والهجوم على ذلك الأسطول الذي كان يحمل على متنه جنوداً ، وبحارة ، وعددا من الأسلحة الفتاكة المعروفة حينذاك . ويصف خط سير الرحلة الخامسة الدكتور شوقي عبد القوي ، فيقول : " وقد بدأت عام 820 هـ / 1417 م ، وعادت عام 822 هـ / 1419م ، وقد أنفصل عن تلك الرحلة أيضا جزء من الأسطول دار حول الساحل الشرقي لأفريقيا والشاطئ الساحلي الجنوبي للجزيرة العربية ( أي عدن الأسعاء من أعمل الشحر ) . ويصف عبد الله محيرز تلك الرحلة الخامسة للأسطول الصيني ، والأولى بالنسبة لزيارته لعدن ، فيقول : " أما زيارته ( مندوب الإمبراطور الصيني شنج ــ هو ) إلى عدن فقد وثقتها المصادر اليمنية توثيقا جيدا . إذ كانت في عهد الملك الناصر أحمد بن إسماعيل الرسولي ( 803 ــ 827 هـ ).وقد كتب عنها المصدر اليمني ، قائلا : " وصول مراكب الزنك ( نوع من السفن الصينية الضخمة الحجم ) إلى الثغر المحروس ، ومعهم رسول من صاحب الصين بهدية سنية لمولانا السلطان الملك الناصر في شهر ذي الحجة الحرام سنة 821 هـ ". [c1]هدايا الإمبراطور الصيني[/c]ويضيف المصدر اليمني : " وبعد ما يقرب من شهر ونصف من وصولهم إلى عدن استدعاهم الملك الناصر إلى تعز : " دخل مولانا السلطان الملك الناصر دار الجند من المحطة المحروس المنصورة ، وزفت هدية ملك الصين إليه " . وتصف المصادر اليمنية هدايا الإمبراطور الصيني إلى الملك الناصر الرسولي ، فتقول : " وكانت هدية فاخرة فيها : من أنواع التحف ، والثياب الكمخات المذهبة المفتخرة والمسك ألعال ، والعود الرطب ، والآنية الصيني أنواع كثير . قومت الهدية بعشرين ألف مثقال". [c1]هدايا الملك الناصر [/c]ولقد وصفت المصادر اليمنية هديا الملك الناصر للإمبراطور الصيني بأنها كانت هدايا ثمينة ضمت على عدد من الحيوانات الغير معروفة في الصين ، فتقول : " أمر مولانا الملك الناصر بتجهيز صاحب الصين بهدية عوض هديته فيها : من الوحوش كالمها ، وحمر الوحش ، والأسود المؤلفة ، والفهود المؤدبة " . وكانتا أبرز هدايا الملك الناصر للإمبراطور الصيني ألمها ، والزرافة ، ويعقب عبد الله محيرز على تلكما الهديتين ، فيقول : " والأولى ( ألمها) اشتهرت بها اليمن . أما الثانية فلا شك أنها مستوردة من أفريقيا . وقد أدهشت الزرافة البلاط الصيني ، وأعجبوا بها إعجابا صورته المصادر الصينية عند رؤيتهم لها : " وتطاولت أعناق الجميع للنظر إليها ، وتارة يهرولون إليها وتارة يهربون منها خوفا وفزعا . فقد كان يظنون أن هذه حيوانات يسمع بها ويستحيل رؤيتها في الصين " . [c1]عدن ( أتان)[/c]وأما الرحلة السادسة فقد تكونت من أحدى وأربعين سفينة ، وأنفصل عنها عدد من السفن واتجهت نحو عدن سنة ( 824 ــ 825 هـ / 1421 ـــ 1422 ) . والحقيقة أن أحد المرافقين للأسطول الصيني والذي اتجه صوب عدن وهو ( ما ــ هوان ) وصف بصورة مستفيضة ودقيقة طبائع أهل عدن , وتعز ، وأسواقها ، وعادات وتقاليد الملك الناصر في المناسبات الدينية كصلاة الجمعة في عاصمة ملكه تعز والمراسيم الخاصة ببلاطه وتتطرق إلى القوة العسكرية للدولة الرسولية ، وكيف أن جيرانها كانوا يخشون باسها ؟. وصف كذلك ملابس العامة ، وملابس النساء , وكيف اشتهرت تلك البلاد بصناعة الحلي من الذهب والفضة . فيصفها ( ما ــ هوان) ، كالتالي: " وهي بلاد غنية ، وسكانها كثيرين ، ويدين ملكها وسائر أهلها بالإسلام ، يتكلمون اللغة العربية . ويتسم أهلها بنزعة مسيطرة مستبدة . وتبلغ قوتها العسكرية ثمانية آلاف من الخيالة ، والرجالة المدربة تدريبا جيدا ولذا فهي بلاد قوية يخافها جيرانها " [c1]أعراف وتقاليد الملك الناصر[/c]وعن زي الملك الناصر الرسولي ، وعاداته الدينية يصفها ( ما ــ هوان ) ، قائلا : ولباس ملك هذه البلاد طاقية من الذهب ، وعباءة صفراء على جسمه ، يتمنطق بحزام مرصع بالجواهر . وعندما تأتي الصلاة يذهب الملك إلى المسجد ، ويضع على رأسه عمامة من القماش الأبيض ( الأجنبي الصنع ) ، مزينة بقطعة من قماش مقصب بالذهب . ويلبس على جسمه عباءة بيضاء ، ويتجه إلى المسجد على محفة في موكب من الجند " . [c1]ملابس العامة[/c]وأما ما يتعلق بملابس العامة ، فيقول عنها : " ويلبس الوجهاء والأعيان عباءات وملابس تختلف حسب رتبهم . وأما لباس عامة الناس ، فيلبس الرجال عمامة من القماش ، ولباس من الصوف أو القنب أنيق مطرز ، وغيرها من الملابس ، وينتعلون أخفافا أو أحذية عالية الساق ". [c1]ملابس النساء [/c]ويصف ( ما ـــ هوان ) أزياء النساء التي كُنّ يرتدينها ، والحلي التي كُنّ يزين آذانهن ، ومعاصمهن ، فيقول : " يلبس النساء عباءات طويلة على أجسامهن ، ووشاحا على أكتافهن مطعم بللؤلؤ والجواهر ... وتحلي أذانهن أقراط من الذهب المطعمة بالجواهر ، ومعاصمهن أسورة من الذهب والأحجار الكريمة ، وأسورة ذهبية في أصابع أقدامهن . ويغطين رؤوسهن بمنديل مطرز من الحرير ، ويبقى الوجه سافرا " . [c1]صناعة الحلي [/c]ويصف ( ما ــ هوان ) صناعة الحلي من الذهب والفضة بأنها تعد من أجمل المصوغات في العالم ، فيقول : " يصنع كافة صائغي الفضة والذهب و جميع الحلي في هذه البلاد أجمل المصوغات ، وأكثرها ابتكارا وتفننا ، ويفوقون ــ بحق ـــ سواهم من الصناعة في العالم " . [c1]الأسواق [/c]والحقيقة يصعب علينا أن نفرق بين أسواق عدن أو أسواق حاضرة اليمن وعاصمة الدولة الرسولية تعز فهو يصفها بصورة عامة ، فيقول : " ويوجد عندهم أسواق ، وحمامات عامة . وتعرض للبيع في دكاكينهم المأكولات المطبوخة ، وخيوط الحرير ، ونسيج الحرير ، والكتب ، وكافة أنوا البضائع وربما ينطبق وصف تلك الأسواق على عدن ، وتعز. ولكن عبد الله محيرز يؤكد أن عدن كانت مشهورة بالحمامات العامة , وهذا ما لفت نظر الكثير من الرحالة الذين زاروها .[c1]وجبات أهل البلاد[/c]ويصف ( ما ــ هوان ) الوجبات الذي يتناولها الناس هناك ، فيقول : " أما شراب أهلها ، وطعامهم فيحتوي على دقيق الأرز ، والبر ، ومعظمهم يأكل مزيجا من اللبن ، والقشدة ، والزبدة ، والسكر ، والعسل ". وأما عن المحاصيل التي تزرع في البلاد ، فيقول عنها : " وعندهم الأرز المقشور ، والذرة ، والفول ، والحبوب كالشعير ، والقمح ، والسمسم , وسائر أنواع الخضار . وعندهم من الفواكه أنواع منها : التمر ، واللوز ، والزبيب ، والتفاح ، والرمان ، والخوخ ، والبرقوق . أن الوصف الذي وصفه ( ما ـــ هوان ) أكبر الظن ينطبق على أهل تعز . والغريب في الأمر ، أنه لم يشير إلى الوجبة المشهورة والشائعة بين أهل عدن وهي وجبة السمك الرئيسة في و جباتهم . ربما نقل الوجبات هذه من أهل تعز شفويا ولذلك جاءت على ذلك الوصف الذي قرأناه قبل قليل .[c1]المسكوكات[/c]وعن النقود في عهد الملك الناصر ، يقول ( ما ـــ هوان ) : " ويصدر الملك عملة ذهبية للتعامل أسمها ( فلولي ) ـــ ولعلها عملة فلورنسا إحدى المدن الإيطالية ... وعليها خطوط في أحد وجهيها ( أو كتابة ) . ويصدر أيضا عملة نحاسية اسمها ( فلوسو) للمعاملات التجارية الصغيرة ". [c1]عمارة البلاد [/c]والحقيقة يصعب علينا تحديد طراز أو طرز العمارة الذي وصفها هل تعني عدن فقط أم قصد تعز عاصمة ومقر الدولة الرسولية أم أن العمارة في عدن أو في تعز من نفس الطراز . وكيفما كان الأمر ، فيصفها قائلا : " وبيوت أهلها مبنية من طبقات من الحجارة عليها سقوف من الأجر ، أو الصين ، وترتفع طبقات هذه البيوت أحيانا إلى ثلاثة طوابق يبلغ ارتفاعها أربعة أو خمسة ... ويستعمل الخشب ــ أحيانا ــ في أقامة هيكل المنازل المتعددة الطبقات ، وهو عود ينتج محليا من خشب الصندل " . [c1]سوق عدن والبعثة الصينية[/c]وفي ختام وصفه للبلاد عدن , وتعز عاصمة الدولة الرسولية ، يشير ( ما ــ هوان) في كتابه بأن الملك الناصر قدم هدية فاخرة للإمبراطور الصيني ، قائلا : " وأمر ملك هذه البلاد ــ أمتنانا منه لما لحقه من عطف الإمبراطور ـــ بصنع حزامين من الذهب مطعمين بالأحجار الكريمة . وقلنسوة ذهبية مطعمة باللؤلؤ والأحجار الكريمة مثل الياقوت وغيره ، وقرنين ذات صنع محلي ، ورسالة كتبت على ورقة من الذهب وقدم كل ذلك تقديرا منه وتعبيرا عن احترامه للبلاد المركزية " . والحقيقة أن الصينيين جلبوا معهم من سوق عدن الكثير من الأنواع الفاخرة من السلع والبضائع علاوة على الحيوانات النادرة وهي المجلوبة من شرق أفريقيا . ولقد أمر الملك الناصر الرسولي التجار في عدن أن تكون بضاعتهم وسلعهم على مستوى عال . في خبر أن الناصر ملك اليمن " في إكرام قصاده ( الصينيين ) بأن أمر مناديا ينادي في الأسواق : أنه لن يسمح إلا لمن لديه بضائع ثمينة أن يبيع أو يقايض البعثة الصينية " . وهذا دليل واضح على مدى اهتمام الملك الناصر بالبعثة الصينية . وأهم البضائع الثمينة والحيوانات النادرة التي اشترتها البعثة من سوق عدن . كالتالي : الجواهر ، اللؤلؤ ، الياقوت ، ماء الورد ، الحجار الكريمة ، المرجان، الكهرمان ، الأسود ، الفهود ، الحمام الأبيض ، الزرافات ، حمر الوحش والنعام. [c1]عدن والملك الناصر[/c]والحقيقة أن ميناء عدن كان يعيش حالة من الازدهار التجاري والانتعاش الاقتصادي بسبب الهدوء والاستقرار السياسي والأمن الذي ساد حكم السلطان الملك الناصر الرسولي الذي تولى الحكم بعد وفاة والده إسماعيل الأشرف في سنة 803 هـ / 1400 م . و أنه بمجرد أن جلس الملك الناصر على سريرالحكم حتى أطلت حركات التمرد والثورات برأسها في عدد من مناطق اليمن , ولكنه استطاع بمهارته العسكرية ، وحنكته السياسية أن يخمد نيران تلك الثورات ، وحركات التمرد بسرعة متناهية وبعد أن هدأت عواصف الفتن والقلاقل السياسية في سماء اليمن اتجه الملك الناصر إلى مرحلة أخرى هي ترسيخ الحياة الاقتصادية والعمل على نشر الرخاء في كل مكان من البلاد . وفي واقع الأمر ، لقد كان الملك الناصر منذ أن تولى الحكم يتسم برباطة الجأش ، والإصرار والعزيمة الكبيرين على ضرب بيد من حديد الخارجين عن الدولة ـــ كما قلنا سابقا ـــ . وفي هذا يقول القاضي المؤرخ إسماعيل الأكوع : " تولى الناصر أحمد الملك بعقد من والده فواصل مسيرة أبيه في أخذ العابثين والمفسدين والخارجين عن الطاعة بالحزم والشدة , ولهذا فإنه ما كاد الملك الأشرف يختفي من مسرح الحياة حتى انتعشت آمال المفسدين للعصيان من جديد " . ولكنه ـــ كما مر بنا سابقا ــ تمكن من القضاء على حركات التمرد ، والثورات . وعاشت اليمن في ظله بالاستقرار السياسي ، وشهدت ازدهارا كبيرا في الحياة الاقتصادية . فعندما وصلت البعثة الصينية إلى عدن . كان ميناؤها يموج بالحركة والنشاط الكبيرين ن فقد كان الميناء ملتقى تجارات العالم حينذاك . وهذا ما شاهدنه عندما اشترت البعثة الصينية العديد من البضائع الثمينة ، والحيوانات النادرة المجلوبة من شرق أفريقيا . ومن المحتمل أن البعثة الصينية التي زارت عدن مرتين ، المرة الأولى في سنة ( 820 هـ / 1417 م ) ، والمرة الثانية سنة ( 824 هـ / 1421 م ) . قد نقلت انطباعا جيدا عن ملك اليمن الناصر ، وعن نشاط الحركة التجارية في ميناء عدن ، وازدهار الحياة الاقتصادية في مملكة الناصر اليمن ، وأيضا قوة الدولة الرسولية العسكرية . [c1]الصينيون والملك الظاهر[/c]عندما توارى الملك الناصر المهيب الذي فرض هيبته على اليمن عن مسرح الحياة السياسية . أطلت من جديد حركات التمرد ، واشتعلت الثورات في كل مكان من المملكة الرسولية باليمن . مما ألقى بظله الثقيل والمخيف على حركة النشاط التجاري في ميناء عدن . فقد انطفأت جذوته ، وذبل نشاطه وذلك في عهد السلطان الملك الظاهر الرسولي المتوفى بتعز سنة ( 845 هـ /1441م ) . فعندما زارت البعثة الصينية عدن في عهده سنة (834 هـ / 1431 م ) لفت نظرها التدهور التجاري الذي أصاب ميناءها من جراء الاضطرابات السياسية التي انفجرت في كل مكان من اليمن , ويعتبرها المؤرخ عبد الله محيرز أن تلك الرحلة الصينية قد فشلت بالفشل الذريع في عدن . وفي هذا ، يقول : " ولعل هذه كانت أكثر الرحلات فشلا بالنسبة لعدن . فقد توفي الملك الناصر ملك اليمن في 827 هـ ، وخلفه بعد ثلاثة سنوات الظاهر يحيى بن إسماعيل في 831هـ . وقد تدهورت عدن وضعف حالها " . و بسبب سياسة الملك الظاهر العنيفة والدموية في حكم البلاد " ... فقد اضطربت عليه أمور البلاد ، ولا سيما تهامة ، ولم يستطع إعادة الاستقرار التام إليها ".[c1]البعثة الصينية تغادر عدن [/c]والحقيقة أن البعثة الصينية عندما وجدت أن الأوضاع الاقتصادية في عدن متدهورة ، رحلت إلى مكة المكرمة . وهذا ما أكده ابن تغري بردي ، بقوله : " وفي ثاني عشرين من شوال سنة 836 هـجرية . قدم الخبر من مكة المشرفة بأن عدة زنوك ( سفن صينية كبيرة الحجم ) قدمت من الصين إلى سواحل الهند ، وأرسل منها اثنان لساحل عدن ، فلم تنفق بها بضائعهم من الصيني والحرير ، والمسك وغير ذلك لاختلال حال اليمن ". [c1]الهـــــــــوامــــــش :عبد الله محيرز ؛ رحلات الصينيين الكبرى إلى البحر العربي ( 807 ـــ 835 هـ / 1405 ـــ 1433 م ) ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر ، 2000 م .الجمهورية اليمنية . فهمي هويدي ؛ الإسلام في الصين ، سنة الإصدار: شعبان / رمضان 1401 هـ ــ يوليه ( تموز ) 1981 م . عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـــ الكويت . الدكتور شوقي عبد القوي عثمان ؛ تجارة المحيط الهندي في عصر السيادة الإسلامية ( 41 ـــ 904 هـ / 661 ـــ 1498 م ) سنة الإصدار : ذو الحجة 1410 هـ ـــ يوليو / تموز 1990 م ، عالم المعرفة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ــــ الكويت . القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ الدولة الرسولية في اليمن ، الطبعة الأولى ، 2003 م ، دار جامعة للطباعة والنشر ، عدن ـــ الجمهورية اليمنية ـــ .[/c]
|
تاريخ
الصينيون يطرقون أبواب عدن
أخبار متعلقة