نبض القلم
لقد عرف اليمنيون عبر التاريخ بالتسامح الديني مع المخالفين لهم في العقيدة، فعلى الرغم من حالة البؤس والشقاء والحرمان التي عاشوها في عهود الاستعمار والإمامة إلا أنهم كانوا يتميزون بروح التسامح مع غيرهم وبالذات مع أهل الكتاب الذين حظوا بكل رعاية وحماية باعتبارهم من أهل الذمة. ومن غير المألوف ولا من عادة اليمنيين أن يؤذوا أهل الكتاب المسالمين أو يعتدوا على أحدهم بدافع المخالفة في الدين، كما حصل مؤخراً في محافظة عمران، حين قام فرد أو أفراد بقتل يهودي يمني ارتضى أن يتخذ اليمن موطناً له ، لا لشيء إلا لمجرد كونه يدين بدين مخالف لدين القتلة الذين أساؤوا بفعلهم الإجرامي إلى الدين الإسلامي الحنيف الذي يدعون الانتماء إليه، فهؤلاء القتلة المجرمون نسوا أو تناسوا أن اليمن عرفت عبر التاريخ القديم والحديث بأنها بلد الإيمان والحكمة التي تعانقت فيها المآذن، والصلبان، وتجاورت المساجد والكنائس والكنيس ، مما يبرهن على أن اليمنيين شعب جبل على التسامح ، وأنهم أصحاب رسالة إنسانية متفتحة غير منغلقة ، رسالة حضارية غير متخلفة، رغم التخلف الذي عاشوه. ومن أبرز مظاهر التسامح الديني في اليمن عبر التاريخ عدم المساس بأهل الديانات الأخرى الذين ظلوا يعيشون في أوساطهم ويجاورونهم ويعايشونهم ويتعاملون معهم لمئات السنين دون تفرقة ولاتمييز. وللتدليل على ذلك ما كانت عليه مدينة عدن في العشرينات من القرن الفائت حين زارها الرحالة اللبناني أمين الريحاني فوجد فيها تنوعاً ثقافياً لا نظير له ، فوصفها قائلاً: ( وفيها أربعون ألفاً من السكان من كل شعوب الأرض والأديان، فيها المسلم الذي يصلي لله، والفارسي الذي يصلي إلى النار ، والبينيان الذي يصلي إلى الأوثان ، والمسيحي مكرم الصور والصلبان، والاسماعيلي صاحب صاحب الزمان، واليهودي مسبح الذهب الرنان، وفيها من يغسلون ويكفنون موتاهم، ومن يحرقونهم، ومن يحملونهم إلى برج السكينة لتأكلهم النسور والعقبان .. كل هؤلاء يتاجرون ويتنافرون ويربحون ولايفاخرون ، أما بيوتهم فواحدة ، لاتعرف أعربية هي أم هندية أم أوروبية ، وأما أديانهم فهي كالأشجار والأدغال في الغاب ، وهم في ظلالها لايتغيرون ولايتطيرون ، الزاهرون ، والشانكون). وأضاف الريحاني قائلاً في معرض تعليقه على ما قاله رحالة فرنسي اسمه ( المسيو رولاك ) كان قد زار عدن قبل ذلك فوجد فيها ثلاث طوائف دينية متعايشة بأمان وسلام . فقال: ( أنه يوم زار المسيو رولاك عدناً لم يكن فيها غير الإسلام وحفنة من اليهود والبينيان، أما اليوم - أي في زمن الريحاني - ففيها من المذاهب الدينية مائة مذهب ومذهب، تعيش كلها في فم البركان -يعني كريتر - بسلام وأمان ، وليس فيها غير مذهب وأحد من المذاهب السياسية تصونه التقية، ويعززه الدينار والقوة وهو مذهب الاحتلال) أ ، هـ .ولقد انطلق اليمنيون في سلوكهم التسامحي هذا ليس من ضعف أو شعور بالدونية أمام الآخرين، وإنما لقناعتهم بأن الإسلام الذي ارتضوه دينا لهم يفتح ذراعيه ليضم جميع الرسالات السماوية ويحتضن جميع الأنبياء والرسل، ويتعايش مع جميع الناس أبيضهم وأسودهم، عربهم وعجمهم ، دون تفرقه ولاتمييز. والإسلام - كما فهمه اليمنيون - هو إسلام التسامح والمحبة واحترام العقائد الأخرى، والتعامل مع المذاهب والديانات بكل شفافية ، وخير مثال على ذلك أن اليمن تعتبر من أقدم الدول التي احتضنت اليهود في العالم، حيث ذكرت المصادر النصرانية والإسلامية أن أحد التبابعة ( الملك الحميري ) والذي يعرف عند الإخباريين باسم ( اسعد الكامل ) هو أول ملك حميري اعتنق الديانة اليهودية، وتشير بعض المصادر إلى أن اعتناق هذا الملك لليهودية تم على يد حبرين من أحبار اليهود التقى بهما في يثرب ، وتفيد بعض المصادر أن غالبية اليهود قبل الإسلام هم من عرب اليمن، الذين اعتنقوا اليهودية وهم على أرضهم في اليمن ، على يد الملك الحميري ( ذي يزن ) في القرن الرابع الميلادي ، وكان الدين اليهودي دين الدولة الرسمي إلى جانب المسيحية. وفي ظل الإسلام مارس اليهود شعائرهم الدينية بكل حرية، إذ ضمن لهم الحكم الإسلامي عدداً من بيوت العبادة ( الكنيس ) لا يعتدي عليهم المسلمون ، وظلت هذه البيوت مئات السنين لا تمتد إليها ألأيدي ، ولا يطمع فيها طامع ، وكانت بيوت اليهود تظل قائمة في الحروب والصراعات القبلية لا يتعرض لها أحد بسوء، بل إننا نجد أنه رغم حالات الاضطرابات التي كانت متفشية في اليمن ، إلا أن عدد الكنيس اليهودية في اليمن تزايدت إلى درجة لاتتناسب مع أعداد المتعبدين منهم ، لان حسن معاملة المسلمين لمخالفيهم في الدين كانت هي القاعدة ، وحرية ممارسة الشعائر الدينية هي السائدة ، ويتفق ذلك مع القواعد والتعاليم الدينية ، أما الاستثناء والخروج على هذه القاعدة فهو موقف الحكام المسلمين من أفراد هذه الطائفة في حالة خروجها عن القواعد التي أرساها الحكم الإسلامي ، فلم تكن السلطة الإسلامية تقف مكتوفة الأيدي في مواجهة المحاولات الماسة بتلك القواعد، فقد كانت تجابهها وتتصدى لها ، غير أن تلك المجابهة لم تكن لتصل إلى عمليات الاضطهاد كتلك التي كانت تمارس ضد اليهود في المجتمعات الأوروبية ، بل كانت مواجهات وقتية وظرفية، تنتهي بأنتهاء أسبابها ، ولو لم يكن الصهاينة اليهود قد اغتصبوا أرض فلسطين وطردوا أهلها وشردوهم ، لكان حال اليهود في البلاد العربية أفضل ، ولعاشوا مع المسلمين في سلام وأمان. [c1]* خطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)[/c]