كان التعليم في العصور القديمة في الشرق الاوسط يقوم علي الدين، كانت الكنيسة هي التي تقوم بفتح المدارس وتضع البرامج وهي التي ابتدعت لقب الدكتوراه للبارزين ومن ابدعت الخريجين كما كان الجامع هو محل الدراسة في الشرق الاسلامي وهو الذي وضع تقاليد الدراسة التي انتقلت فيما بعد الي اوروبا، وكانت سمة لتعليم "الجامعة" "مؤنث الجامع" مثل ان يكون قوام العلم "الشيخ" ومثل حرية الطالب في اختيار شيخه وحرية الشيخ في تقدير تلاميذه الذين يعطيهم الاجازة وقيل ان كلمة باشلور BACHELOR انما جاءت من "بحق الاجازة" وكان الشيخ يجلس على كرسي وحوله تلاميذه الذين يجلسون علي الارض في حلقة واصبحت كلمة "حلقة" وكلمة "استاذ كرسي" فضلا عن حرية التلميذ في اختيار شيوخه والمواد التي يريد ان يتعلمها من تقاليد الدراسة الجامعية، وكانت الدراسة حرة بمعني الكلمة ولم تكن هناك اية قيود او اشتراطات قبول او تحديد لساعات الدرس انما كانت تعقد قبل او بعد الصلوات وتؤدى في المساجد المفتوحة باستمرار ولم تكن هناك مصروفات بل كانت تقدم معونة رمزية او عينية "خبزا" تعين علي ان يفرغ لوقت الدراسة ولم يكن للحكومات دخل في التعليم فقد كان حرا بمعنى الكلمة. وكانت الاموال التي تنفق على المدرسين والدارسين من اموال الاوقاف التي كان يوقفها الاثرياء رجالا ونساء للانفاق علي التعليم وبهذه الطبيعة فان التعليم الديني كان مفتوحا للجميع حرا امام الجميع ولم تكن الامراض او العاهات تحول دون دراسة اصحابها. وكان في الازهر "زاوية" كاملة مخصصة للعميان، ولعل ابرز المكفوفين الذين درسوا في الازهر هو الدكتور طه حسين الذي ولد في اسرة غاية في الفاقة في صعيد مصر وفقد بصره وهو طفل صغير وكان الازهر هو الملاذ الوحيد له ولأمثاله ومع ان طه حسين تمرد علي الازهر لنزعته الاستقلالية وذكائه الحاد. والتحق بالجامعة المصرية التي فتحت ابوابها سنة 1908 وكان الاول الذي ارسلته إلى بعثة في فرنسا، فذهب إليها وتزوج بفتاة ساعدته على اجتياز غربته ومحنته واصبح شخصية علمية رفيعة ومعروفا على مستوى العالم نقول رغم هذا كله فان تمكن طه حسين من العربية انما يعود الي الأزهر. وكان من حسنات التعليم الديني في الشرق والغرب انه كان الباب مفتوحا امام الطبقة الفقيرة المحرومة ليدخل النابغون فيها الي الطبقات المميزة من نبلاء او لوردات لان المنزلة الكبيرة للدين في هذا المجتمع كانت تدفع الارستقراطية لقبول الشخصيات البارزة من كاردينالات او شيوخ للانخراط في صفوفها وفي مجلس اللوردات كان اللوردات الروحانيون يجلسون بجانب اللوردات الدنيويين وحدث ما يماثل هذا في الشرق الاسلامي فان العلم كان هو القوة التي نقلت الموالي من مستوى الاتباع الي مستوى الفقهاء والمحدثين والمفسرين الذين تنحني لهم رؤوس الحكام. ولما كانت الاديان تقوم على قيم سامية ولها طابع سلمي وتقدمي خاصة عند ظهورها فلم يكن العلم الديني سيئة وكان علي كل حال متمشيا مع عصره ولكن التطور جعل التعليم الديني يتحجر شيئا فشيئا خاصة بعد ان هيمنت عليه المؤسسة الدينية "الكنيسة والفقهاء" فاصبح ضيق الافق كما زحف عليه التعصب شيئا فشيئا. وكان فساد التعليم الديني نتيجة لفساد الكنيسة في اوروبا مما ادى كما هو معروف الي ظهور حركة الاصلاح الديني في القرن السادس عشر وابعدت الكنيسة شيئا فشيئا عن مراكز نفوذها وظهرت حركات انسانية تطالب بتحرير المجتمع من هيمنة الكنيسة وتحرير الفكر من سيطرتها فانحسر التعليم الديني وبدأ يظهر نوع اخر من التعليم يتجرد من الطابع الديني وشيئا فشيئا اصبح علمانيا. ومع ان العلمانية لا تعني بالضرورة معارضة الدين وانها في بعض تعريفاتها تعني الفصل بين الدين والسلطة "الحكومة" فلابد من التسليم بانها تتضمن نوعا من العزوف عن الدين وتضيق بتدخله لا في الحكومة ولكن ايضا في المجتمع وترى ان الدين علاقة فردية شخصية ليس لها مضمون سياسي او اجتماعي.. وبالتالي اقتصرت البرامج الدراسية على عناصر المهارات والمواد التي يتطلبها اشباع احتياجات المجتمع في مجال الصناعة والتجارة والخدمات او الدراسات العلمية الفنية الخالصة، وقد كان لفضل هذا التعليم ان تقدم المجتمع الاوروبي والامريكي في المجالات الصناعية والتجارة والخدمات، وكل ما يمثل التقدم المادي وارتفعت مستويات العلوم.... الخ. ولكن هذا العلم المجرد من الدين البعيد عن القيم والمتركز في علم الدنيويات ومعارفها الدنيوية سمح لدوافع الطبيعة البشرية من اثرة وفردية وحرص على التكاثر وطموح في المراكز وما يصيب الانسان من زهو وفخر واستعلاء... الخ انتقلت كلها إلى المجتمع وعوقت سيره وعكرت صفوه. إن التركيز على العقل والعلم حقق الانجازات العلمية التي لم تكن تخطر بالبال ولكن هذا لم يأت بتقدم في عالم القيم وفي نفس الانسان. لقد كفل العلم الحديث للانسان تغذية كافية ولبسا لائقا واستمتاعا اكثر ولكنه لم يقدم لروحه غذاء ولا لضميره كساء ولم يكن هو العامل الذي يفجر في الانسان قوى الايمان وقوى الخير. ان الحضارات الحديثة- التي يعد التعليم المقرر من العناصر الفعالة فيه- سمحت بكثير من الشطط والسرف والشذوذ في كل مجالات الحياة مما اصبح يهدد توازن وثبات واستقرار الاوضاع. لابد من اعادة النظر في برامج التعليم ولابد من تضمينها نوعا جديدا من الدراسات نوعا لا يدور حول "النفعية" والتقدم المادي ولا يخضع لما خضعت له الاديان من تحجر.. وهذا الشيء هو الحكمة WISDOM.ــــــــــــــــــ[c1]مفكر إسلامي [/c]
|
فكر
معضلة التعليم بين الدين والعلمانية
أخبار متعلقة