بعض الخواطر لحظة وفاة اللواء (جابر)
(ابو حفص اليافعي) الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبة اجمعين.. اما بعدالى جوار الله تعالى انتقل الاخ محمد ناصر الميسري (جابر) بلغني هذا ظهر الخميس 29 ربيع الاول 1427هـ الموافق 27/ ابريل/2006م فلا حول ولاقوة الا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون .. تلك هي سنة الله من قبل ومن بعد في الذين مضوا وفي من بقي وسيمضي عاجلا ام آجلا كل في وقته "قدرا مقدورا" "لكل أجل كتاب" ولايبقى للانسان غير ( الكلام الطيب والعمل الصالح) وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا مات إبن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" .. نسأل الله ان يغفر للراحل المتقدم ولنا ولجميع المسلمين.(جابر) هو الاسم الذي (اجبرته) ظروف العمل السري في ظل الاحتلال البريطاني الى التخفي تحته كعضو في القيادة السرية للجبهة القومية منذ ابريل 3691م ثم مسؤولا عن الجانب العسكري ومندوبا فيما بعد عن قيادة الشعبة ومنسقا بينها وبين قيادة الجبهة القومية وقيادة جبهة ردفان حتى عام 65 والتصق به هذا الاسم (جابر) بعد انطلاق ثورة 14 أكتوبر 1963م اثناء تدربه العسكري في الجحملية بلواء تعز في معسكر المظلات التابع آنذاك للقوات المصرية الذي اسندت اليه في مرحلة لاحقة من النضال الوطني المسلح ضد الاستعمار البريطاني مهمة تنظيم اسناد جبهة ردفان بالمقاتلين وبقي في ردفان لهذا الغرض كمندوب لشعبة الجبهة القومية لتحرير الجنوب (جبهة الاصلاح - تحولت فيما بعد لظروف سياسية واجتماعية إلى هيئة ابناء يافع الاصلاحية).وعرف الناس (جابر)) بهذا الاسم حتى يوم وفاته رحمه الله.لم تكن دوافع (جابر) للتضحية بنفسه في مواجهة الاستعمار البريطاني متأثرة بحب فتاة جميلة اثناء مغامرات المراهقة والشباب ولاطمعا في الشهرة والجاه بل كانت في الاصل ومن الجذور دوافع وطنية مبدئية اصيلة!عرف الناس (جابر) في كل مواقع النشاط السياسي والعسكري والاجتماعي فقد كان مراقبا عاما لجبهة ابناء يافع الاصلاحية انتخب في الاجتماع التأسيسي العلني يوم 9 مايو 1963م وظل ملازما له في الاتحاد اليافعي الذي كان مظلة العمل الوطني لابناء المنطقة بعد ذلك في عدن وفي كل المواقع التي تولاها كقائد امني حتى وصل الى نائب لوزير الداخلية.حياة (جابر) قصة من مجموعة قليلة من القصص المرتبطة اصلا بنشوء العمل الوطني والاجتماعي اليمني وبتطلعات الجيل الذي عاش تلك المرحلة التاريخية الطامح الى الحرية والاستقلال والاصلاح والتقدم الاجتماعي ثم تأسيس وانطلاق النضال المسلح ضد الاستعمار البريطاني ومحاولة انشاء دولة عصرية، قصة حياة (جابر) مرتبطة اصلا بالطموح المقترن بالعمل من اجل تحقيق الوحدة اليمنية التي كان يرى فيها المخرج الطبيعي الصحيح لازمات اليمن المتلاحقة ومواصلة الحلم والمحاولة بانشاء دولة عصرية قوية ثم صدم بعد ذلك بفعل عوامل عدة ليس هذا مجال استعراضها بتقييد ذلك الحلم والامل وكانت الصدمة مؤثرة عليه كثيرا وكان من الصعب عليه ان يمتصها كغيرها من الصدمات التي مرت عليه في حياته ولكن يحسب له انه حاول ذلك مرارا وظل يحاول حتى وافته المنية.ورغم ان منطقة يافع من المناطق اليمنية التي تفتقر الى الرموز (الفاعلة المؤثرة) في جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والعسكرية والمعاصرة فان ( جابر) في نظري من الرموز القليلة جدا التي سجلت حضورا مميزا ومواقف متميزة.كان (جابر) وسيظل صفحة لايمكن تجاوزها او اقتطاعها من تاريخ الوطن اليمني الحديث.عرفت (جابر) في كل تلك المراحل النضالية!.وعرفت (جابر) وسط تلك المحن يكابد الحياة الصعبة يتحرك بهمة عالية في الشعاب والجبال ثابت الاقدام ويمتطي ظهر حمار او حصان تارة اخرى اذا اقتضى الامر ليواصل الرحلة نحو الهدف الذي كان ينشده.وترافقت مع (جابر) في مناطق كثيرة من بلادنا في الريف والمدينة ولنا ذكريات في عدن والضالع ويافع وصنعاء وتعز قبل الوحدة وبعدها!! ترافقنا سويا في رحلات الوفود الرسمية في فترات عدة سواء الى صنعاء من اجل تحقيق الوحدة اليمنية او الى بلدان اخرى لتعزيز علاقات اليمن مع شعوب العالم.ترافقت مع (جابر) في الداخل والخارج وسجلت ذاكرتي العديد من الاحداث والمواقف والآراء.صحيح ان مساحة الفرح في حياته كانت قليلة لكن المساحة الاخرى وان كانت اكبر في حياته رغم آلامها وشدائدها محسوبة له كرجل صلب ومقدام اثناء مواجهة الاحداث وبعدها.(جابر) لم يكن نجما تلفزيونيا فقد كان بريق الشهرة لايستهويه ويعزف عن الظهور بمناسبة وبدون مناسبة، لايحب البرامج الاصطناعية الدعائية والاستعراضية المدفوعة الثمن الخالية من القيمة والفائدة!وكان (جابر) يبتعد عن الاضواء التي تعمي العيون والقلوب في اكثر الاحيان.لكن (جابر) كان حاضرا وموجودا في السلطة وفي المجتمع، كان (جابر) حاضرا باستمرار في الوجدان والضمير الوطني والشعبي!.كان جابر بطبيعته الفطرية المتواضعة يحظى بالاحترام والتقدير من خصومه ومن يختلفون معه من عشيرته واصدقائه!استطاع جابر في حياته ان يوفق بين المزايا الفطرية للمقاتل الريفي ويجمعها مع المزايا التدريبية للانضباط العسكري الحضري.استطاع العقيد جابر في حياته ان يتأقلم مع ارصفة المدينة وضجيجها ويبقى على نفسية الراعي (جابر) وعلاقته بالريف وارتباطه بالارض والمرعى ويخلد الى الهدوء تحت سفح الجبل كلما احتاج الى ذلك! - والحديث هنا عن مرحلة ما قبل ان يرتقي الى رتبة لواء ونظرا لعمق العلاقة الشخصية بيني وبين جابر فلم نكن نتخاطب بالالقاب فلم تكن الالقاب والحمد لله هماً من همومنا وهذه الحقيقة يعرفها من يعرف العلاقة وفي المقال الثاني التوسعي باذن الله سنكمل المراحل الاخرى بنوع من التفصيل ان شاء الله ونوضح هذا لان البعض قليل الفهم ويحتاج الى مزيد من التوضيح.(جابر) لم يكن في الصفوف الخلفية بل كان في الصفوف الاولى للاحداث التي عاصرها وعاصدها وساهم في صنع بعضها ايجابا وسلبا.كانت من بين قناعات (جابر) التي اعرفها جيدا انه بتحقيق الوحدة اليمنية ينبغي ان تسلم الراية لجيل آخر لكن لم يفهمه احد ولم يوافق على رأيه احد فاحتفظ به لنفسه ولي، لذلك لم تفاجئه الاحداث وتقلباتها وصراعاتها ونتائجها، صحيح ان من ثمارها المرة ان اجبرت (جابر) الظروف على البقاء في الخارج فترة قصيرة من الزمن ولكن قريبا من الوطن قريبا جدا على اسوار الوطن، لم يذهب بعيدا كما ذهب البعض بعيدا وأبعد!.ولولا بعض الظروف التي قلت انها اجبرت (جابر) لما فارق الوطن ولبقي فيه حتى يفارق الدنيا!! فقد ظل (جابر) يعيش وسط سلسلة من المحن والكوارث والازمات والصراعات والحروب الاهلية التي مرت بها اليمن وبعد كل ازمة كان يقول لي : »اني لم اصدق اننا سنعيش ونبقى احياء انها مشيئة الله لم يحن الاجل بعد"!.كان (جابر) يتوقع ان يموت في ساحات النضال الوطني او خلال الصراعات والمواجهات السياسية والاجتماعية التي حفلت بها الحركة الوطنية اليمنية ولذلك كان متأهبا للحظة غدر ربما من رفاقه! وكان يجاهرني بهذا ولكن قدر الله المحتوم لايأتي الا في الزمان والمكان المقدرين من الله جل جلاله.اذا تأملنا الاحداث الكبيرة التي مرت بها اليمن منذ 2006 سبتمبر و41 اكتوبر 36م و30 نوفمبر 1976م و14 مايو 1986 و22 يونيو 1996م و2006يونيو 1987م مرورا بالاحداث مابين 97 - 18م الى 31 يناير 1968م وصولا الى 22 مايو 90م وما سبقها وما لحقها سنجد بصمة الصوت والاصبع (لجابر) فيها ومنها واليها.اذا تأملنا الانعطاففات والمنعطفات التي مرت بها الثورة والوحدة اليمنية سنجد (جابر) عند كل منعطف فيها!.اذا تأملنا الاخفاقات والانتصارات السياسية والاجتماعية والعسكرية لليمن سنجد (جابر) عند كل انتصار او اخفاق له اثر وله رأي وله فكره سواء اخذ بها او لم يؤخذ بها ولكن كان لـ(جابر) موقف بيّن واضح، لم يكن (جابر) مثل بعض الزئبقيين الذين عند الازمات لاتجد لهم اثرا ولارأيا ولافكرة ولاموقفا ولاطعما ولارائحة وكان (جابر) يصف هذه الاشكال من البشر دائما بانهم اشبه بـ : (ذنب هر مدهون بزيت!!).واذا راجعنا سجلات وقوائم السجون والمحاكم فسنجد انه قد حفر اسمه فيها بجناية واحدة هي جنايته الحقيقية الوحيدة وهي الموقف مع الوطن ومن اجل الوطن ومع ذلك ففي آخر لقاء لي (بجابر) في ربوع صنعاء استمع الي مطولا ولم يتردد ان يهز رأسه عدة هزات ويقول لي مبتسما : "لقد احببنا الوطن فعلا وسخرنا من اجله وقتنا وشبابنا وجهدنا ولكنا فشلنا فعلا في ان نحب الوطن هذه هي الحقيقة التي خرجت بها من كلامك!!" فقلت له مبتسما ايضا : "صديقي العقيد جابر هذا الكلام فيه شيء من الفلسفة وهذه ميزة ان تجمع بين العسكرة والفلسفة؟" فرد علي ببساطته المعهودة : ابداً كلماتي هذه هي خلاصة لفلسفتك الطويلة معي!و(لجابر) مراجعات جريئة وبريئة للتجربة التي خاضها في حياته السياسية والاجتماعية والحزبية لاتكفيها هذه الاسطر التي كتبتها لحظة وصول انباء وفاته الينا وهي تحتاج الى عرض خاص ضمن مجموعة كبيرة من الذكريات المريرة والحلوة والطريفة والمزعجة سواء في علاقاتنا الشخصية الاجتماعية ببعضنا او مع الاصدقاء من المناضلين ومن الادباء والشعراء ومع الآخرين نسأل الله ان يقدر لنا ان ندونها للتاريخ والاجيال نأخذ منها الدروس والعبر.وسبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب اليك وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبة اجمعين.