محمد باجنيد (المكلا)للفنون الحضرمية سمات جمّة تجعل منها ذات أحقية بالتنوع، هي تعدد اللهجات عند أبناء حضرموت وكثرة المدن الحضرمية وقراها.. لكن اللافت أنّ هذا التعدد في ألوان الغُناء الحضرمي لم ينجح إلا في تقديم فنانين قلائل كانوا ممثلين فعليين لهذا اللون الغُنائي البهيج الموغل في القدم الثري بالإيقاعات.. ونعني بهؤلاء (الثلاثي العبقري) الأستاذ الفنان الراحل / محمد جمعة خان.. والشاعر الراحل/ السيد حسين أبوبكر المحضار.. والفنان الأستاذ/ أبوبكر سالم بلفقيه.وبين هؤلاء الثلاثة الرواد برزت أسماء كثيرة في حقبٍ زمنية مختلفة، لكن واحداً من غير هذا الثلاثي العبقري لم يصل أبداً إلى مرحلة الانفتاح الإعلامي ويتمكن من استقطاب لفيف من الجماهير العربية.. كما كان للثلاثي العبقري النصيب الوافر من ذيوع الصيت يمنياً وعربياً، والتميز بشخصية (الغناء الحضرمي) لحناً وكلاماً وأداء.لماذا لم يبرز فنان أو شاعر غير الثلاثي العبقري له مخيلة خلاقة ترتبط بالفن الحضرمي وتدلل في انطلاقتها على نبعها الحضرمي!!هل هو شأن حضرمي؟!.. دوافعه سلوك نفسي غلب على طبع الحضارمة وتمكن الثلاثي من الخروج منه يدفعهم في ذلك إحساس متماسك بالجمال، وطبع جامح وإرادة شاعرية لا ترى للمستحيل مكاناً، لكنها تبصر بأنّ مياه المحيط تنتهي بموانئ!! .. أم أنّ التاريخ والواقع لم يسجلا نموذجاً غنائياً أو شعرياً سافرت شهرته عبر مياه المحيط لأنّه نموذج عادي فقير الإبداعات!!الحضرمي خجول في تصرفاته.. بسيط في مظهره لا يستهويه الظهور الإعلامي ويفتقد لمهارة استخدام الترويج للنفس، وإنّ كان لا يفتقد للصفات نفسها والمتمثلة في : الكفاءة / خفة الظل/ الحظ!!وعلينا أن ندرك أننا نعيش في زمن الموهوبين المتعلمين وكثيراً من المواهب قد تلقى حتفها إن لم يتم مساندتها وبث الحيوية في مفاصل من يملكها من خلال الدراسة والتعلم.إنّ خفة الظل تعني صناعة العَلاقات العامة والانفتاح على الثقافات الجديدة.. أما الحظ فكثير من المتميزين بحثوا عن أسباب نجاحاتهم من خلال الإرادة القوية وتحرير الخيال من الرتابة، والعمل بحيوية بعد كل إخفاق، ولم يجدوا أن الإخفاق أو النجاح لهما ارتباط قوي الالتصاق بالحظ في العمل الإبداعي.ربط الإخفاق بالحظ تعني الحلم بعالم خالٍ من القسوة والتوتر والمواجهات!!جيل الثلاثي العبقري الفنان الراحل محمد جمعة خان مزج الإيقاعات الحضرمية بالإيقاعات الهندية وغنى كثيراً من قصائد الشعراء العرب والمحليين.. كما اقتحم عالماً جديداً من الكلمة في زمنه فكانت له الريادة في التعامل مع نصوص غنائية رفيعة القيمة الأدبية أما موسيقياً فإنّ أعماله اتسمت بالتجديد ولم يكن مكرراً لما قام به غيره فكانت حظوظه مع النجاح ضخمة وحفظ التاريخ اسمه، كما حفظت القلوب أعماله الغُنائية كل هذه السنوات الطوال التي اقتربت من النصف قرن منذ رحيله. أما الشاعر الراحل الأستاذ/ حسين المحضار فقد ملك موهبة فطرية ذات عطاء لا يتوقف في الكلمة واللحن.حقق صيتاً واسعاً في العالم العربي كشاعرٍ وملحن، صيتًا لم يتحقق لشاعر ملحن معاصر من اليمن.. كانت لنصوصه هوية متميزة توضحها الدقة والرشاقة والاعتماد على الكلمات الحضرمية الموروثة.كان يكتب اللهجة المحلية وليس باللهجة المحلية، نصوصه صاخبة بالأماكن (سعاد - القرن - شعب عيديد - المكلا).إنّها نصوص صارخة النبرات، فمن منّا لم يتعاطف مع الراحل السيد المحضار حين هدد بهجر المكلا ومغادرتها إذا لم يكن لدى الناس (معروف) :لا تعذبني وإلا سرت وتركت المكلا.. لك .. إذا ما فيك معروفوضع الكلمة المحلية (سرت) بدقة ورشاقة حينما أعلن أنّه يمكن أن يغادر المكلا إذا لم يكن هناك (معروف).أما عندما يأتي اسم الفنان الأستاذ أبوبكر سالم بلفقيه فإنّه ذلك الإنسان الذي جعل من الفن مهنة رفيعة ومثيرة للفضول والتحدي.لقد استند الأستاذ/ أبوبكر سالم بلفقيه في أعماله إلى سند ثقافي وتاريخي.إذ نشأ في مدينة تريم الشهيرة بالعلم والثقافة ثم انتقل إلى عدن حتى هاجر إلى خارج اليمن في الستينيات مثله مثل كثير من اليمنيين المهاجرين عبر التاريخ.بدأ مرحلة الفضول والتحدي في وقتٍ مبكر من حياته حينما غنى قصيدة الشاعر التونسي الراحل أبو القاسم الشابي (اسكني يا جراح).ولازمه الفضول والتحدي في كل مراحل حياته الفنية خالعاً رداء الكلاسيكية وترديد ما كان الآخرون قد سبقوه إليه فكان أول فنان يمني يؤدي أغنية صنعانية مع فرقة موسيقية متكاملة في حفل جماهيري خارج اليمن دون أن يقلل من أهمية آلة (العود) حتى وإن كان الحضور لها شرفياً.إذا لم يجد الأستاذ/ أبوبكر سالم غضاضة في أن يقدم أغنية تراثية بمنهجه وليس كما ورثتها الأسماع واعتاد عليها الناس.معاناة الأغنية المعاصرةإنّ ما عانته الأغنية الحضرمية ولما تزل تعانيه بعيداً عن مثلث الرواد يكمن في عدم وجود روح الريادة لدى غيرهم من الفنانين أو الشعور بالمسئولية إزاء أداء رسالة فنية لا فكاك منها فغلبت عليهم العشوائية ولم يطرحوا أمام الناس جنونهم البرئ فعاشوا في المأزق التكرار لما سبق أن سمتعه الناس من غيرهم.وصحة هؤلاء في إخفاقهم النهوض بأنفسهم وبالفن الحظ ومحدودية الإمكانيات المادية حضرموت غنية بفنونها لكن على من يقدم أوراق كتابة الفن التاريخ كما فعل الرواد الثلاثة أن يحول أحلامه إلى عالم مرئي وأن يدرك أنّ في الجهات الأخرى للمحيط الهندي الكبير موانئ يمكن الوصول إليها بالعمل الدؤوب، وأن تتحول الطاقة إلى فعل وتبث في ذلك المخزون الهائل من التراث المتنوع حيوية ونبضاً.الأغنية الحضرمية تعاني اليوم وتعيش في أكثر أزمانها رتابة وخمولاً فلا يوجد بين من يغني اليوم واحداً يبحث بعناد عن بشارات تتجاوز المحيط كما أنّه لا يوجد صوت له صدى بين البحر والجبل.
|
رياضة
بلفقيه :جعل من الفن مهنة رفيعة!!
أخبار متعلقة