أضواء
الأزمة المالية هي القضية الأولى، وتأثير الركود الاقتصادي العالمي هو الشغل الشاغل، وتراجع سعر برميل النفط إلى أقل من 50 دولارا هو الهم الأكبر، وارتفاع فاتورة الديون على بعض الإمارات هو حديث الساعة والموضوع الأكثر تداولا بين المواطنين والوافدين في الإمارات. فبدون سابق إنذار فقد القطاع العقاري بريقه وحيويته. وفجأة هبطت أسواق الأسهم هبوطا عميقا واختفت الاستثمارات والمدخرات وتحولت بقدرة قادر إلى «فص محل ذاب». وسرعان ما تراجعت الثقة وحل القلق والشك محل اليقين في استمرار الزخم الاقتصادي والعمراني والسياحي وفجأة أيضا انعدمت السيولة من المصارف الوطنية والأجنبية في دولة نفطية غنية يفترض أنها تمتلك أكبر المحافظ والودائع السيادية في العالم. ثم جاءت كبرى المفاجآت عندما ازداد الحديث عن تراكم الديون على الشركات والحكومات المحلية وشككت تقارير دولية في القدرة على دفعها ومواجهة أعبائها في مرحلة الركود الاقتصادي العالمي.إن الأزمة المالية الراهنة هي في جوهرها أزمة عالمية وليست محلية، وقد صُنعت في الولايات المتحدة، وتم تصديرها إلى العالم بما في ذلك الإمارات ودول المنطقة. جاءت هذه الأزمة لتؤكد مقولة إنه إذا «عطست أميركا يصاب العالم بأسره بالحمى». والعالم محموم اقتصاديا اليوم بسبب أزمة الرهن العقاري في أميركا، وسوء إدارة الحكومة الأميركية لنظامها المالي والمصرفي، وتجاوز ديون الحكومة الأميركية حاجز الـ 10 تريليون دولار، بالإضافة إلى غياب الرقابة والمحاسبة على المؤسسات الاستثمارية الأميركية الكبرى التي انجرفت خلف الجشع والطمع. المؤكد الوحيد أن الإمارات ليست مسؤولة عن الأزمة المالية ولا تتحمل مسؤولية الركود الاقتصادي العالمي، بل هي كغيرها ضحية أزمات مصدرة من الخارج. لكن تبقى الإمارات مسؤولة مسؤولية كاملة عن إدارة اقتصادها، والحفاظ على مكتسباتها، وحماية ثرواتها، وتتحمل مسؤولية ارتفاع فاتورة الديون المترتبة على مؤسساتها وبعض من حكوماتها المحلية.لقد كانت دبي الإمارة الأكثر شفافية عندما أعلنت رسميا أن إجمالي الديون المترتبة عليها وعلى مؤسساتها الاقتصادية بلغ 80 مليار دولار أي أكثر من 290 مليار درهم، وبما يوازي %160 من إجمالي ناتجها المحلي الذي يقدر بنحو 50 مليار دولار عام 2007. ورغم الاطمئنان بأن إجمالي أصول دبي البالغ أكثر من 1.3 تريليون درهم قادر على مواجهة أعباء خدمة الديون، فإن ضخامة حجم الديون وضخامة نسبتها إلى إجمالي الناتج المحلي، يأتي مفاجئا للجميع ويطرح السؤال حول كيف سُمح للدين أن يتراكم ويصل إلى هذه الأرقام والنسب العالية؟ ويبقى أيضا أن تعلن الإمارات الأخرى بنفس القدر من الشفافية والشجاعة عن حقيقة أصولها وحجم ديونها. لا شك أن النيات كانت طيبة، والغايات التنموية نبيلة، واستراتيجيات تنويع الدخل والاقتصاد الوطني سليمة %100، كما جاءت النتائج على الصعيد الاقتصادي باهرة وأقرب إلى المعجزة. لكن الظروف الاقتصادية السائدة صعبة والأيام القادمة ربما ستكون أكثر صعوبة. كما أن فاتورة الديون عالية ونسبتها مرهقة واستحقاقاتها متعبة وستكون واحدة من أكبر التحديات الاقتصادية والسياسية التي تتطلب إدارة جماعية وإرادة قوية ورؤية مؤسسية رشيدة. وإلى أن يجد أهل الاختصاص الحلول المبتكرة للتعامل مع الأزمة المالية والديون المتراكمة، من المهم التذكير بمجموعة من المبادئ العامة لمرحلة ما بعد الأزمة.وأول بند في سياق التفكير في وصفة ما بعد الأزمة هو تحقيق المزيد من التنسيق المالي والدمج الاقتصادي بين الإمارات وإنهاء التنافس غير الحميد في المشاريع خاصة العمرانية منها. من المهم الاتفاق على الحد الأدنى من توزيع الأدوار وليس تعدد الأدوار خلال المرحلة القادمة. إذا لم تسهم الأزمة الراهنة في إنهاء عصر التنافس وازدواجية المشاريع وتعددية المبادرات والمرجعيات والبدء بمرحلة جديدة من التكامل الاتحادي والتناغم الوطني، فالمؤكد أن الأزمة ستدوم طويلا والأخطاء ستتكرر كثيرا. والمطلوب ثانيا مأسسة العمل الاقتصادي والسياسي. من المهم وقف ظاهرة الفرد «السوبرمان» /الخارق الذي يحمل أعباء إدارة عدة مؤسسات وعشرات الشركات علاوة على مليارات من الاستثمارات في الداخل والخارج. لقد حان وقت العمل المؤسسي الذي يضع حدا وحدودا لتضخم دور الفرد في النشاط العام مهما كان هذا الفرد «فلتة من فلتات زمانه». إن لم تُنهِ الأزمة الراهنة عصر الإنسان «السوبرمان»/الخارق وتعيد الاعتبار للإنسان العادي «الريغيولرمان» (Regular Man) فلن تستفيد الإمارات أي درس من دروس الأزمة الراهنة ولن تتمكن من التأسيس لمرحلة ما بعد الأزمة.والمطلوب ثالثا بناء اقتصاد وطني وليس اقتصادا عالميا، واقتصاد يخدم المواطنين وليس الوافدين، والفرق بين التوجهين هو فرق في الجوهر وليس في المظهر. لا بد من مواجهة الحقيقة أنه لا يمكن للإمارات بقدراتها السكانية الوطنية المتواضعة أن تتحول إلى مركز مالي وسياحي عالمي وتستمر في بناء ثاني أكبر اقتصاد في المنطقة العربية بدون برنامج وطني واضح كل الوضوح للتعامل مع الاستحقاقات السكانية والاجتماعية والثقافية الضخمة لمثل هذا المشروع التنموي.والمطلوب رابعا وقف الجشع والطمع الذي سيطر على صغار وكبار المستثمرين الذين جرفهم التيار الجارف. فالمثل المحلي يقول: العز في القناعة والذل في الطمع. نجاحات الدولة وإنجازاتها كثيرة ومعالمها العمرانية شامخة كل الشموخ ويمكن رؤية بعضها من الفضاء الخارجي. لقد نجحت الإمارات ولم تعد تحتاج أن تؤكد لنفسها ولغيرها المزيد من النجاح. من المهم وقف سباق التحدي مع النجاح ووهم النجاح ولا داعي لإثبات أي شيء لكائن من كان بعد اليوم. فالمبدأ الذي ينبغي أن يحكم أي مشروع تنموي مستقبلي هو القناعة والاكتفاء بما تم إنجازه خلال الـ37 سنة الماضية. هناك سجل تنموي باهر والأولوية الوطنية تحتم المحافظة على هذا السجل الوطني وليس الصعود إلى قمم جديدة وعرة وربما غير آمنة خلال المرحلة المقبلة.عندما تكون الأزمة كبيرة لا يجب أن تكون الحلول صغيرة. إذا كان هناك خلل في السياسات فهذا هو وقت تصحيح المسارات، ومراجعة سجل النجاحات والإخفاقات. وإن كان هناك شطط في العمل الفردي والمحلي فهذا هو وقت التأكيد بشكل مطلق على العمل المؤسسي والجماعي والاتحادي. وإذا كان الجميع منهكا ومرهقا ومستنزفا في العمل المجدي وغير المجدي، فمن باب أولى أن يأخذ الجميع قسطا من الراحة والاستراحة المستحقة. وإن كان هناك انغماس في استنزاف موارد الحاضر فهذا هو وقت التفكير بهدوء في المستقبل والتخطيط لسيناريوهاته الصعبة، ووضع مبادئ وأسس اقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة تؤكد على أن الوطن ملك المواطن، وأن الجميع شركاء في العسر واليسر، وفي السراء والضراء.[c1]*عن / صحيفة ( العرب ) القطرية[/c]