يقول السيد جمال الدين الأفغاني: (قيد الأغلال أهون من قيد العقول بالأوهام ).الإنسان يخلد ذكراه بالخير وتترحم عليه الأجيال بعمق البصمة الايجابية التي تركها في التاريخ البشري سواء في الجانب المادي أو المعنوي أو الفكري. ولكن ما يعيق الفرد من إخراج وإثارة دفائن عقله كي تتبلور كأفكار وانجازات هي القوالب السلبية التي تجعل الإنسان مثل الحصان المغطاة عيونه لا يستطيع اختيار الطريق ولذلك يسيره من يمتطيه. فمن يريد التغيير سيصطدم بالعقبة الأولى وهي قوالب الفكر والسلوك بالمجتمع التي وضعت عليهم، فلا يجد لكلمته أثر بسبب درع الوقاية الذي وضعه المقتاتون على هذه القوالب كي يفكروا عن المرء ولا يفكر هو ويكونه فقط أداة تتحرك بأيدي صناع القوالب. فالنبي إبراهيم عليه السلام) كسر الأصنام بفأسه كي يكسر القالب الذي حصر الناس فكرهم فيه وأضحوا يفكرون من خلاله، فمهما قال لهم إن الصنم لا ينفع، لا يصدقوه حتى يروا الصنم محطما وهو لا يدافع عن نفسه، فبكسر الأصنام أراد تحريرهم من هذا القالب كي يستوعبوا ما هو أفضل ويبدؤون بالإنصات.إن البناء يحتاج للهدم، فكي تبني منزلا جديدا تضطر لهدم القديم، وإن كان القديم به ما هو جيد فينبغي تجديده وترميمه بإبقاء الصالح وإزالة الطالح، وهذا على مستوى الفكر وحركة التغيير، وكي تتعلم البناء لابد أن تتعلم الهدم، لأنها المرحلة الأولى، ولابد أن تتعرف على الثابت والمتغير، فتعرف ماذا تهدم وماذا تثبت وتبني عليه، ولذلك عندما تريد عمل استبدال لفكر وسلوك الناس فلابد أن تقدم البديل الأفضل. ونلاحظ في التاريخ الإنساني أن الأنبياء والرسل هم من الذين استخدموا الهدم والبناء كي يخرجوا البشر من الظلمات إلى النور، ومثالا على ذلك، قول نبي الإسلام محمد (ص) حينما قال: ( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا )، فنلاحظ في البداية جاءت كلمة ( لا إله ) أي رفض وهدم، ثم أعطاهم البديل الأفضل لبناء عقيدة صحيحة وهي ( إلا الله ) والنتيجة هي ( تفلحوا ) أي فلاح للبشرية في الدنيا والآخرة، فالمصلحون عبر التاريخ ومن يطلبون التغيير نحو الأفضل، دائما عندما يرفضوا كل ما هو سلبي على البشرية، يقدموا للناس البديل الأفضل .فكسر القوالب القديمة السلبية وتحرير الإنسان يحدث حالة تغيير للفكر والسلوك، فالأوس والخزرج كانوا بالجاهلية يعيشون داخل قالب النعرة القبلية لذلك هم في صراع دائم، فأخرجهم الإسلام من هذا القالب وجعلهم يستبدلون التفكير القبلي بأن يفكر كل منهم كانسان صاحب رسالة عالمية يريد من خلالها إخراج نفسه والآخرين من الظلمات إلى النور ويحرر نفسه والآخرين من القيود التي وضعتها قوالب الجاهلية عليهم . ولذلك ترى أن الغرب استطاع التطور والتقدم في الجوانب التي كسر قوالب التخلف فيها، وانطلق باحثا عن السنن الكونية للنهضة والرقي.ولكن للأسف بينما الغرب كسر قوالب التخلف واستفاد من تجاربه السلبية كي يتحاشاها، ها نحن نرى قوالب الجاهلية تعود لأمتنا، ولكن هذه المرة مغلفة برداء الدين والدين الحقيقي منها برئ، ومن خلال سياسة تشويه كل فكرة إيجابية، فالفكرة الإيجابية القوية المثمرة التي تأتي أكلها كل الحين من الصعب تحطيمها، ولكن ممكن تشويهها وإدخال الزيادات عليها وتحريفها، فيبقى الاسم ويتغير المضمون ويشوه، ولذلك يقول الشيخ محمد عبده: ( من أهم ما يجب التصريح به بيان ما انتشر بين العامة مما يحسبونه دينا وهو عند الله ليس بدين). فهناك من جاء وشوه كل ما هو إيجابي وحضاري في هذه الأمة كي يعيد الناس لقوالب الجاهلية وتكون الأمة في مؤخرة الركب، فعندما تكبل الفكر وتحجره سوف تقف عملية التجديد والتطوير والمحافظة على الفكر السليم، فعندها يحدث الفراغ الفكري، فأطلقت يد من يملأه بما يساهم بالتدهور أكثر فأكثر ، فالنعرة القلبية والطائفية والسلوك الجاهلي وحالة الكراهية بين مكونات المجتمع هي السائدة حتى لو أخذت هيئة أحزاب وجمعيات نفع عام، والتطرف وفرض الرأي بقوة العنف والنفوذ هي اللغة الجديدة، والتفكير باستنزاف ثروات الوطن والاستيلاء على المناصب من غير وجه حق هي الثقافة التي تروج. وكوننا جزء من هذه الأمة فقد تسربت لنا أيضا هذه الأمراض الاجتماعية والفكرية على يد من يحبون استيراد أفكار التدهور من الخارج، فالتنظيمات العالمية أصبحت موضة في العالم الإسلامي، ولذلك على كل وطني يريد المساهمة بالتغيير الايجابي والإصلاح وعمل نهضة لنفسه ومجتمعه وبلده أن يفهم أنه لابد من تقديم البديل الإيجابي على مستوى الفكر والسلوك الذي يقنع الناس بتبنيه، ومن ثم سوف يضمحل الغث تدريجيا عندما يهمله الناس، ولكن مادام البديل مفقود فسوف يظل الإنسان يعيش في قوالب الجاهلية والتعصب القبلي والطائفي والشللي والعنصري ولكنها مزينة ومغلفة بمكياج القرن الواحد والعشرين. والبديل لا يظهر بسهولة مادامت عملية التفكير والحركة تكبلها القيود.[c1]* عن صحيفة (القبس) الكويتية[/c]
|
دراسات
اكسر الصنم وتحرر
أخبار متعلقة