د. فهد محمود الصبريرغم ما ينطوي عليه قياس الفقر وفقاً للدخل أو الإنفاق أو هما معاً، من موضوعية تخلو من شكلية ومظهرية، ورغم ما تحمله نتائجه من فرص تعين على فرز الفقراء وعقد مقارنات بينهم وبين غيرهم، الا أنه يواجه بمجموعة من الانتقادات التي تقلل من قيمته العملية وفوائده في التخطيط التنموي. كما أنه باعتماده على مسوح الوحدات المعيشية لا يدرك التباين داخل الأسرة على أساس النوع، كما أن إمكانيات توظيف تلك النتائج في المقارنات الزمانية، مرهون باستخدام المفاهيم نفسها والأساليب البحثية والمتغيرات ذات العلاقة بالمسوح السابقة واللاحقة. وهو ايضاً لا يعين على تقديم تفسير للفقر أو توضيح آليات الإفقار ولا يعين على فهم مؤشرات ومظاهر ومنها محددات أخرى للفقر ذات أهمية في فهم كثير من الظواهر والعمليات ذات العلاقة، وما يتعلق كمثال محدد بفهم العلاقات بين الصحة الإنجابية والفقر (صندوق الأمم المتحدة للسكان، حالة سكان العالم 2002 )وثمة أبعاد واقعية اقتصادية وثقافية واجتماعية أخرى تحول دون قياس الفقر وفقاً لبعد الدخل، منها مثالاً لا حصراً أن بعض السكان يصعب عليه تحديد دخله كالمشتغلين بالزراعة والحرفيين ومن هم على شاكلتهم من حيث طبيعة العمل ومصادر الدخل ، ويدلل على هذا أن كثيراً من المبحوثين في مسوح الدخل يأتي إنفاقهم أعلى من دخلهم، كما تسود قيم تتعلق بفهم الناس (للرزق) لا تخلو من خوف من (الحسد) أو من (الآخر) الرسمي الذي قد يقدم أو لا يقدم خدمة أو حتى بفرض ضريبة (عبدالباسط عبدالمعطي وآخرون 2000) .وإذا ما سلمنا بأهمية فقر الدخل، فإن الأهم من المنظور التخطيطي للمشاريع والبرامج التنموية التي تتطلع إلى تحقيق أهداف التنمية البشرية وتواصلها متجددة، وفي القلب منها حقوق الإنسان وهو فقر القدرات والحرمان البشري والاستبعاد الاجتماعي والطبقي. إن مفهوم فقر القدرات يقدم مقاربة تسهم على نحو أكثر وضوحاً وشمولاً في فهم الفقر، كما فعل دليل البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة الذي جمع بين المعلومات عن الحرمان وطول العمر (السكان الذين لا يتوقع أن يعيشوا حتى 42 عاماً) والمعرفة (النسبة المئوية للأميين) ومستويات المعيشة (الناس الذين لا يحصلون على مياه مأمونة والذين لا يحصلون على الخدمات الصحية، والأطفال دون سن الخامسة الذين يعانون من نقص الوزن) (صندوق الأمم المتحدة: حالة سكان العالم : 17,2002) لهذا وتطلعاً إلى مزيد من الفهم الأعمق لآليات الإفقار وعملياته، وأعماقه البنيوية تلفت هذه المقاربة النظر إلى أبعاد ومستويات أخرى مهمة في إنتاج وإعادة الفقر، في مقدمتها تحليلياً ومن منظور المواجهة الحقيقية أو قل، (الراديكالية) للفقر، ما يسمى بالمجتمع الفقير الذي ينتج فقر الناس وينتج آليات إعادة إنتاج فقرهم موسعاً ومتزايداً. ويقصد به المجتمع الأكثر عرضة للهشاشة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وهو بالطبع مجتمع لا يعي الأهم من شروط وظروف استدامة التنمية، حيث تسوده الأبوية العمودية في إدارة شؤون المجتمع والدولة على مستوى المؤسسات والمنظمات بما في ذلك الأسرة والمؤسسة التعليمية. فيحاصر التعددية والتنوع والرأي الآخر، ويغترب عن المساءلة والشفافية والنقد ويكرس الديكتاتورية السياسية والبيروقراطية، ويشيع الفساد، ويهدر الإمكانات ويزكي صراع الأجيال وهو المجتمع الذي ينحسر فيه التفكير العلمي فيسود التواكل والخرافة وهو المجتمع الذي لا ينتج المعرفة وبالتالي لا يجد منها ما يوظفه في حياته اليومية، وهو المجتمع الذي تسوده قيم إحلال الماضي محل الحاضر، وصياغة المستقبل في ضوء هذا الماضي وهو المجتمع الذي لا يصون رأسماله البشرى من حيث حقوقه وإعداده وتوسيع فرص خياراته وفق مبدأ الكفاية والعدالة.بإيجاز شديد المجتمع الفقير هو الذي يفتقد الوعي والإرادة والشروط المواتية لتنمية قدراته المعرفية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتثقيفية، وكل فقر في أي من هذه القدرات يفضي إلى فقر المجتمع افرادأً وجماعات وقوى اجتماعية وسياسية ومعرفية. وقد بذلت جهود وفيرة نسبياً من قبل المؤسسات الدولية والإقليمية كما بينت تقاريرها وبحوثها وايضاً المسوح والبحوث الوطنية للتدليل على أن الفقر ـ بمعناه الأشمل ـ يؤثر سلباً في السلوك الديموجرافيي والصحي للناس، وفي خصائصهم السكانية الأخرى المعرفية وفي تفاعلاتهم الاجتماعية وإنتاجيتهم .. الخ . غير أن الجهد الأقل هو الذي بذل لتوضيح كيف أن انحسار فرص الارتقاء بالقضايا السكانية، من العوامل الفاعلة في الفقر ـ وبالتالي يكون كل جهد علمي وتخطيطي للارتقاء مثلاً بالصحة الإنجابية هو تعامل جدي مع احد منابع الفقرـ ومواجهته في الوقت نفسه وقبل أن نسير مع العمل الراهن يهمنا التأكيد على أن حال الصحة الإنجابية ليس السبب الوحيد، والمقاربة الوحيدة لتفسير الفقر، وبالتالي مواجهته، فقضية الفقر في السياق الإقليمي العربي، عميقة في جذورها التاريخية متشابكة وبالأساس مع أنماط توزيع الثروة والسلطة. وثمة آليات استمرت واطردت من الاستعمار التقليدي إلى التبعية ثم إلى الهيمنة ـ تواصل دورها ـ متفاعلة مع أخرى ـ في إعادة إنتاج الفقر، مجتمعات وأفراد وجماعات.ولهذا أكد إعلان الألفية الثالثة للتنمية الدولية، أن من بين أهم أهدافه التي تسهم بدور مهم في مواجهة الفقر ما يتعلق بأهداف ومفردات الصحة الإنجابية.
|
الناس
الفقر والسكان
أخبار متعلقة