محمد زكريا:من الشخصيات السياسية التي لعبت دوراً خطيراً وهاماً على مسرح تاريخ اليمن الحديث وتحديداً قبيل الفتح العثماني لليمن في سنة ( 945هـ / 1538م ) هو الإمام شرف الدين بن يحيى بن شمس الدين المتوفى سنة ( 965هـ / 1558م) الذي دعا بالإمامة في حجة سنة (912 هـ / 1506م ) . وتصفه المصادر، بأنه كان ذا شخصية طموحة يسعى إلى بسط نفوذه على اليمن شماله وجنوبه ، وشرقه وغربه وبفضل دهائه ، وحنكته السياسية من ناحية وبفضل الأوضاع الخارجية التي حدثت في اليمن وهي الغزو البرتغالي لحوض البحر الأحمر وحصار سواحله اليمنية ودخول المماليك ، ومقتل السلطان عامر بن عبد الوهاب الطاهري سنة (923هـ / 1517م ) وفتح العثمانيين لليمن كل تلك العوامل مجتمعة ساعدته أن يطفو علىَ سطح الأحداث السياسية وأن يحقق أهدافه الاستراتيجية التي كان يرمي إليها من وقت بعيد وهي أن يكون الإمام والزعيم والحاكم الوحيد والأوحد الذي يحكم اليمن دون منازع .[c1]ذو نظرة سياسية ثاقبة[/c]ويذكر الدكتور سيد مصطفى سالم أن الإمام شرف الدين يعد من الأئمة الزيدية المجتهدين المجددين في المذهب الزيدي . وأكبر الظن أن الإمام كانت لديه نظرة سياسية ثاقبة ، و بصيرة نافذة ، وعقلية ذكية راجحة ، فمن أجل أن يكسب قاعدة عريضة وواسعة وقوية وصلبة تنطلق منها دعوته للإمامة في مختلف أرجاء اليمن كان عليه أن يستند غالبية كبرى من اليمنيين لهم تأثيرهم الكبير في مجريات أحداث الأمور السياسية التي يُمكن أن تحقق أحلامه ومآربه وهم من أهل السُنة من اليمنيين إلى جانب القبائل الزيدية الواقعة في الأقاليم الجبلية الشمالية . ولذلك عمل الإمام شرف الدين على كسب الفقهاء ، والعلماء من السُنة علىَ تباين مذاهبهم إلىَ صفه بل أنه جعل المذهب الزيدي بجانب المذاهب الأربعة السُنية المعروفة. ومن أجل تلك الغاية . فقد ألف عدة من الكتب الفقهية التي تقرر بأن المذهب الزيدفي هو أقرب المذاهب إلى المذهب السُني . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، إذ يقول : " ... إذ كان له ( أي الإمام شرف الدين ) عدة مؤلفات وآراء فقهية هامة في المذهب الزيدي ، كما كان من الأئمة المعتدلين بالنسبة لموقفه من المذاهب السُنية ، فقد كان يعترف بهذه المذاهب ويعتبر المذهب الزيدي مذهبا خامسا، ويقرب إليه العلماء والفقهاء من أهل هذه المذاهب " . [c1]الأحداث تحقق أغراضه[/c] والحقيقة أن الإمام شرف الدين يحيى قبيل أن يعلن إمامته في حجة وجد من الضرورة بمكان أن يتكئ على القبائل الزيدية القوية في المناطق الجبلية الشمالية لتبايعه على الإمامة وتسانده في تحقيق أغراضه . فعمل على مكاتبة عدد من القبائل لتكون له الذراع القوي الذي يصد عنه خصومه . والحقيقة أن أكبر خصومه السياسيين عندما أعلن الدولة الطاهرية وعلى رأسها سلطانها عامر بن عبد الوهاب الحاكم القوي الذي كان عقبة كأداء في طريق إمامته ، ولم يتمكن الإمام شرف الدين أن ينشر دعوته للإمامة إلى حيز الفعل أو بعبارة أخرى أن تنطلق من عقالها وأن يلعب دوراً بارزاُ في مجريات أحداث اليمن إلاّ بعد أن غاب السلطان (( عامر )) من على مسرح اليمن السياسي وذلك بمقتله على يد المماليك بعد أن لعبت الخيانة لعبتها بالقرب من أسوار صنعاء سنة ( 923هـ / 1517م ) . وهنا ربما كان مناسباً أن نقتبس فقرة من كلام الدكتور سيد مصطفى سالم ما ذكره عن نتائج اختفاء السلطان ( عامر )) عن الحياة السياسية في اليمن وانعكاسها على دور الإمام في أحداث تاريخ اليمن الحديث ، إذ يقول : " وقد بدأ الإمام شرف الدين يلعب دوراً كبيراً في تاريخ اليمن الحديث بعد سقوط السلطان عامر بن عبد الوهاب مباشرة ... فقد تطورت الأحداث سريعة لتحقيق أغراضه ، واستطاع أن يمد سيطرته إلىَ (( صنعاء)) ، بعد زمن قليل " . [c1]شخصيتان قويتان[/c]وفي واقع الأمر ، أن السلطان عامر بن عبد الوهاب والإمام شرف الدين كانتا شخصيتان قويتان ، وكان لديهما طموحاتهما السياسية فالأول كان يسعىَ إلى تأسيس دولة قوية البنيان تفرض نفوذها السياسي على جميع اليمن . وبالفعل عمل منذ أن تقلد أمور السلطنة في سنة ( 894هـ / 1489م ) أن يوسع رقعة مساحة سلطنته وبعبارة أخرى أن يمد سيطرته على مناطق واسعة من أقاليم اليمن بما فيها المناطق الجبلية الشمالية والتي تعتبر مراكز القوى الزيدية الرئيسة فيها مثل مدينة صعدة . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : " فقد أظهر نشاطاً كبيراً منذ توليته الحكم ... وعمل على توسيع رقعة أملاكه على عكس والده الذي قنع بالعيش في سلام مع باقي السيادات التي عاصرته وخاصة الزيدية . وقد ورث السلطان عامر بن عبد الوهاب حوالي ثلثي اليمن فقط عند توليته الحكم ، أما الثلث الباقي فقد كان موزعاً بين عدد من الأئمة الزيديين " . [c1]استراتيجية السلطان (( عامر )[/c]والحقيقة أن السلطان عامر وضع خطة أو لتحقيق أهدافه السياسية الطموحة التي ذكرناها سابقاً . وكانت خطته على مرحلتين المرحلة الأولى عمل علىَ ترسيخ نفوذ وهيبة الدولة في الأقاليم الجبلية الجنوبية والسواحل التي تقع في حوزتها . ويبدو أن السلطان (( عامر )) وجد أن الضرورة العسكرية تحتم عليه أن يقف على أرض صلبة يتمكن أن ينطلق منها إلى تحقيق طموحاته المستقبلية أو بعبارة أخرى أن يكون ظهره من الخلف قوياً ومحمياً عندما يواجه خصومه وجهاً لوجها المرحلة الثانية من خطته مواجهة ألد أعداء الدولة الطاهرية اعدائه وهم الأئمة الزيدية . وتمكن السلطان (( عامر )) أن يحقق طموحاته المستقبلية وهي بسط نفوذ الدولة في كثير من الأقاليم الجبلية الشمالية التي تتمركز فيها القوى السياسية الزيدية وبعد معارك طاحنة سقطت صنعاء في قبضته . [c1]سقوط صنعاء ونتائجه[/c]وتمكن السلطان أن يستولي على (صنعاء) - كما قلنا سابقاً- والحقيقة كانت لها نتائجها الإيجابية والسلبية في نفس الوقت على الدولة الطاهرية، حقيقي سقطت صنعاء في قبضت السلطان (( عامر )) وصار الطريق مفتوحاً لجيوشه إلى المنطقة الجبلية الشمالية التي تعتبر مقار الأئمة الزيدية أو التي تتمركز قوتهم فيها. ولكن من نتائج ذلك أن الجبهة الزيدية توحدت في وجه السلطان (( عامر )) بعد أن وجدوا جميعاً أن الخطر يتهددهم جميعاً وأنه قاب قوسين أو أدنى منهم . مما استنزف أموال ضخمة من خزانة الدولة الطاهرية . مما كان له نتائج وخيمة على اقتصادها وبالتالي على قوتها السياسية والعسكرية . [c1]السقوط في الهاوية[/c]وعندما حاصر الفرنج البرتغاليون السواحل اليمنية التي كانت تهيمن عليها الدولة الطاهرية . وخاصة عدن المعروفة في المصادر أنها كانت الخزانة العظيمة للدولة التي كانت تمدها بـ ( الأحمر ، والأبيض ) أي بالذهب والفضة والأموال المالية الأخرى .فقد كانت الضربة القاصمة التي ضربت اقتصاد الدولة في مقتل مما جعل السلطان (( عامر )) يواجه تحديات غاية في الخطورة والصعوبة في مواجهة التمردات والثورات التي انفجرت في وجه السلطنة الطاهرية في غالبية الأقاليم التي كانت تسيطر عليها . ومن الأسباب الأخرى التي تذكرها المصادر في سقوط الدولة الطاهرية وهي أن الأمراء والحكام الطاهريين على الرغم من الأموال المكدسة لديهم لم يسعفوا الأهالي الذين أصابهم الفقر والفاقة وتحديداً في المناطق الساحلية والمدن التهامية من جراء حصار الفرنج البرتغاليين للسواحل اليمنية مما دفع الناس أن ينفضوا من حول الدولة الطاهرية لتواجه مصيرها المحتوم وهو السقوط في هاوية الهزيمة . [c1]تضارب المصالح[/c]لقد ذكرنا سابقاً ، أن الإمام شرف الدين كان ذا شخصية قوية وطموحة وذكية ، وسياسي من الطراز الأول ، وصاحب رؤية واسعة وثاقبة وعميقة يقرأ الأحداث السياسية قراءة واعية.ً ويبدو أنه كان يسعىَ أن يحقق ما حققه الإمام الهادي يحيى بن الحسين الرسي المتوفى سنة ( 298هـ / 910م ) في تأسيس دولة زيدية في صعدة ولكن دولة زيدية مصبوغة بأسُرة شرف الدين أو بعبارة أخرىَ أن تكون قاعدتها المذهب الزيدي وقمتها أسرة شرف الدين وأن تكون هي المسئولة الأولى والأخيرة عنها دون منازع ولا يزاحمها في تلك الدولة الناشئة قوى زيدية أخرى . ودليل ذلك عندما حاول البعض منهم أن يظهر على المسرح السياسي في المناطق الجبلية الشمالية فوقف لهم الإمام شرف الدين بالمرصاد ، فدخل معهم في حروبِِِِ ِ ضروس . وهذا دليل على أن تضارب المصالح المادية والسياسية هي المحرك الرئيس في التصادم بين القوى المحلية المختلفة وإن كانوا من مذهب واحد . ونستطيع أن نتجرأ ، ونقول أن الإمام شرف الدين وغيره من الأئمة الزيدية ، كانوا يتخذو من المذهب الزيدي ستاراً لتحقيق أغراضهم السياسية الطموحة وهي السيطرة على اليمن وأقاليمه المختلفة أو بعبارة أخرى . كانت السياسة تأتي في المرتبة الأولىَ تتبوأ المكانة الكبيرة في تفكيرهم ويأتي بعدها المذهب الزيدي في المرتبة الثانية أو بعبارة دقيقة أن المذهب الزيدي هو الوسيلة والهدف هي السياسة . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفىَ سالم ، فيقول : " ... فقد اصطدم الإمام بالقوىَ الزيدية الأخرى في شمال اليمن " . ويضيف ، قائلاً " ورغم وحدة المذهب بين القوىَ الزيدية . فقد كان تضارب المصالح المادية والسياسية تمثل العامل الرئيسي في تصادم هذه القوى ، وفي جعل الصدام بينهما يتصف بالعنف و القسوة " . [c1]الإمام والمماليك[/c]ولقد ذكرنا سابقاً ، أن السلطان عامر بن عبد الوهاب كان العقبة الكأداء في سبيل تحقيق إعلان إمامته في حجة ، وانتشارها في اليمن لكون السلطان كان حاكماً قوياً فاستطاع أن يمد نفوذ دولته إلى الكثير من أقاليم اليمن ومنها المناطق الجبلية الشمالية مقر الأئمة الزيدية . وكان علىَ الإمام شرف الدين أن ينهج كافة الوسائل من أجل تحطيم قوة السلطان (( عامر )) ، وإزالته من مسرح اليمن السياسي فقد كان سدأً منيعاً في تحقيق أغراضه . وبسبب ذلك فقد كان الإمام من أقوى العناصر المعارضة اليمنية له ولسلطنته . ومن أجل تنفيذ سياسته الرامية إلى القضاء على السلطنة الطاهرية والسلطان (( عامر )) أن شجع المماليك على النزول إلى السواحل اليمنية والمدن التهامية أو بعبارة أخرى أن من الاستراتيجية العسكرية للمماليك في مواجهة البرتغاليين في البحر هو إقامة قواعد بحرية على السواحل اليمنية . وكان ذلك يتطلب أن يسمح لهم بذلك السلطان . ويبدو أن الإمام شرف الدين كان يعلم علم اليقين أن السلطان لن يسمح لهم بالنزول وإقامة قواعد على مدن السواحل اليمنية . فعمل الإمام بكل حيله ودهائه في تدبير مكيدة ومؤامرة للسلطان (( عامر )) بأن ألصق تهمة به بأنه يتحالف مع الفرنج البرتغاليين ضد المماليك حتى يؤلبهم عليه وعلى سلطنته . وهنا ربما يكون مناسباً أن نقتبس فقرة من كلام الدكتور سيد مصطفى سالم حول المؤامرة التي حاك خيوطها الإمام ضد السلطان ليقع التصادم بينه وبين المماليك ، فيقول : " وكان الإمام يدرك أن العدو الحقيقي للمماليك هم البرتغاليون ولذلك ألصق بالسلطان عامر تهمة التعاون مع هؤلاء حتى يثير المماليك ضده " . ومن أجل أن يحفز الإمام شرف الدين المماليك النزول إلى السواحل اليمنية ومن ثم يقضون على السلطان (( عامر )) . فقد قدم لهم عرضاً مغرياً وهو أنه طلب من قائد الحملة المملوكية حسين الكُردي مده بالجنود لمحاربة السلطان (( عامر )) . وتعهد بدفع رواتب الجُند مدة أقامتهم في اليمن . وهناك نقطة يجب الإشارة إليها وهو أن الإمام شرف الدين ظن أن الحملة المملوكية القادمة من مصر جاءت إلى اليمن لمحاربة الفرنج البرتغاليين ومن ثم العودة مرة أخرى إلى مصر . ودليل ذلك أنه تعهد بدفع رواتب الجُند المماليك " طوال مدة إقامتهم " . [c1]السلطان عامر والمماليك[/c]والحقيقة أن السلطان (( عامر )) كان يخشى من المماليك إذا سمح لهم بالنزول إلى السواحل اليمنية ، أن تصير سلطنته تابعة وخاضعة لهم ولسلطانهم قنصوة الغوري في مصر ، ولذلك رفض التعاون معهم . وفي الحقيقة أن السلطان (( عامر )) لم يكن في استطاعته الوقوف أمام المماليك الغورية نظراً للأسلحة النارية الفتاكة التي كانت في حوزتهم وهي البنادق والمدافع والتي كانت غير معروفة في اليمن من قبل وكان عليه على حسب قول بعض المؤرخين المحدثين أن يمد يد المساعدة للمماليك ويسمح لهم بالنزول في السواحل اليمنية وإقامة القواعد فيها لمواجهة البرتغاليين ويبدو أن السلطان عامر بن عبد الوهاب الذي حكم اليمن مدة طويلة ، وكان أكبر قامة سياسية فيها لم يقرأ قراءة جيدة وعميقة الأحداث السياسية الدولية التي هبت على اليمن . وظن أن سلطنته مانعة حصونها ، وأنه يستطيع أن يتغلب عليهم بمفرده . ولم يدر بخلده أن الناس انفضوا من حوله من جراء السياسة العنيفة والقمعية التي اتبعها عماله في مدن السواحل اليمنية في استخراج الجباية ، والإتاوات منهم . ولقد ذكرنا أن الأمراء والحكام الطاهريين كانوا يعيشون في رغد ونعيم كبيرين في الوقت الذي يعاني الناس الأمرين إزاء حصار الفرنج البرتغاليين لسواحل اليمن وبسبب ذلك كان أهالي المدن الساحلية التهامية أول الناس الذين تحالفوا مع المماليك . وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسة وراء أفول نجم السلطنة الطاهرية عن سماء اليمن. [c1]الإمام والأشراف[/c]وكيفما كان الأمر ، فقد تمكن الإمام شرف الدين الذي كان يكن عداءً كبيراً للسلطان (( عامر )) أن يحقق أغراضه بإزاحته عن طريقه ، وإخراجه عن الحياة السياسية . وقلنا سابقاً ، أن الإمام تصادم مع بعض القوى الزيدية التي حاولت أن تزاحمه علىَ الإمامة والحكم . فدارت بينه وبينها معارك شرسة وطويلة لم يتمكن الإمام من كسبها وحسمها " إلاّ بعد حوالي خمسة عشرة عام ... " . وبعد أن ثبت الإمام شرف الدين أقدامه في الساحة السياسية اليمنية بالقضاء على السلطان (( عامر )) أقوى وأكبر منافس له ـ كما قلنا سابقاً ـ وأخمد جذوة القوى الزيدية التي اشتعلت في وجه . فلم يعد على الساحة اليمنية سوىَ الإشراف الذين كانوا ينافسونه على الحكم . بالرغم أنهم كانوا حلفاء الأمس ضد السلطان (( عامر )) وتعاونوا على الإطاحة به . إلا أنه كان تحالفاً هشاً مبنياً علىَ المصالح المادية والسياسية البحتة سرعان ما أنهار ، ولقد ذكرنا أن الإمام شرف الدين وضع نصب عينيه القضاء على كل منافسيه ولو كانوا من نفس مذهبه الديني مثلما حدث مع القوىَ الزيدية التي حاولت مزاحمته على إمامته وزعامته في المناطق الجبلية الشمالية ، فدخل معها في حروب ضارية دامت سنوات طويلة ـ كما أشرنا سابقاً ـ .[c1]تحالف الأشراف والمماليك[/c]ويبدو أن الإمام شرف الدين عندما وضع يده مع الأشراف كان الغرض من وراء ذلك أن يضرب الإشراف بالطاهريين فيكون قد حقق هدفين ، الهدف الأول التخلص من السلطان (( عامر )) والهدف الآخر أضعاف قوة الأشراف . وعندما تم القضاء على السلطان وسلطنته ، بدأ يفكر بالتخلص منهم لأنهم كانوا يشكلون منافساً قوياً وخطيراً بسبب أن نسبهم يعود إلى آل البيت . وكان ذلك له تأثير كبير بين قبائل المناطق الجبلية الشمالية وخاصة في الجوف ، و صعدة من ناحية وكانت لديهم اتصالات قوية مع سلطان المماليك قنصوه الغوري . وكان يحفزون المماليك على النزول إلى السواحل اليمنية والوقوف معهم ضد السلطان (( عامر )) وبعبارة أخرى كانوا يستندون على قوة المماليك العسكرية .ما يزيد من خطورتهم عليه وعلى إمامته . وهنا ربما يكون مناسباً أن نقتبس فقرة من كلام الدكتور سيد مصطفىَ سالم ،" وكان الأشراف في (( جيزان )) على اتصال سابق بالسلطان الغوري أيضاً فقد عمل هؤلاء على التقرب من المماليك في مصر ، وشجعوهم على إرسال حملة إلى اليمن للقضاء على حكم السلطان عامر بن عبد الوهاب " . ويمضي قائلاً : " وكان السلطان يعترف بحكم هؤلاء الأشراف في (( جيزان )) مقابل أن يدفعوا له خراجاً سنويا ، ولكن طمع هؤلاء في التخلص من مظاهر تبعيتهم للسلطان عامر ومن دفع الخراج له ، فلم يجدوا أمامهم إلا المماليك في مصر للاستعانة بهم في تحقيق أطماعهم في اليمن " . [c1]خطورة الأشراف[/c]ومرة أخرى تؤكد الأحداث أن المصالح المادية والسياسية فوق كل شيء أي فوق وحدة المذهب الديني . فهذا الإمام شرف الدين بالرغم من أن نسبه يرجع إلى الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب وهو بذلك يكون من السادة أو من الأشراف الذي يعود نسبهم إلى آل البيت ـ كما قلنا سابقاً ـ. ولكن وجد أن هؤلاء الأشراف يشكلون عليه خطورة على زعامته وإمامته فعليه أن يتخلص منهم حتى تكون الساحة السياسية خالية له تماماً وهذا ما فعله . فقد استخدم العنف والقسوة المفرطة في ضرب الأشراف . وينقل لنا الدكتور سيد مصطفى سالم عن عيسى بن لطف الله المتوفى في سنة ( 1048هـ / 1638م ) كيف تمكن المطهر ابن الإمام شرف الدين من الاستيلاء على مدينة عمران ؟ بعد معارك طاحنة ، وكيف صارت بعد أن سقطت بيد قوات الإمام ؟ ، فيقول : " فقد قام ابنه المطهر في سنة 928هـ ( 21/ 1522م ) بالاستيلاء عليها بعد حروب عنيفة ، وتركها أطلالاً دارسة ، وخرابات عابسة . وغنم منها سلاحاً ونقداً وغنماً ، وخيلاً " .. والحقيقة أن المصالح المادية والسياسية هي التي أشعلت فتيل الصراعات الحروب بين الإمام والأشراف وكل واحد منهما كان يريد أن ينقض على الآخر ليكون الزعيم الأوحد والوحيد في إدارة دفة حكم اليمن من شماله إلى جنوبه ومن غربه إلى شرقه .[c1]الإمام والمماليك[/c]وعلىَ أية حال ، تمكن الإمام شرف الدين من إزاحة خصومه السياسيين الواحد تلو الآخر . وكان علىَ رأسهم وفيِ ِ مقدمتهم السلطان عامر بن عبد الوهاب الذي قتله المماليك في سنة 923هـ / 1517م بالقرب من صنعاء . وأطاح أيضاً بالقوى الزيدية التي كانت تنافسه على الإمامة والزعامة في حكم اليمن . وتخلص من الأشراف الذين تحالفوا معه في بداية الأمر ضد السلطان ولكن سرعان ما نقض العهد معهم وانفرد بحكم صنعاء والمناطق التي وقعت تحت يديه . ولم يعد من قوى سياسية يخشاها على مسرح اليمن السياسي سوى المماليك الذين جاءوا من مصر. والحقيقة أن تلك القوىَ السياسية الأخيرة استطاع أن يحسم أمره معها بسهولة ويسر وذلك بسبب أنهم لم يكونوا من القوى المحلية التي يمكن أن تدعمها القبائل من ناحية وارتكبوا حماقات وأخطاء فادحة في حق الأهالي . فقد عاثوا في البلاد والعباد الفساد . فقد كانوا لفيفاً من المغامرين شغلهم الشاغل هو النهب والسلب ، فأذاقوا الأهالي الويل والثبور . وفي صنعاء انتفض الأهالي عليهم وطلبوا من الإمام شرف الدين إنقاذهم من المماليك ، وتمكن بالفعل الإمام من إخراجهم من صنعاء . وكان ذلك نصر مبين للإمام ثبت ورسخ أقدامه في المدينة ، وكسب ثقة ود الأهالي . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفىَ سالم : " فقد تطورت الأحداث سريعة لتحقيق أغراضه ، واستطاع أن يمد سيطرته إلىَ صنعاء بعد زمن قليل . وكانت الحامية المملوكية التي تركها الأمير اسكندر المخضرم بها قد حاولت أن تمد نفوذها إلى خارج أسوار المدينة ، فهاجمت بعض القبائل المحيطة بها ولكنها ردت على أعقابها فاشلة " . ويمضي في حديثه ، قائلاً : " وعندئذ تشجع الأهالي على محاربة المماليك في داخل (( صنعاء )) حتى تمكنوا من محاصرتهم في داخل قصر (( غمدان )) ، وفي نفس الوقت استنجد هؤلاء الأهالي بالإمام شرف الدين الذي أسرع إليها في 8 شوال سنة 923هـ ( 24 أكتوبر عام 1517م ) ، فعمل على تضييق الخناق حول المماليك حتى اضطروا أخيراً إلى تسليم أنفسهم ، فأمن حياتهم حتى غادروا صنعاء سالمين " . [c1]كراهية اليمنيين للمماليك[/c]ومما زاد من ضعف المماليك في اليمن ، وتقوية جانب الإمام هو سقوط الدولة المملوكية في مصر على يد الدولة العثمانية بعد مقتل سلطانهم قنصوه الغوري في وادي مرج دابق بالقرب من حلب في سنة 1516م . ويذكر الدكتور سيد مصطفى سالم أسباباً أخرى أضعت حركة المماليك ضد الإمام وهي كالآتي : " ... أن المماليك في اليمن قد تحولوا إلى مغامرين حربيين بعد سقوط السلطان عامر ، وبعد سقوط دولتهم في مصر ، ولذلك كان صراعهم من أجل البقاء يعتمد على جهودهم الذاتية ، وعلى موارد اليمن المحلية". فكان من البديهي أن يحدث صدام بين الأهالي والمماليك بسبب النهب والسلب الذي كان يقومون به في أملاكهم الخاصة بهم ، مما أدىَ إلى كراهية اليمنيين لهم . " انقسم المماليك فيما بينهم إلى شيع وأحزاب . وتوالت الحروب والمنازعات بين قادتهم حول الاستئثار بالسلطة والحكم . وكان تعدد أصول أفراد القوة المملوكة في اليمن أحد العوامل في انقسام هذه القوة إلى عدة جماعات وخاصة بعد أن تحولت القوة المملوكية إلى جماعة من المغامرين العسكريين " . وكيفما كان الأمر ، فقد رجحت كفة ميزان القوة لصالح الإمام شرف الدين . وبزغ نجمه في سماء اليمن السياسي ، وصار الإمام والزعيم الأوحد علىَ غالبية أقاليم اليمن . وذلك بعد أن تخلص من خصومه السياسيين الأقوياء الواحد تلو الآخر ـ كما أشرنا في السابق ـ وهم السلطان (( عامر )) ، القوى الزيدية ، الأشراف ، والمماليك . وبذلك انفرد في حكم اليمن . ولا يفهم من ذلك أن الأمور استقرت تماماً للإمام . فقد نقضت بعض القبائل مبايعتها للإمام ، فكان الإمام يرسل جيوشه لتأديبها وإطفاء جذوة تمردها وذلك مثلما حدث في جهات (( خولان )) . وعلى أية حال ، تمكن الإمام من السيطرة الكاملة على الأمور السياسية في اليمن ، ودانت له اليمن من صعدة شمالاً حتى عدن جنوباً . [c1]خريطة اليمن السياسية[/c]ويرسم لنا الدكتور سيد مصطفىَ سالم ، خريطة اليمن السياسية الجديدة بعد أفول نجم الدولة الطاهرية ، وشروق شمس دولة الإمام شرف الدين ـ إن صح ذلك التعبير ـ ، فيقول : " وهكذا يتضح أن ثمة تغيراً كبيراً قد حدث في خريطة اليمن السياسية في الفترة الممتدة من 1517 إلى 1538 ، في هذه الفترة نجح الزيديون لأول مرة في تاريخهم في أن يمدوا نفوذهم إلى جهات مختلفة من اليمن حتى أسوار (( عدن )) جنوباً ، وحتى أسوار (( زبيد )) غرباً " . [c1]سياسي من الطراز الأول[/c] وفي الواقع أن الأسباب الحقيقية التي دفعت الإمام دفعاً أن يظهر ويتبوأ المكانة الكبيرة على مسرح تاريخ اليمن الحديث ، وتصير له الكلمة العليا والنافذة في اليمن هو في ـ رأينا ـ العزيمة والإصرار الكبيرين في تحقيق أغراضه من ناحية وحنكته ومناورته ، وفهمه العميق لأصول اللعبة السياسية ، وقراءته العميقة للأحداث ، وذكائه الحاد . فقد أنتصر على خصومه الأشداء الواحد تلو الآخر وبعدها أنفرد بالحكم والإمامة والزعامة . ولقد أضفىَ نسبه الذي ينتمي إلى آل البيت قداسية كبيرة لدي الكثير من القبائل الزيدية في المناطق الجبلية الشمالية فبيعته وناصرته على خصومه ووجدت فيه أيضاً فرصة سانحة أن يعلو نجمها بين القبائل في حالة انتصاره على أعدائه ، و إلى جانب ذلك أن الإمام كان نسبه يعود إلىَ آل البيت أي من سلالة الرسول ـ صلىَ الله عليه وسلم ـ مما زاد من احترام الأهالي له . و كان عالماً ، وفقهياً ، مجتهداً ، ومجدداً في المذهب الزيدي ، وكانت له عدة مؤلفات قيمة في المذهب الزيدي ، وكان من الأئمة الذين يدعون إلى الانفتاح على المذهب السُني ، وفي هذا الصدد يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : " ويعتبر الإمام شرف الدين من الأئمة المجتهدين المجددين في المذهب الزيدي ، إذ كان له عدة مؤلفات وآراء فقهية هامة في هذا المذهب ، كما كان من الأئمة المعتدلين بالنسبة لموقفه من المذاهب السُنية ، فقد كان يعتبر المذهب الزيدي مذهباً خامساً ، ويقرب إليه العلماء والفقهاء من أهل هذه المذاهب " . ومن العوامل الحقيقة والمباشرة وراء بلوغه قمة سدة الحكم في اليمن هي الأحداث المتلاحقة التي هيئت له أن يحقق أهدافه الاستراتيج التي وضعها منذ أن أعلن إمامته في حجة سنة 912هـ / 1506م . [c1]إعلان الإمامة[/c]ويقول عيسى بن لطف الله في كتابه (( روح الروح )) في أحداث سنة اثنتي عشرة وتسعمائة حول إعلان الإمام شرف الدين عن إمامته كانت بمثابة الزلزال الذي زلزل كيان الدولة الطاهرية والسلطان عامر ، وكيف كان يراسل الإمام القبائل ليستميلهم إلى إمامته ، وكيف كان صابراً ومثابراًً في تحقيق أغراضه لا تلين له عزيمة ، واستمر قرابة أكثر من عشر سنوات يدعو القبائل إلى إمامته حتى ذاع صيته بين المناطق الجبلية الشمالية . وربما يكون مناسباً أن نورد نص روايته ، إذ يقول : " وفيها دعى ( دعا ) الإمام شرف الدين فاحترقت بنار بأسِهِ الدولة الطاهرية ، وتزلزلت بعلو همته المملكة العامرية . وذلك أن الإمام شرف الدين بن شمس الدين بن الإمام المهدي . كانت دعوته وأخذ بيعته في يوم الاثنين عاشر جمادى الأولى ، وما برح يرابط القبائل ويستميلهم بالوسائل والرسائل وهو مع ذلك ينتظر الفرج ويلح في قرع الباب ومن لج ولج حتى كانت سنة أحدى وعشرين وتسعمائة " . وكان لسقوط السلطان عامر بن عبد الوهاب سنة ( 923هـ / 1517م ) أثره الكبير أن يحتل الإمام شرف الدين الصدارة الأولى على مسرح تاريخ اليمن الحديث ويكون له دور كبير فيه . بعد أن كان على هامش السياسة في حجة في عهد حكم السلطان عامر بسبب قبضته القوية على أمور اليمن من ناحية ولم تكن الأحداث الخارجية المتلاحقة والسريعة التي دفعته دفعاً إلى تحقيق أغراضه قد أطلت برأسها بعد على الساحة السياسية اليمنية من ناحية أخرى .[c1]الهوامش :[/c] اعتمدنا كلية في موضوعنا هذا على كتاب الفتح العثماني الأول 1538 ـ 1635 م للأستاذ الدكتور سيد مصطفى سالم ، سنة الطبع 1969م ، معهد البُحوث والدراسات العربية ـ جامعة الدول العربية ـ مصر العربية ـ . ويعتبر من أفضل الكتب إن لم يكن أفضلها على الإطلاق في تاريخ اليمن الحديث في القرن العاشر الهجري / القرن السادس عشر الميلادي . فقد روى تاريخ الفتح العثماني الأول لليمن بصورة تدعو إلىَ الإعجاب والتقدير الكبيرين ، ولقد سد ذلك الكتاب الرائع فراغاً كبيراً في رفوف المكتبة التاريخية اليمنية . عيسى بن لطف الله ؛ روح الروح ، تحقيق إبراهيم بن أحمد المقحفي ، الطبعة الأولى 1424هـ الموافق 2003م ، مركز عُبادي للدراسات والنشر ـ صنعاء ـ الجمهورية اليمنية . ويعتبر كتاب (( روح الروح )) من الكتب المحققة القيمة التي بذل فيها المحقق الأستاذ إبراهيم المقحفي جهود جهيدة ليخرج مثل ذلك الكتاب على أسس علمية مشرقة . أحمد شوقي إبراهيم العمرجي ؛ الحياة السياسية والفكرية للزيدية في المشرق العربي، الطبعة الأولى 2000م ، الناشر مكتبة مدبولي 6 ميدان طلعت حرب ـ القاهرة ـ
|
تاريخ
الإمام شرف الدين على مسرح اليمن السياسي
أخبار متعلقة