أضواء
محمود عبد الغني صباغأحمد بدرة، شاب فلسطيني، من مواليد جدة، يقيم في السعودية جُلّ حياته، لا يعرف غيرها كمجتمع وكانتماء. يحترف أحمد التصوير الفوتوغرافي؛ ولأنه شاب نشيط، مبادر، مؤمن بقيمة العمل التطوعيّ، يطوّع من إبداعه، وقُدراته، بالمشاركة الدائمة في الأعمال التطوعيّة والمشاريع الوطنية المتفرقة. أثناء الإعلان عن «مشروع المملكة بعدسات شبابها».تبنى أحمد الحملة على مستوى مجتمع مدينته، وبادر مع آخرين بتنظيم رحلة للمُصوّرين والمصوّرات، إلى منطقة الكورنيش. إلى هنا، والخبر عادي. أما غير العادي، والمثير لاستغراب أحمد إلى حد السخرية، وهو يسرد تجربته بمُدوّنته الإلكترونية الخاصة تحت عنوان «أنا والهيئة والتصوير»، ما حدث له بعد استدعائه هاتفياً إلى «قسم التوعية والتوجيه» بهيئة الأمر بالمعروف.لا يلفت النظر، المعاملة المُهينة التي تلقاها أحمد، على بوابة مركز هيئة الأمر بالمعروف، خصوصا أنه أصرّ على تحمّل ما طاله من أذىً نفسي ومعنوي كونه من طبعٍ «لا يحب المشاكل»، إنما، الذي يثير الاستغراب كله، أن تكون التُهمة الموجهة إليه:»تنظيم رحلات تصوير تجميع بين الجنسين بدون تصريح رسمي»!. يقول أحمد، إن الأمر لا يتحمّل الاستدعاء وكل تلك المُعاملة والإجراء التعسفي، فما يحدث، أمر تطوعي صادر من مبادرة ذاتية، وعُرف جار ومقبول، واجتماع والتقاء يتم في أماكن عامة ومعلنة، فضلاُ على أنه لا مجال لمحاكمة أخلاق المشاركين والمشاركات بأي حال، بل إن إحدى المصوّرات، قَدمت إلى نقطة الالتقاء، يقلّها والدها بعربته - كان أحمد يضرب مثلاً على عفوية ما جرى! حين شرح أحمد، لمسؤول الهيئة، أن الفِعل لا يستدعي إصدار أي تصريح، فثمة تعميم صادر من رئاسة مجلس الوزراء، عام 2006، ممهور بتوقيع المليك، يرخص للتصوير في جميع الأماكن العامة باستثناء تلك المحظورة، بدّل المسؤول حيثية «الانكار»، محاججاً إياه أنهم حتماً صوروا في طريقهم «ذوات أرواح»، وحين أبطل أحمد دعواه، بأنهم، في هذه الحادثة بالذات، إنما صوّروا مجسمات جمالية، ومناظر طبيعية، ما كان بمسؤول الهيئة، الذي بدأ الضيق يدب في أوصاله، إلا أن ابتز أحمد، منبهاً إياه إلى أن المهنة المكتوبة في إقامته «طالب» وعليه لا يسمح له «نظاماً» بممارسة التصوير! ولكن، أحمد - صاحب البال الطويل جدا - لم ينهر، وشرح لفضيلة الشيخ أن نشاط التصوير أمرٌ متاح للمقيم، وللزائر، وللسائح حتى! .. غير أن جلسة»التوعية والتوجيه» الماراثونية انتهت بتوقيع أحمد على «تعهد» يمنع عليه «الاختلاط» مع الجنس الآخر مرّة أخرى!انتهت قصة أحمد، بكل ما فيها من كوميديا سوداء، غير أن المسكوت عنه في قصته يحرّض على الكثير. وعلينا أن نسأل، أولاً، بكل مرارة، ما جدوى كل تلك الإجراءات المتعسفة في مساعينا للأمر بالمعروف كجوهر وكغاية؟.. وأن نسأل، باستعجاب مثير، ضبابية الأنظمة وتداخل المسؤوليات، بل وانتهاك الحقوق بكل بساطة من قِبَل جِهات من المفترض أنها الأكثر حرصاً على تطبيق الأنظمة على وجهها السليم!وعلينا أن نسأل أنفسنا،بكل صدق وأمانة،كيف يمكن للتطوّع والاشتراك فيما يخدم صورة الوطن ويمكّن الشباب، وينمّي مواهبهم ويصقلها، بل ويقضي على أوقات فراغهم، أن يستحيل، بكل اختزال، انتهاكاً للفضيلة، ومسألة تُعاقب عليها الأنظمة، بل وتعدها في معيارها القيمي، «رذيلة»، وَجَبَ دحضها؟!.. جوهر القصة، أننا بتنا نعاني من أعراض فوبيا جسيمة إزاء أمور عدة: فوبيا وفزع من «الاختلاط»، فوبيا من الذاتيات، فوبيا من الإبداع، فوبيا من الآخر، فوبيا من «الجنس الآخر»، فوبيا من الاختلاف، فوبيا من الاجتماع، فوبيا من العفوية الاجتماعية - إلى حد أن «إنكارنا» للرذيلة، تخطى مناط تحقيق الغاية، إلى التشبّث بالوسيلة!في»معرض التعليم في بريطانيا 2009» المنقضي بكلية اليمامة بالرياض، تلطّخت سمعة البلد، وتضارب «الموقف» الحكومي، لأن ثلّة من خيرة رجالنا الغيورين تضاربت عندهم نصوص الإجراءات الصحيحة، وبطلت لديهم أصول اللياقة، لبرهة، فكانت كارثة حقيقية: أولاً، كارثة في حق، قضية الحقوق والحريات واحترام القوانين في هذه البلاد، وثانياً، كارثة، لسمعة الوطن في الخارج، بكل ما تحمله الكلمة من معنى لتشويه السمعة! أن يتم «هشّ» النساء العاملات في المعرض بكل هذه الصلافة إلى صالة الألعاب الرياضية، في انتظار «شحنهن» العاجل إلى مراكز إيوائهن، دون أدنى اعتبار للجهة التنفيذية التي أصدرت التصريح للمعرض، أو للجهة التي أصدرت تأشيرات الدخول لهن، بل ودون أدنى اعتبار للموقف الفقهي الأرحب والواضح والصحيح، فإن مثل تلك الإجراءات ، إنما تنسف، مثلاً، كل جهود الحوار والتقارب ومساعي إبراز الوجه الحضاري للبلد، التي استنفرت لها مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والأفراد من أبنائها وبناتها، طاقاتهم في حوار «بين مملكتين» الذي كان قد أطفأ حطبه للتو في العاصمة الرياض!إن بُعبع الاختلاط، يلغي مكاسب حضارية جمّة، ويرّوج لحالة من اللاثقة في المجتمع، بل إن مساعي محاربته بهذه الطريقة الارتجالية واللامنهجية والانتقائية، إنما تسرب لحالة من انعدام الأمن وإهدار الحقوق والعيش في قلق دائم، نتيجة عدم فهم «مزاج» شرطي الأخلاق، الذي قد يسمح هنا، ويهجم بضراوة هناك!منتدى اقتصادي يُلغَى بعد رسوخ مؤسسي وسمعة دولية مبرزة، لأجل «الاختلاط».. سباق راليات رياضي يسحب منه الاعتراف الرسمي ويسقط عن الروزنامة الدولية لأجل التصلّب في مشاركة النساء .. خيمة ثقافية تحرق لأجل فقرة «شاعرة» ، وفرص حضارية عدة تروغ من بين أيدينا كوننا ارتضينا أن نرضخ لفزّاعة «الاختلاط»!وهناك المزيد .. رجل أعمال في مكة يواجه حُكما قاسيا بالسجن أربعة أشهر والجلد، لأن مسرح منشأته الترفيهية قدّم عروضا مسرحية للأطفال، فحوكم بتسهيل «الاختلاط»! أستاذ جامعي سبق أن واجه ذات العقوبة، لأنه اجتمع بطالبته لداعٍ علمي نبيل - هكذا تزج «فوبيا الاختلاط» في لظاها، الزائر الأجنبي، والمستثمر، والبروفيسور الجامعّي المرموق - دون تفريق !فيما نزهد عن التحول على مدار المجتمعات المعرفية، وفيما نسد آذاننا عن نداءات التحوّل إلى مرتقى المجتمعات الواثقة، يجري ابتذال فريضة إسلامية ملّحة، واقعاً، ويتم انتهاك قضية الحقوق والأمن الاجتماعي، ونسف كل جهود تحسين سمعة البلاد. لو كان لي أن أقترح ، لقلت بأولوية وإلحاح، حسم خلاف «الاختلاط بين الجنسين» الفقهي، وللأبد... على الفقهاء، والباحثين، والعلماء، والمثقفين، وقيادات المجتمع المدني، الالتفاف في «حوار وطني» يحسم هذه القضية، يضع نصب عينيه، استحالة التأصيل الفقهي للتحريم، وضرورات المصلحة الراجحة في الإباحة. *[c1] صحيفة «الوطن» السعودية[/c]