كتاب مشترك
[c1]* عندما غامرت اللغة العربية في الغرب [/c]باريس / وكالات :يحمل كتاب "أرابيسك" الصادر حديثاً في باريس عن دار روبير لافون وداري دي تان للباحثين هنرييت فالتر وبسام بركـة عنواناً فرعياً هو "مغامرة اللغة العربية في بلاد الغرب" وهو يبدأ منذ الصفحة الأولى بمغامرةٍ، أو بالأحرى بحكايةٍ قديمة تذكرها التوراة كما يذكرها القرآن الكريم، وهي تروي ما جرى في اليمن السعيد عندما جاء طائر الهدهد وطرح أمام الملكة بلقيس رسالةً من النبي سليمان يدعوها فيها إلى الدخول في الدين الحنيف. ولا تهدف رواية هذه القصة إلاّ للوصول إلى سؤالٍ هو بأيّ لغةٍ كُتبت هذه الرسالة؟ أهي العربية الأولى أم لغة أخرى تفرعت منها العربية وغيرها من اللغات السامية؟هذه البداية تعبّر عن أهداف المؤلّفيْن من وضع هذا الكتاب وهو تعريف القارئ الأجنبي بمجمل الأحداث والتطوّرات الحضارية والثقافية واللغوية انطلاقاً من الأحداث والتطورات التي عرفتها اللغة العربية، منذ بدايتها الأولى من مكّة المكرّمة مع خروج الدعوة الإسلامية أيام النبي (صلى الله عليه وسلم) وحتّى اندماجها في حياة الأوروبيين اندماجاً لا تزال معظم اللغات الأوروبية تحمل آثاره حتّى اليوم. وذلك من خلال التبادل الذي جرى بين ضفتي البحر المتوسط عبر محطات زمنية كبيرة هي العصور الإسلامية المتعاقبة، وعبر بوابات أوروبا البحرية، أي الأندلس ومالطا وصقلية.ينقسم الكتاب إلى ثمانية فصول يبدأ أوّلها بأصول اللغة العربية ونشأتها بين القبائل وتطوّرها مع الشعر العربي ثمّ ينتقل الفصل الثاني إلى رسم صورةٍ متكاملةٍ تاريخياً ولغوياً لانتشار اللغة العربية في ظلّ انتشار الدين الإسلامي لدرجة أنّ اللغة العربية لغة القرآن الكريم المقدّسة أصبحت آنذاك وسيلة التبادل الإداري والتجاري والعلمي من الصين وحتى سفوح البيرينية. ونجد في هذا المجال كيف أن استعمال اللغة العربية تطوَّر وانتشر في ثلاث موجات عظيمة واكبت في الواقع تطور الفتوحات العربية وانتشار الدين الإسلامي في شمال أفريقيا وبلاد الأندلس.ويتابع المؤلفان في الفصول الأخرى تقديم معلوماتٍ دقيقةٍ عن اللغة العربية من حيث أصواتها ومخارج حروفها وتاريخ المعاجم التي اعتنت بها. ولا يقتصر الأمر على اللغة كوسيلة تعبيرٍ بل تعداه إلى الحروف ودور العربِ فيها وإلى الكتابة التي أصبحت مع تطوّر الجماليات العربية فنّاً رفيعاً قائماً بذاته. ويتبيّن في هذا المضمار كيف أن العرب تعلموا صناعة الورق وجلبوها من بلاد الصين. فأنشأوا أول مركز لها في بغداد في عهد الخليفة هارون الرشيد، ثم نقلوها عبر الأندلس لتنتشر في أرجاء أوروبا وتُسهم في ولادة عصر النهضة هناك. هذا بالإضافة إلى أن المهارات التي اكتسبها العرب في مجالات الرياضيات وعلوم الفلك وغيرها مكنتهم من تطوير علم الحساب وابتكار وسائل جديدة فيه، وكان من نتائج هذا التقدّم أن وضعوا طريقة جديدة في كتابة الأعداد والأرقام. وقد انتقلت ممارساتهم تلك الى العلوم الغربية في مضمونها كما في كتابة الأعداد والأرقام وتدوين رموزها. وهذا موضوع يفرد له المؤلفان فصلاً كاملاً.ومن فصول هذا الكتاب مسردان يقدّمان فكرةً واضحةً عن تداخل اللغتين العربية والفرنسية عبر التاريخ ففي المسرد الأوّل نطّلع على هذا الكمّ الكبير من الكلمات الفرنسية المستعملة حتّى يومنا هذا والتي يعود أصلها إلى اللغة العربية. فنكتشف أن "البرقوق" أصبح عند الفرنسيين "المشمش"، وأن أسماء مدنٍ عربية كثيرة، مثل بغداد، والموصل، وحلب، وفاس، والمغرب، قد دخلت في اللغة الفرنسية للدلالة على منتوجات هذه المدن وصناعاتها.ومن "رحلات الكلمات العربية" الكثيرة التي يرويها هذا الكتاب حكاية "البرتقال" أو "الليمون" الذي ينسكب تاريخ تجارته والتعامل به، من الصين وحتى فرنسا، في سيرورة الكلمات التي تدل عليه وفي تطوّر استعمالاتها في معظم اللغات التي احتكت بالعربية وبالتجار العرب.ولما كان التبادل والتفاعل بين العربية والفرنسية من الجهتين، يقدّم المسرد الثاني لائحةً بعددٍ كبيرٍ من الكلمات الفرنسية المستعملة في اللهجات العربية الحالية. فربطة العنق، مثلاً، جاءتنا من فرنسا وهي تُلفظ في لهجاتنا المتعددة : "كرافات" أو "كرافاتة" أو "غرافة" أو "كارافاتة". وإذا أردنا تصليح سيارتنا المعطّلة، فإننا نذهب إما عند "الميكانيسيان"، أو "الميكانيك" أو "الميكانيكي"، وفقاً للمدينة أو البلد الذي نوجد فيه. أما عادم السيارة فهو، حسب الظروف الجغرافية، "أشطمون" أو "أوشطومان" أو "أشكمون" أو "شكمة"، في حين أننا عندما نطلب من الجزار شريحة لحم العجل فإننا نأخذ "فيليه" أو "فيلي" أو "فيلتو" أو "فتيلة". وفي السهرة الرسمية نتبع قواعد " "الأتيكيت" أو "التيكيت" أو " التيكيتا" أو "الأتاكيت". إلى ما هنالك من المفردات التي تدل على عمق التفاعل الثقافي والحضاري بين فرنسا وعدد كبير من المدن العربية. وهي كثيرة.يقول المؤلفان في مقدمة الكتاب إن التواصل بين الأوروبيين والعرب لم ينقطع على مرّ عصور عديدة وإن هذا التواصل سلك طرقاً كثيرة ومتعددة. ولكن، على رغم ذلك، لا يزال يحيط بهذه اللغة في أذهان الغربيين شيء من الغموض، وهو غموض تختلط فيه التصورات الخيالية بالعواطف والأفكار المسبقة. لذلك، جاء هذا الكتاب ليُسهم في إزالة بعضٍ من جوانب هذا الغموض. وإذا كانت المكتبة الفرنسية تحفل بالأبحاث والمؤلفات والموسوعات التي تطمح إلى تحقيق مثل هذا الهدف، فإن ما يميز هذا الكتاب أمران : أولهما أنه يعتمد على قاعدة ثابتة ومحققة من المراجع الأكاديمية والتوثيق العلمي الدقيق، وثانيهما أنه يرفض تقديم مادته في الأسلوب المغلق والمقعّر الذي يسود معظم الدراسات العربية والإسلامية المنشورة باللغة الفرنسية.لذلك يمكننا القول إن المرجعية العلمية والمعالجة الجدية اللتين يمتاز بهما هذا الكتاب لا يمنعان من التمتع بقراءته وتقليب صفحاته. خصوصاً وأنه يتوجه - كما يؤكد المؤلفان - إلى القارئ الفرنسي العادي. ولإضفاء المزيد من المتعة والتسلية على المعلومات القيمة، نجد بين الصفحة والأخرى فقرات موضوعةً ضمن إطارٍ خاصّ بها، وهي إما تطرح على القارئ الأسئلة والأحاجيَ، أو تقدِّم معلومات مقتضبة ودقيقة عن الموضوع المعالج. يقول المؤلفان في مقدمة الكتاب : "إن الهدف من وضع تلك النصوص والأحاجي داخل إطارٍ خاص بها هو إعطاء القارئ لحظات من التسلية والراحة بعد أن يكون قد تلقى دفقاً غزيراً من المعلومات الهامة التي يكتشفها شيئاً فشيئاً." وحتى يسهل عليه التعرف على مضامين الكتاب ذُيِّل بفهارس كثيرة تعيد القارئ إلى أرقام الصفحات (مثل أسماء الأمكنة، وأسماء العلم، وأشكال الكلمات العربية، واللغات والشعوب المذكورة في الكتاب، إلخ.).والمؤلفان معروفان في مجال علوم اللغة. "هنرييت فالتر" باحثة فرنسية وضعت العديد من المؤلفات في مجال تبسيط تاريخ اللغات الأوروبية وتداخلها فيما بينها. في حين أن بسام بركة، وهو باحث لبناني يختصّ بعلوم اللغة واللسانيات المقارنة، ينشر أبحاثه باللغتين الفرنسية والعربية، وتدخل المؤلفات التي نشرها في مضمار "الأسلوبيات"، و "علم الأصوات"، و "تحليل النصوص الأدبية"، كما وضع معاجم وقواميس عدة من أهمها "لاروس فرنسي - عربي" و "قاموس اللسانيات".