لم يعد خافياً على أحد المحاولات الروسية لإيجاد موطئ قدم في العراق بعد أكثر من عامين على سقوط نظام الرئيس السابق صدام حسين ، وقد ساهم مقتل الدبلوماسيين الروس الأربعة في سرعة وتيرة تلك المحاولات خصوصا بعد تهديدات غير مألوفة صدرت من موسكو في أعقاب الإعلان عن مقتل الدبلوماسيين الأربعة الذين خطفوا في بغداد في الثالث من شهر يونيو الماضيوكانت جماعة شورى المجاهدين المرتبطة بتنظيم القاعدة في العراق قد قتلت موظفا بالسفارة الروسية في بغداد وخطفت أربعة دبلوماسيين آخرين بعد هجوم على سيارتهم في الثالث من شهر يونيو الماضي ، وأمهلت الجماعة فى بيان لها آنذاك الحكومة الروسية 48 ساعة للانسحاب من الشيشان وإطلاق سراح السجناء الشيشان وإلا ستعدمهم ، إلا أن روسيا لم تستجب لمطالبهم ، وأعدمت الجماعة بالفعل الدبلوماسيين الأربعة في السادس والعشرين من يونيو المنصرم .وسارع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فور تنفيذ خاطفى الدبلوماسيين الأربعة تهديداتهم بقتلهم ، إلى التحرك فى اتجاهين ، أولهما الاتجاه الدبلوماسي بتركيز الحديث على مسئولية الدولة المحتلة للعراق، أي الولايات المتحدة وفشلها فى ضمان أمن البعثات الدبلوماسية في العاصمة العراقية، وثانيهما هو الاتجاه الأمنى عبر إصدار بوتين أوامره إلى الأجهزة الأمنية الروسية بتصفية قتلة الدبلوماسيين الروس الأربعة ، وتخصيص مبلغ خمسة عشر مليون دولار لتنفيذ عملية التصفية.ويرى مراقبون أن موسكو كانت على علم بأن خاطفى الرهائن سينفذون تهديداتهم عندما رفضت إجراء أي حوار أو مساومة مع الخاطفين ، لأنه سبق وأن نفذ الخاطفون تهديداتهم وقتلوا مخطوفين آخرين من جنسيات مختلفة عربية وأجنبية ، وعزا المراقبون الموقف الروسى المتخاذل تجاه قضية الدبلوماسيين الأربعة إلى رغبة موسكو في العودة للعب دور فعال على المستوى الدولي وإعادة التوازن الدولي بحيث لا يبقى العالم خاضعاً لجبروت القوة الأحادية الأمريكية حتى وإن كان ذلك على حساب دماء رعاياها .ويرى بعض المراقبين أن إسراع موسكو إلى إحراج واشنطن بتحميلها مسئولية كل ما يجري في العراق وسعيها لإثبات هذه الفرضية بشكل عملي من خلال رصد مبلغ لقتل خاطفي دبلوماسييها يفوق ثلاثة أضعاف المبلغ الذي رصدته الإدارة الأمريكية لقاء رأس خليفة الزرقاوي، يؤكد أن موسكو لا تريد أن تبقى الساحة العراقية حكراً على المايسترو الأمريكي .وأضاف المراقبون أنه مما يساعد روسيا على تحقيق هدفها بالعودة للعب دور قوى في العراق أن هذا البلد تعبث به حاليا المخابرات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية والإيرانية ، وغيرها من مخابرات الدول المجاورة والبعيدة جغرافياً عنه على حد سواء ، وبالتالي فإنه من وجهة نظرها ليس من مصلحتها الابتعاد كثيرا عن الساحة العراقية ، كما أنه يصب في مصلحة روسيا أن العلاقات الروسية العراقية ، ومنذ فترة الاتحاد السوفيتي السابق ، كانت قوية ، بل كانت ثمة معاهدة صداقة بين الطرفين ، وأوجد هذا التاريخ الطويل الذي يمتد لأكثر من أربعة عقود العديد من أصدقاء روسيا ومن الحالمين بأن تعود روسيا للعب دور قوى في العراق ، بالإضافة إلى أن فضائح قوات الاحتلال الأمريكية المتتالية في العراق تسهم إلى حد كبير فى تزايد الرغبة العربية فى عودة روسيا بقوة للساحة الدولية من أجل إنهاء هذا الاحتلال .وأوضح المراقبون أنه رغم أن أهمية الشرق الأوسط قد تراجعت في أولويات السياسة الخارجية الروسية فى العامين التاليين لانهيار الاتحاد السوفيتي، نتيجة تصاعد حدة المشاكل الداخلية الاقتصادية والسياسية، والصراع بين روسيا والغرب ، بيد أن تجاهل الغرب لروسيا وقضية توسيع الناتو، وعدم تقديم الغرب للاستثمارات والمساعدات التي كانت تتوقعها روسيا، كل ذلك دفع في اتجاه إعادة هيكلة السياسة الخارجية الروسية، فاتجهت شرقا نحو الصين، وسعت لتنشيط دورها العالمي، بما في ذلك دورها في الشرق الأوسط .وشدد المراقبون على أن السياسة الروسية فى الشرق الأوسط تحكمها مجموعتان من المصالح، فهناك المصالح الاقتصادية، التى تتمثل فى جذب الاستثمارات والمساعدات، وتنشيط تجارة السلاح والصادرات الروسية من السلع والخدمات إلى دول المنطقة، وهناك المصالح الأمنية مثل منع نشوب حروب أمريكية جديدة ضد حلفائها المقربين فى المنطقة وخاصة سوريا وإيران ، ولذلك فإن توجه روسيا نحو الشرق الأوسط والعراق مجددا هو محاولة للبحث عن بدائل لرؤوس الأموال والمساعدات الغربية، ومحاولة لفتح أسواق جديدة تساعدها على تجاوز أزمتها الاقتصادية . ويمكن القول ، إن المصالح الاقتصادية لروسيا تضررت بقوة جراء حرب العراق ، وخاصة قطاعها النفطي، حيث اختفت شركات نفط روسية كاملة من الوجود بعد الغزو ، ولذلك فإن روسيا ستحاول ألا يخرج بوش منتصرا في العراق واستدراج الولايات المتحدة للوقوع فى مستنقع العراق لإضعاف هيمنتها على العالم بالتدريج .الجدير بالذكر ان العلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد السوفيتي والعراق اقيمت في 9 سبتمبر 1944 ، ولكنها توقفت في عام 1955 خلال حكم الملك فيصل الثاني ولم تُستأنف إلا في يوليو 1958 بعد الإطاحة بالنظام الملكي ، وفي الأول من يناير 1992 اعترف العراق بروسيا الاتحادية كوريث شرعي للاتحاد السوفيتي . وأدان الاتحاد السوفيتي في أغسطس 1990 ضم العراق للكويت وانضم إلى العقوبات الدولية ضد العراق واشترك في وضع قرارات مجلس الأمن الدولي لتسوية عواقب أزمة الخليج. وفي فترة تفاقم الوضع حول العراق بشدة في أواخر 2002 وأوائل 2003 ، بذلت روسيا مع ألمانيا والبلدان الأخرى مما يسمى بمعسكر السلام جهودا نشيطة لمنع حل النزاع الذي طال أمده بالقوة ، إلا أن واشنطن تحدت الشرعية الدولية وشنت الحرب على العراق دون تفويض دولى . وبعد الإطاحة بنظام صدام حسين فى مايو 2003 ، أصرت روسيا على حل القضية العراقية بشكل شامل على أن تقوم الأمم المتحدة بدور رئيس في ذلك وعلى استعادة سيادة العراق وسلامة أراضيه، وزار موسكو في يوليو 2004 وزير خارجية الحكومة العراقية المؤقتة هوشيار زيبارى حيث أجرى مباحثات مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف.، وفى ديسمبر 2004 قام إياد علاوي رئيس وزراء العراق المؤقت بزيارة عمل إلى موسكو واستقبله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الحكومة ميخائيل فرادكوف. وفى سبتمبر 2005 جرى في نيويورك لقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس العراقي جلال الطالباني ، وفي 13 نوفمبر 2005 قام سكرتير مجلس الأمن الروسي إيجور ايفانوف بزيارة عمل قصيرة الى بغداد حيث أجرى مباحثات مع رئيس الحكومة المؤقتة إبراهيم الجعفري ونائب الرئيس العراقي المؤقت غازي الياور. ، وفي 19 - 21 نوفمبر 2005 زار موسكو وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري ، وقيمت موسكو إيجابيا إجراء انتخابات الجمعية الوطنية الانتقالية في العراق في 30 يناير 2005 وكذلك إقرار مشروع دستور البلاد الدائم في الاستفتاء الذي جرى في 15 أكتوبر 2005 . كان العراق قبل الحرب أحد الشركاء التجاريين الاقتصاديين الرئيسيين للاتحاد السوفيتي ثم روسيا في الشرق الأوسط ، وبلغ التبادل التجاري بين البلدين في عام 1989 حوالى ملياري دولار ، وفى حقبة الحرب الباردة حافظ الاتحاد السوفيتى السابق والعراق على علاقات تعاون وثيقة فى الميادين السياسية والاقتصادية والعسكرية ، إذ كان العراق واحدا من أهم أسواق الاتحاد السوفيتى لمبيعات الأسلحة والمنتجات الصناعية . وقد تركت حرب الخليج الثانية والعقوبات التى فرضتها الأمم المتحدة ضد العراق آثارها على التعاون التجارى بين العراق وروسيا ، ولطالما أعربت روسيا عن أملها فى رفع العقوبات ضد العراق حتى يمكنها أن تستأنف وتطورعلى نحو كامل التجارة مع العراق ، إلا أن احتلال العراق فى مارس 2003 أعاق هذا الأمر ، وبدأت الشركات الروسية فى أغسطس 2003 بترميم وبناء المحطتين الكهروحراريتين في مدينتي اليوسفية والناصرية. وبسبب تدهور الوضع العسكري السياسي في العراق بشدة تم في أبريل 2004 اتخاذ قرار حول جلاء الخبراء الروس من العراق. وانضمت روسيا في دورة نادي باريس في 17 - 21 نوفمبر 2004 إلى القرار المتفق عليه حول إلغاء جزء كبير من الديون العراقية. ونص القرار على خفض الدين العراقي لروسيا البالغ 3 ر11 مليار دولار إلى 5 ر1 مليار مع تسديد المبلغ المتبقي خلال 34 سنة ، وفي 25 - 27 ديسمبر 2004 أوصلت وزارة الطوارئ الروسية الى بغداد مساعدة إنسانية ومجموعة كبيرة من الكتب التي تم جمعها بمبادرة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أجل مكتبات كليات جامعة بغداد ، وفي صيف عام 2005 استأنفت بعض الشركات الروسية عملها في العراق. ويوجد في العراق الآن حوالى 200 خبير روسي.
الحرب على الإرهاب تنعش الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو
أخبار متعلقة