قصة قصيرة
خرجت من بيتنا عصراً كعادتي متجهاً صوب المقهى القريب من حينا وفي نفسي أمل لقتل الضجر الذي شملني في تلك اللحظة، واهداني شعوراً باليأس من أشياء كثيرة.. لعلني في ساحة المقهى الفسيحة المشرفة على سوق وطرق متفرعة للمارين من جميع الأعمار والأحوال والسحنات لعلني ان أجد بعض التنفس والنسيان لبعض الغموم والهموم التي اتشح بها قلبي في تلك اللحظات كوشاح المرأة الأسود، الذي يغمرها من رأسها إلى أسفل قدميها.وصلت الى المقهى بعد بضع دقائق، وقبل ان اجلس على كرسيي المفضل المشرف على الطريق تماماً، جلت بنظراتي على جميع طاولات المقهى خشية وجود صاحبنا الثرثار الذي سبب لي عقدة نفسية عويصة نتيجة ثرثرته المتواصلة البغيضة في كل جوانب الحياة. ولما مشطت عيناي الموقع ولم أجده هناك، هنأت نفسي بجلسة مريحة أن شاء الله.. إلا أذا غمني بقدومه فجأة من هنا او هناك فهذا مالا استطيع التكهن به.مشكلة صاحبنا هذا انه يطرق مع الجالس أي موضوع كان سواءً كان مهماً وسخيفاً وسواء كان في السياسة او عن رواتب الموظفين وزياداتهم او عن الفن والرياضة.. الخ.والمشكلة الكبرى فيه هي انه هو الذي يختار موضوع النقاش وهو جميع أطراف النقاش وكلمته هي الفيصل.. أي انه من الذين لا يؤمنون بمبدأ الرأي والرأي الآخر.. وختام الأمر ان نقاشه لانهاية له أتدرون من الذي ينهي النقاش؟! أنا وغيري ممن يتم النقاش أمامهم.. وذلك بان نأخذ نفوسنا ونغادر المكان وهو لا يزال مستمراً في النقاش الحاد حينها فقط ينتهي النقاش، لتبدأ هذه المأساة من جديدة في اليوم الثاني.وبالرغم من ان هذا الطيب لم يسكن في حافتنا إلا منذ حوالي شهرين غير انه خلال هذه الفترة القصيرة تعرف على كل الناس في الحافة والحوافي المجاورة.أما بالنسبة لي .. وبما إني من النوع الذي يكره الثرثرة والثرثارين ويكره حتى النقاش بأي شكل من الأشكال، ومع أي مناقشين كانوا. وبما إني من هذه الشريحة من الناس وهم القلة النادرة طبعاً ، والذين يفضلون ان يرموا بكيمرات حواسهم هنا وهناك في جمال الطبيعة الساحرة وغير المنتهية لقد حاولت ردع هذا المجادل عن نقاشي مرات عديدة. بدأت بالتلميح والإشارة وتوغلت الى الصراحة والإعلان، ولكن صاحبنا مايزيد إلا تشجعاً على مضايقتي. مما يحسب هو ان قلوب الناس تهفو بكل شوق الى نقاشه الهام كما صور له خياله.فمرة كنت أزعم إني أشكو صداعاً شديداً بالرأس ومرةً أدعة يطرق مساحات غاباتيه من النقاش العشوائي دون ان أولية ذرة التفات ومرة ثالثة أصيح عليه وربماا شتمته وسببته بأرطال من الاهانات والتقريع ومرة رابعة أغادر المكان بينما يكون قد حمي نقاشه لي او ربما بدأ في التمهيد وبالرغم من كل وسائل الإيقاف هذه لم تفد في ردعه عني واحدة منها احترت في أمره ووجهت شكواي لبعض أصدقائي الذين مازادوني الا تنكيتا وسخرية من مواقفي ومشكلتي مع هذا الجار وفي الأخير لما أغلقت في وجهي السبل بخصوص هذه القضية ظهر أمامي حل واحد صعب ومخسر بعض الشيء وذلك بان احمل عصا الترحال وارحل لأقضي أوقات ترفيهي في مقهى آخر بعيد عن الحي وربما اخسر مواصلات يومية للذهاب إليه وكأنني اذهب وأعود الى مقر عملي الصباحي الذي يكلفني مواصلات الذهاب والإياب ورغم انه حل مكلف ومتعب إلا إني ومع هذه الظروف التي أمر بها فضلته على ان أبقى رهين نقاش السيد الثرثار.وما جعلني أغض النظر عن هذا الأمر المتعب والإجباري والمكلف إلا جاري الثاني المطوع، والذي كلما رأى صاحبنا الثرثار في ركن الحافة او في أي طريق يصادفه إلا ويطري عليه جرأته وكثرة ثقافته وسرعة بديهته.. الخ ثم يدخل معه في الموضوع الأساس ألا وهو أن ماينقصه هو تأدية الصلاة» .. فكنت عندما أراهما معاً أكاد اختنق من الضحك، واشعر حينها ان صاحبنا ربما.. بل بالتأكيد يعيش الان لحظات من ضيق النفس أكثر مما نعيشها نحن معه عند مايبدأ نقاشه معنا.. وعن نفسي، فقد كنت افرح كثيراً عندما أراهما كذلك وأقول في نفسي: يالله!.. فين هذا المطوع من زمان؟ لقد أرسل ربي لي الخلاص على يده.وبعد هذه المواقف كنت قد اتخذت من ذلك المطوع حلاً قوياً لسد موجات نقاش صاحبنا فكان كلما بدأ بالنقاش أمامي أنا والأصدقاء أخذت احدث احد الجالسين بان المطوع وعدني بأنه سيأتي الى هنا بعد قليل.. أو ربما حاولت أنا او احد الأصدقاء فتح باب مناقشة موضوع الصلاة، وما يترتب على تركها من عذاب عظيم في الآخرة أو غير ذلك من المواضيع التي عرفنا من خلالها نقطة ضعف ثرثارنا. فكنا غالباً ماندسها في النقاش دساً رغم ان النقاش بعيد عنها كل البعد. وكنا نضحك كثيراً وتتعالى ضحكاتنا عندما نشاهد ماترتب على فعلتنا تلك من سحنات الضيق على وجه صاحبنا او تصرفات غريبة عن طباعة السابقة كمثل مغادرته المكان بدلاً من مغادرتنا إياه نحن في السابق.لقد حمدنا في دواخلنا للمطوع ماهد انا من وسيلة إيقاف لسيل النقاشات « الهبلى» لجارنا الثرثار والذي أصبح في الآونة الأخيرة يتغيب كثيراً عن مجالسنا بحجة ان مشغول..ولكننا نضحك ونقول : ربما وجد لنفسه تربة أخرى خصبة من البشر في حي آخر يزرع بذور نقاشه الممل فيها بدون مضايقات من احد.