يحلو للمرء في أية مناسبة تمر في حياته أن يقف على اطلال ذاكرته " وهو وقوف لا يشبه وقوف الشاعر الطللي على ذكرى حبيبه رحلت أو ناقة سرحت ، أو درس اندثر .. وإنما هو وقوف لتذكر المواقف والأشخاص والأماكن والكينونة الشخصية التي كان يعيشها . وفي ظهيرة الثلاثاء الثاني والعشرين من مايو كنت في مكتبي كعادة أي موظف يستطلع الأمور ولكنه لايجد وسيلة لإشباع هذا الاستطلاع ، لأن مكان العمل حينما لا يتوافر فيه التلفاز الناقل للحدث مع مدينة عدن . هذه الظهيرة التي ارتبط مكانها ورائحتها بالمكتب الخلفي المغمور لموظف لا يشغل وظيفة ، خارج من ثلاث سنوات إجبارية في التجنيد فرضت عليه عقوبة بعد أحداث 1986م .. وبلاهات في الأحاديث وقضاء الوقت الممل مع زميلة العمل التي بقيت من إدارة أصبحت طللاً بعد أن كانت شعلة من النشاط هي ( دائرة التأليف والنشر والترجمة في دار الهمداني ) بعد أن رحل جل موظفيها وعلى رأسهم الشاعر الكبير سعدي يوسف الذي كان يشرق على نهج ومسار هذه الدائرة الوليدة وزملاء المهنة الكاتب القصصي والمسرحي عادل ناصر والشاعر ؟ ، توزعت بهم الحياة وأحداث 86 شمالاً وبقيت صامداً في أجواء التفاهة ألعق الفضاء الممل من يوم اللا عمل في مؤسسة انهت أحداث 86أجمل مافيها مشروع طباعة الكتاب الذي كغار وراء طباعته فانتح مئات من كتب دار الهمداني ومن إصدار مجلة للأطفال كنت مدير تحريرها ومن مجلة عامة ( المسار ) في ظهيرة ذلك اليوم الرتيب في حياتي الشخصية كنت أتنفس هواء حاراً على ما أعتقد ، واتدفأ بالمكيف الذي كان يلعلع داخل تلك الغرفة الإطلال في الجزء الخلفي من دار الهمداني ، وكانت السبب الوحيد للمجئ إلى مكان العمل . صحيح أن هذا اليوم المشهود سبقته أحداث جسام مثل التوقيع على اتفاقية 30 نوفمبر 1989م وماتلاه من اجتماعات للجان التوحيد حتى توقيع بيان تعز وهو بيان قيام الدولة ، تجعل المرء ينشد للمشهد القادم ويتحضر لملاقاته لكن الجو العام الذي تلا أحداث 1986م ، والجو الخاص الذي كنت أعايشه بعد كارثة إنسانية لم تندمل ، ورائحة الدم تزكم أنفي لأننى كنت من هؤلاء الناس الذين لا ينسون الإحداث التي حفرت في أعماقهم جرحاً غائراً لا يمكن أن يمحوه تبدلا في السلطة .. سواء في الأشخاص أو في المراكز أو حتى في السياسة العامة . كنت كمواطن واحداً ممن افتقد من أهله رجلاً قد لحس في هذه المحنة اللعينة ، وهذا الرجل ترك إرثاً عائلياً جنائزياً لم اخلص منه وكنت كموظف ولا أقول كمبدع .. خارجاً من سجن إجباري هو التجنيد الذي فرضه الصغار من الموظفين في هذه المؤسسة الذين ركبوا الموجة واعلنوا أن قيادة ( دار الهمداني ) وكوادره من ( الزمرة ) لأنهم ارتبطوا بشخص كان هو قائد هذه المؤسسة هو الزميل الراحل الشهيد ( أحمد سالم الحنكي) قائد وموجه المشروع الثقافي الذي تبنته ( دار الهمداني ) في طباعة الكتب وإصدار المجلات .. حتى أصبحت هذه الدار ، وكنت واحداً من صانعي هذا المشروع متنقلاً بين ؟ وكان عقاب هذه المؤسسة أن يغلق مشروعها وتدمر أحلام صانعيها ، وأن يعاقب كوادره الذين كانوا من المبدعين اليمنيين والعرب ، إما بالإقصاء أو الهروب إلى الشمال أو البقاء صامداً وتلقي الضربات – هذا ما انتهجته – خصوصاً وأن قد تعذر أي ارتباط سياسي أو قرابي بقائد هذه المؤسسة الذي كان محسوباً على ( الزمرة ) وانتهى به الحال شهيداً صامداً في أحداثها . وأيا كانت الحسابات وأيا أضحت التحليلات لهذه الحرب المدمرة التي استغرقت من مشاعري وزمني وتأثري بها دون النظر مع من كان الصواب في الفريقين المتقاتلين ، الا أنني حتى 22 مايو 1990م كنت مازلت لم أخرج من إسار الانهيارات الشخصية والتأثرات العائلية بالفقدان . مازلت – وهذه حالتي وليس بالضرورة أن يكون الآخرون معي – حبيس لحظة 13 يناير 1986م ، خصوصاً وأنني عشت ثلاث سنوات عجاف في التجنيد العسكري الإجباري الذي استغرق من لحظتي الإبداعية التي كنت أعيشها بزخم وعنفوان في دار الهمداني متنقلاً بين إصدار – مجلة ( نشوان ) أوكاتباً في عمود أو مادة ثقافية في ( المسار ) أو منشغلاً في إعداد وتهيئة الكتب المؤهلة للإصدار كل شهر ، أو مستفيداً من حوار مع الشاعر العراقي الكبير الذي جاء إلى عدن واشتغل في ( دار الهمداني) مستشاراً ثقافياً وكان وراء هذه الصناعة الثقافية العظيمة بعقلة ونصائحة ونقل تجربته ، او مندمجاً في حوار ثقافي بين ثلاثتنا العاملين في إدارة النشر عادل ناصر وأنا وعوض الشقاع وتشاركنا زميلة العمل أو أي آخر .. حوارات ثقافية وإبداعية خصبة انتجت عملاً مبدعاً لا يمكن لي كشخص كان واحداً من صانعيه أن ينسى بسهولة : كيف أن هذه الحرب دمرت هذا المشروع وأصحابه ومنهم أنا – إلى متاهات كنت ما بين انتهاء فترة خدمتي العسكرية في العام 1989م وحتى 22 مايو 1990م أشبه ببطل فيلم يوسف شاهين ( عودة الابن الضال ) الذي خرج من السجن وعاطلاً ، مغيباً عن اللحظة الحاضرة ، شخصية مدمرة فقدت حلمها الجميل ، بعد أن فرضت عليه البلادة – بطل الفيلم بالسجن _ وأنا بالعسكرية الصارمة البلهاء . كنت إلى حد كبير ذلك الـ ( علي ) على ما أذكر اسم بطل هذا الفيلم الذي خرج من السجن ( العسكرية ) ولم يجد حلمه الذي كان يصنعه بيديه (بطل الفيلم في صناعة الحلم زمن عبد الناصر ) وأنا في صناعة المشروع الثقافي الجميل الذي أجمل لحظاته فترة بداية الثمانينات التي كانت زاخرة بالتفتح والانفتاح والروح الثقافية والجدال الثقافي الذي تمرد على الجمود السياسي الملبد سماء الدولة والحزب والأدب والثقافة .جاء ( 22 مايو ) وأنا كـ ( علي ) رجل تائه , مجروح بفقدان الأحبة , مزكوم بآثار حرب 1986م عاطل عن العمل , غائب عن المشاركة في صنع اللحظة التي كان يصنعها الآخرون بعضهم بحماسة لأنه انتمى لعشيرة المنتصرين .وأنا كنت لا أنا مع الزمرة , ولكنني اكتويت بآثار تبعاتهم باحتسابي منهم ولا أنا مع الطغمة لأنني اكتويت من ردود أفعالهم في قطع الراتب ومضايقات العمل والبحث عن شبهة تقود إلى الإدانة وتصفية الحساب التي عادة ما يقوم به أنصاف المثقفين أو كتبة التقارير , ولم تفلح محاولتهم فانتهى به عقل مديريهم إلى النفي الإجباري إلى أتون الخدمة العسكرية .والجريمة كانت أنني كنت أعمل في المشروع الثقافي الذي انتهى أمره مع انتهاء الحرب واحتسابه على زمرة / أحمد سالم الحنكي المحسوب على الفريق المنهزم فاحتسبنا معه بحكم شراكة العمل وزمالة المهنة وانتمائنا لمؤسسة كان قائدها من الزمرة , ولم يفلح روح المشروع في الدفاع عن أبنائه أمام راخم التصنيف الثأري للناس .هذا الولد الضال الذي عاد من سجنه ( عسكرته ) كان يقف على أطلال السنوات الثلاث 82 – 1985م التي قضاها في صناعة مشروع ثقافي جميل ووطني وإبداعي , ومع صحبة معهد المبدعين الذين تجمعوا حول هذا المشروع وأنجزوا منه ما خرج للناس وما يجب أن يكتب في صفحات التاريخ الثقافي والإبداعي الوطني بأحرف من نور .كنت حتى ظهيرة الـ 22 مايو 1990م في يوم الثلاثاء في لفح الشمس خارجاً من مكتبي الفارغ أتلقف أخبار الحفل الذي أقيم في قاعة فلسطين , كنت حتى تلك اللحظة ذلك الـ ( علي ) الولد الضال الذي فقد لحظته بسبب ما عاناه في النفي الإجباري صامتاً .. مترقباً .. أحاول أن أدخل في لحظة جديدة عسى أن يكون اللاعبون عليها أناساً خرجوا من إسار التحكم فيها .لعل الأوراق تختلط , والكراسي يتبدل جالسيها , والزمن يكتب بأياد جديدة , وتعود لي الوظيفة .. ويعود معه المشروع الثقافي الذي أنهار في لحظة مجنونة فأفقدنا بانهياره ذلك الإدمان العاشق للانكباب على العمل فيه , فارتدت علينا بالخروج بنفسية محطمة , وانكفاء على النفس , وفراغ في الوقت وفي العمل – وهي حالات بالمناسبة تكررت من بعد – ورسم على الهواء لكلمات صمت طويل مؤثر ومجروح , ومتابعة لأخبار ناس فقدوا أو هاجروا فراراً أو الكفؤوا تأثراً من لا معقولية الحرب .كنت حتى ظهيرة 22 مايو ذلك الولد الضال ( علي ) !! وهي مناسبة لعرض صورة شخصية تذكرتها اليوم وحان الوقت لكي أعرضها على القارئ لا لكي استعرض موقفاً أو إدانة أشخاص أو إدانة مرحلة .. وإنما لكي أقول كلمتي الشخصية ما كنته في ظهيرة الثاني والعشرين من مايو .. اليوم الذي أعلن فيه ميلاد الوحدة .. ذلك الحلم الذي كنا نهيء أنفسنا لترحيل حلم تحقيقه لأبنائنا .. ولكن تحقق على حين غرة .. وأصبحنا اليوم من أبناء هذا الحلم المتحقق , نستدرك اللحظة التي كنا على أعتاب ميلاده منذهلين ومذهولين من تحققه المفاجئ .وهذه شذرات من مذكرات شخصية أردت أن أخرجها من داخلي لعلها تنفع في أخذ عبرة أو قراءة لحظة , أو الخروج من بعد قراءاتها بقول : مجرد ذكريات شخصية لا تغني ولا تسمن من جوع ! .ومع ذلك فإنني أعيد ما قلته عن كينونتي ظهيرة الثاني والعشرين من العام 1990م .. وللناس أيضاً كينونتهم في تلك اللحظة التي تختلف كلية عنها .ولكل إنسان ما يقول عن لحظته كيفما كان حينها , ليقول حقيقة هي في الأصل حقيقة تخصه هو وليس بالضرورة أن يكون الآخرون عاشوا جوهر هذه الحقيقة التي خرجت من أخباره مذكرات شخصية تروي حقائق شخصية وليس بالضرورة أن يكون لها معنى أبعد من مستواها الشخصي , إن كان لكل ظرف شخصي ضرورة عامة تدفعه إليه بقوة العيش فيها والخروج من نواتها .
أخبار متعلقة