نبض القلم
بالأمس البعيد كان الكرام الأماجد من أبناء الإسلام ينطلقون في جنبات الحياة وأرجاء الكون عاملين غانمين, ويجمعون الكثير الطيب من المال الحلال, فيعفون منه أنفسهم ثم يذكرون أنهم من الذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم, فيستجيبون لصرخة الملهوف, ويعطفون على البائس والمحروم, ويساندون المنكوب, ويبذلون من المكارم في الخطوب والنكبات ما يخفف عن المنكوبين مصائبهم, مؤمنين أن الرجال بالأخلاق لا بالسبائك والأوراق, ومدركين أن المنفقين لهم من الله حسن الخلف, وأن الأشحاء لهم منه سوء التلف.«وما أخلفتم من شيء فهو يخلفه, وهو خير الرازقين».فهذا عبدالرحمن بن عوف كان من فضلاء الصحابة واتقيائهم, وكان موفقاً في التجارة والكسب, حتى قال عن نفسه : «القد رأيتني ما أرفع حجراً إلا ظننت أني سأجد تحته ذهباً أو فضة». ولقد نظر إليه الرسول (صلى الله عليه وسلم) يوماً فقال له : «يا ابن عوف إنك من الأغنياء, ولن تدخل الجنة إلا زحفاً, فأقرض الله يطلق قدميك». فقال ابن عوف : «وما الذي أقرض يا رسول الله؟ قال : «تبدأ بما أمسيت به, أي بالمال الذي حصلت عليه بالأمس», فقال عبدالرحمن بن عوف : «أبكله يا رسول الله؟» قال : نعم, فخرج عبدالرحمن بن عوف لينفذ ذلك, فصار ينفق ماله على من يستحق ومن لم يستحق, فأرسل إليه الرسول بعد قليل, فقال له : إن جبريل قال : مر ابن عوف فليضف الضيف, وليطعم المسكين, وليعط السائل, فإنه إن فعل ذلك كان كتزكية ما هو فيه, وكأنه يقول له : انفق باعتدال في الوجوه المشروعة والضرورية, ولا تبذر تبذيراً.ولقد حدث بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن قدمت قافلة من الجمال لعبدالرحمن بن عوف لها ضجة, بما يوحي أنها مثقلة بالأحمال, فسألت عائشة عنها فقالوا : هذه عير عبدالرحمن بن عوف, قد قدمت, فقالت : أما إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : كأني بعبدالرحمن بن عوف على الصراط يميل به مرة ويستقيم أخرى, حتى يفلت, ولم يكد, وأن يبلغ الكلام ابن عوف فقال : هي وما تحمله صدقة, وكانت خمسمائة راحلة تحمل نفائس التجارة من الشام, تبرع بها ابن عوف جميعها, لإنقاذ الأمة من كارثة مجاعة حلت بها.لقد فعل ابن عوف ذلك لأنه أراد أن يتخفف من أثقال كنوزه ليستقيم سيره على الصراط يوم القيامة, فعل ذلك على الرغم من أنه من المبشرين بالجنة. فقد قال مرة لأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها : «يا أماه, أخشى أن تهلكني كثرة مالي, فإني أكثر قريش مالاً» فقالت : يا بني تصدق فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه, فأخذ رضي الله عنه ينفق ما استطاع. وكان فضل الله عليه عظيماً, فكلما توسع في الإنفاق وسع الله له في الرزق.ولقد أصابت المسلمين شدة على عهد عمر بن الخطاب, فكتب إلى واليه على مصر عمرو بن العاص يغلظ له القول في طلب المعونة منه قائلاً : بسم الله الرحمن الرحيم من عبدالله عمر, أمير المؤمنين إلى العاص بن العاص, سلام عليك, أما بعد, أفتراني هالكاً ومن قبلي وتعيش أنت من قبلك, فيا غوثاه, يا غوثاه.فأسرع عمرو بالنجدة وكتب يقول : بسم الله الرحمن الرحيم, لعبدالله عمر أمير المؤمنين, من عمرو بن العاص, سلام عليك, فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو, أما بعد, فقد أتاك العون, لأبعثن إليك بعير أولها عندك وآخرها عندي.وبعد, إنه على أثر كارثة السيول الجارفة التي أصابت إخوتنا في محافظتي حضرموت والمهرة, لا يجوز في شرعة إنسان عاقل فضلاً عن شرعة السماء, أن يمتلئ أشخاص معدودون حتى يموتوا من التخمة, في حين هناك إخوة لهم يموتون من الجوع, ومحرومون من المأوى والكنان والدفاء بعد أن جرفت السيول بيوتهم وممتلكاتهم وقضت على أملهم في الحياة, فلو أعطى المتخمون من أثرياء الوطن للمحرومين والمنكوبين في محافظتي حضرموت والمهرة ما زاد عن حاجة الاعتدال, لاستقامت الحال وطاب المال.والرسول يقول : (الناس بخير ما تعاونوا).[c1] خطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)[/c]