نبض القلم
في ظل تشابك الحياة وتعقيداتها ومتطلباتها التي تفوق الحصر، يبقى الإنسان حائراً وربما عاجزاً عن اتخاذ القرارات الصائبة، فهو لذلك بحاجة إلى النصيحة التي تدله على الطريق الصحيحة التي يسلكها أو تمنعه عن السير في الطريق الخطأ. فلو لم تكن النصيحة موجودة في حياتنا منذ الطفولة لضللنا الطريق، وما لم تكن النصيحة هي التي توجه الناس وتضبط سلوكهم وتحكمهم لانفرط عقدهم، وتشتت جمعهم، وتبددت طاقاتهم وضلوا منهج الرشاد والسداد، وسلكوا سبل الغواية والعماية، وأضحى بعضهم لبعض ظهيراً، وصار كل واحد منهم يبطن لصاحبه الكيد والدس، فيتركه يسير في طريق الضلالة والانحراف، ومن شأن هذا أن يقيم سداً منيعاً دون بناء المجتمع الصالح المتكامل المتكاتف والمتعاون على الخير والبر والتقوى.ولا يمكن تصور مجتمع سليم ومتماسك بغير النصيحة، ولا يمكن تصور حياة سليمة ذات إيجابية بدون النصيحة، فهي ضرورية في كل زمان ومكان لا غنى للإنسان عنها، فهي ضرورية للإنسان في كل أموره، سواءً كانت صغيرة أو كبيرة، وتكون ضرورتها ألزم في أمور الدين، لأن الدين ينظم شؤون الحياة.ولقد اقترنت الدعوة إلى الله تعالى، وإخلاص العبادة له، وتمكين دينه في الأرض بالنصيحة، كما ارتبطت بتبليغ الرسالات السماوية إلى الأمم والشعوب.وقد وردت النصيحة باللفظ في القرآن الكريم في عدة مواضع منها في قول نوح عليه السلام: “قال يا قوم ليس بي ضلالة، ولكني رسول من رب العالمين.. أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم” (الأعراف 62). وكذا في قول هود عليه السلام: “قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين.. أبلغكم رسالات ربي، وأنا لكم ناصح أمين” (الأعراف 68). ومنها قول صالح عليه السلام: “وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين” (الأعراف 79). وكذلك أهل الفساد في أي مجتمع، إنهم يضيقون ذرعاً بالناصحين لهم، ولا يحبونهم، وقد يعادونهم، لأن النصيحة طعمها مر، لما تتضمن من تكليف الإنسان بالإقلاع عن شهوة من الشهوات، أو ترك لذة من اللذات، وهذا صعب في العادة على النفس الأمارة بالسوء، إلا من رحم الله. كما أن بعض الناس لا تجدي معهم النصيحة لأنهم استحبوا الضلالة، وألفوا الفساد، وصار من غير الممكن هدايتهم، أو إرجاعهم إلى طريق الحق والصواب، ومن هؤلاء قوم شعيب عليه السلام الذين كانوا قد انغمسوا في الفساد، فلم تجد معهم النصيحة، فتولى عنهم النبي شعيب، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: “فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على قوم كافرين” (الأعراف 93).وينبغي الإشارة هنا إلى أنه لا فائدة من النصيحة إذا لم يكن لدى المنصوح استعداد لقبول النصيحة، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم عند حديثه عن قوم نوح الذين قال لهم نوح بعد أن عجز عن هدايتهم: “ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون” (34).وينبغي كذلك التحذير من بعض الناصحين المخادعين الذين لا يبتغون من نصيحتهم نفع المنصوح بل التغرير به، لأنهم يضمرون في نفوسهم نوايا سيئة تجاهه، ومثلنا في ذلك إخوة يوسف عليه السلام، الذين أحسوا في أبيهم الريبة والشك من نواياهم الخبيثة، “قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون” (يوسف 11) ولعل شعورهم بارتياب أبيهم فيهم هو الذي جعلهم يؤكدون أنهم له ناصحون.وما أخطر النصيحة عندما لا تكون من ناصح أمين، ومثلنا في ذلك نصيحة الشيطان لآدم وحواء عليهما السلام الذي أدعى أنه لهما من الناصحين وحرضهما على الأكل من الشجرة المحرمة، وما زال يخدعهما بالترغيب بالأكل من تلك الشجرة حتى أسقطهما وأوقعهما في الخطيئة. ومن هنا ينبغي للإنسان أن يحذر المخادعين بالنصائح الضالة والمضللة، ويتحاشى الأخذ بنصائح الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فهم قد يوهمونه أنهم ينصحونه بعمل ما فيه فلاحه ونجاحه، في حين أنهم يدفعونه إلى طريق الهلاك والدمار وخراب العمران، كما يفعل بعض أمراء الحرب، في جماعة الإرهاب، أو كما يفعل دعاة الفتنة في المجتمعات المضطربة.[c1]* خطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)[/c]