شخصيات خالدة
يُعتبرُ تُوينبي أحدثَ وأهمَّ مُؤرِّخ بحَثَ في مَسألة الحضارات بشكلٍ مُفصَّلٍ وشامِل، ولاسيَّما في موسوعته التاريخيَّة المُعنونَة «دراسة للتاريخ» التي تـتألَف من اثـني عشرَ مُجلَّدًا أنفق في تأليفها واحدًا وأربعين عامًا. وهو يَرى، خِلافًا لمُعظم المؤرِّخين الذين يعتبرون الأُمَم أو الدُول القوميَّة مَجالاً لدراسة التاريخ، أنَّ المُجتمعات (أو الحضارات) الأكثر اتِّساعًا زمانًا ومكانًا هي المجالات المعقولة للدراسة التاريخيَّة. وهو يُفرِّقُ بين المُجتمعات البِدائيَّة والحَضاريَّة؛ وهذه الأَخيرة أقلُّ عددًا من الأُولى، فهي تبلغُ واحدًا وعشرين مُجتمعًا اندثَرَ مُعظمُها، ولم يبقَ غيرُ سبع حضارات تمرُّ ستٌّ منها بدَور الانحلال، وهي: الحضارة الأُرثوذكسية المسيحية البيزنطية، والأُرثوذكسية الروسية، والإسلامية، والهندوكية، والصينية، والكورية-اليابانية؛ أمَّا السابعة، أي الحضارة الغربية، فلا يُعَرف مصيرُها حتَّى الآن.26وُلِدَ أرنولد تُوينبي في لندن، في عام 1889م، ودرَسَ اليونانية واللاتينية في أكسفورد،و كان أستاذاً للُّغة البيزنطية والإغريقية الحديثة وآدابهما وتاريخهما في جامعة لندن من 1919 حتى 1924م، ثم مديراً للدراسات في المعهد الملكي للشؤون العالمية منذ 1925م، ومن بعدُ أستاذ البحث العلمي في التاريخ العالمي في جامعة لندن حتى تقاعده سنة 1955م. فسر تُوينبي نشوءَ الحضارات الأُولى، أو كما يُسمِّيها الحضارات المُنقطعة، من خلال نظريَّته الشهيرة الخاصَّة بـالتحدِّي والاستجابة، التي يعترفُ بأنَّه استلهمَها من عِلم النَفس السلوكيّ، وعلى وَجه الخصوص من كارل يونغ . ويقول هذا العالم إنَّ الفَرد الذي يتعرَّضُ لصدمةٍ قد يفقدُ توازُنَه لفترةٍ ما، ثمَّ قد يستجيبُ لها بنوعَين من الاستجابة: الأُولى النكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسُّك به تعويضًا عن واقعه المُرّ، فيُصبح انطوائيًّا؛ والثانية، تقبُّل هذه الصدمة والاعتراف بها ثمَّ مُحاولة التغلُّب عليها، فيكون في هذه الحالة انبساطيًّا. فالحالة الأولى تُعتَبرُ استجابةً سلبيَّة، والثانية إيجابيَّة بالنسبة لعلم النفس. (لاحظْ أنَّ ذلك ينطبقُ على حالة العرب، فإنَّهم تعرَّضوا لصدمة الحضارة، فلجأوا إلى النكوص إلى الماضي دفاعًا عن النفس).كان ارنولد محبوبا عند العرب لمواقفه الصلبة والمنصفة من القضية الفلسطينية وإدانته حتى لحكومة بلده بريطانيا بسبب وعد بلفور (فهو يرى أن الحكومة البريطانية لا تملك إعطاء هذا الوعد)؛ ومن ثَمَّ فقد أوضح سوء تفسير الصهاينة للوطن القومي الذي لا يعني الوطن السياسي وإقامة الدولة الإسرائيلية.