خلدون حسن النقيب تثير موجة "الديمقراطية" التي تعم العالم الآن، كما أثارت الانتخابات الأميركية القذرة لسنتي 2000 ـ 2004 الكثير من التساؤلات حول حقيقة الممارسة الديمقراطية، ومن بين هذه التساؤلات تساؤل محوري، هو: هل نملك معياراً مقنناً للممارسة الديمقراطية كنظام في الحكم وكأسلوب في الحياة؟ هذا التساؤل لا يقع ضمن اهتمام الأكاديميين كونه يتعلق بالطريقة التي يصنفون فيها النظم فقط، وإنما يتصل بهموم المواطنين اليومية وتطلعاتهم ومطالبهم في الحياة المستقرة الكريمة أيضاً. فقد عكست الانتخابات الأميركية في معارجها الملتوية، درجة الخصوصية التي تتمتع بها التجربة الديمقراطية في هذا البلد. بحيث لا يستطيع أي بلد آخر، بما في ذلك أقرب زبائن الولايات المتحدة أن يقلدها. بل إن فريد زكريا ـ الصحافي والكاتب النابه ـ يعتقد أن بعض جوانب هذه الممارسة غير ديمقراطي بالمرة، كيف إذن نوفق بين طرفي هذه المفارقة: أي أن البلد الذي يبشر بالديمقراطية، لا يمارس الديمقراطية، كما يفهمها أغلب الدارسين لها؟ علينا أن نلاحظ أولاً، أن الممارسة الديمقراطية في الولايات المتحدة لم تكتمل أو تتبلور إلا بعد مائة وثمانين عاماً على انتصار الثورة الأميركية، أي بعد صدور تشريعات تلغي قوانين الفصل العنصري، والتي كرستها المحكمة العليا الأميركية إلى حوالي عام 1915. ونتذكر ثانياً أن جميع الحقوق الدستورية لم ترد أصلاً في نص الدستور الأميركي الذي عني في المقام الأول بتنظيم التجارة بين الولايات وبتحديد اختصاصاتها، وجاء منح هذه الحقوق بتعديلات بلغت خمسة وعشرين تعديلاً، استغرق إنجازها عقوداً عدة حل الزمن (التعديلات العشرة الأولى أطلق عليها: وثيقة الحقوق المدنية، وأقرت في سنة 1791). الإشكال الأساسي هو أن المشرع الأميركي يبدو أنه لم يثق باختيار الشعب للرئيس، فقد وضع ضوابط للتصويت الشعبي بأن اشترط على الفائز بأغلبية الأصوات الشعبية، أن يفوز بأغلبية أصوات نخبة مختارة من الناخبين يطلق عليها الكلية الانتخابية (أو المجمع الانتخابي في ترجمات أخرى). وهذه النخبة يتم اختيارها من الحزبين المهيمنين على الحياة السياسية بالإضافة إلى أعضاء الكونغرس عن كل ولاية حسب كثافتها العددية (التعديل الثاني عشر من الدستور الذي أقر في سنة 1804). ومن يقرأ كتاب اندرو غامبل المعنون "اسرق هذا الصوت: الانتخابات القذرة والتاريخ العفن للديمقراطية في أميركا"، يتفهم تخوف المشرعين من سهولة تزوير إرادة الناخبين الأميركيين، وهو ما يمارسه جميع السياسيين المحترفين والشركات "الكوربوريشن" الكبيرة وأصحاب المصالح الخاصة. ويضرب غامبل أمثلة على "أخلاقيات" الانتخابات القذرة في روح المغامرات الرأسمالية فيما يسمى بالعوم أو الغرق "sink or swim" التي تجيز كل شيء للنجاح في الانتخابات، ويستنتج الاستنتاج المنطقي بألا انتخابات قذرة ما لم يكن النظام السياسي كله قذراً. (ص16). أما النظم البرلمانية الأوروبية فلا تقل غرابة وخصوصية عن الممارسات الأميركية، فلم يكن لغالبية شعوب أوروبا تمثيل في برلماناتها إلا في القرن الماضي (العشرين)، بضغط من الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية. وتميزت بريطانيا وفرنسا عن بقية الشعوب الأوروبية بالاندماج التدريجي لارستقراطيتيهما (من ملاك الأراضي والنبلاء) بالطبقات الوسطى العليا (بدخولهما في ميادين التجارة والصناعة والمال. وبتوزيع الألقاب، وأحياناً ببيعها)، بحيث انحسر تدريجياً التمثيل الطبقي للأحزاب الرئيسية، إلى درجة يصعب الآن التمييز بين اتباع تاتشر المحافظين الجدد عن اتباع بلير من حزب العمال الجديد، أو الليبراليين الجدد. وكذلك ألمانيا، فإن لها خصوصية في نظامها الفيدرالي، الذي يختلف كثيراً عن نظامي بريطانيا وفرنسا المركزيين، والذي لا يمكن تطبيقه في أي مكان آخر في العالم، على ما يحتويه من بذرة التفكك والانقسام، أما الذي يحمي ألمانيا من هذا الخطر فهو تاريخها التوحيدي الحديث المرتبط ارتباطاً وثيقاً بنزعتها القديمة القومية ـ القبلية الاستثنائية المتجسدة في الدولة الاتحادية. وقد مرر الرايخشتاج (مجلس النواب) الألماني هذا الشهر (مارس 2006) قوانين تزيد من قوة الحكومة الاتحادية على حساب الولايات. وهناك خصوصية أخرى في أوروبا، وهي التدخل الواسع والمستمر للولايات المتحدة في الانتخابات البرلمانية الأوروبية طوال الحرب الباردة، بقصد منع الشيوعيين من الوصول إلى الحكم، أو حتى المشاركة في الحكم، وقد وضعت برامج مختلفة وضوابط أمنية من خلال حلف الناتو ومن خارجه، مثل برنامج غلاديو الذي فضحه جنرال إيطالي. والذي يمكّن نخبة عسكرية ـ أمنية من التدخل في نتائج الانتخابات، ومن اللجوء إلى إجراءات غير قانونية للهيمنة على الحكم، بالإضافة إلى برامج لتمويل الجماعات والأحزاب المحافظة واليمينية لضمان تفوقها في الانتخابات. وقد افتضح مؤخراً حجم اختراق الاستخبارات الأميركية للأجهزة الأمنية الأوروبية، وحجم التعاون الأمني، وفي كثير من الأحيان غير القانوني بين الأجهزة الأمنية الأوروبية ـ جميعها ـ والأميركية، تحت ستار الحرب على الإرهاب، بعلم الحكومات الأوروبية أحياناً. ومن دون علمها في أحيان أخرى، ومن الأمثلة على ذلك السجون السرية ومراكز تعذيب السجناء، وحوادث خطف المشتبه بهم (على الطريقة الإسرائيلية) التي تديرها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. عندما نتحدث عن الديمقراطية على المستوى النظري، فإننا لن نجد صعوبة في تحديد عدد من المبادئ والمثل العليا التي تميز نظام الحكم الديمقراطي. ولكن عندما نتحدث عن الممارسات "الديمقراطية" على مستوى الواقع، فإننا سنواجه بعدد متنوع من الممارسات ذات الخصوصية القومية والتاريخية لا تؤهلها كي تكون مثالاً يحتذى. ومن المنطقي أن يكون في هذه الحالة باب الاجتهاد مفتوحاً أمام الأقوام والمجتمعات الأخرى في التوصل إلى صيغة متوازنة يمكن تطبيقها عملياً وعالمياً، تنقذ هذه الأقوام من الاستبداد. الإشكال هو أن المجتمعات الغربية تحتكر في الوقت الحاضر حق تقرير أو خلع صفة الديمقراطية على دول العالم، بحكم هيمنتها على مقدرات العالم، وعلى مفاتيح المنظمات الدولية. وما أن تنحسر هذه الهيمنة، بدخول دول آسيا وأميركا اللاتينية المؤثرة حلبة السباق الدولي الاقتصادي والثقافي، سرعان ما يضعف هذا الاحتكار. وهناك في الوقت الحاضر بصيص من الأمل في أن تتحول القوى المناهضة للعولمة الرأسمالية إلى أممية ديمقراطية حقيقية، وحتى ذلك الحين سوف نعاني من الاعتباطية في التقييم، ومن اختلال المقاييس، ومن الازدواجية في القيم في تقرير من هو ديمقراطي ومن هو غير ديمقراطي. * كاتب كويتي
|
مقالات
هل الغرب ديمقراطي فعلاً؟
أخبار متعلقة