الولاء والبراء في الاسلام
مامن شك في ان الخصومة والموالاة لا تتعاملان مع أشخاص بل مع صفات متغيرة تقبل الزيادة والنقص لدى البشر جميعا فهناك حالات مختلفة تتطلب أحكاما مختلفة على النحو الأتي: [c1]*[/c] هناك مشرك كافر بالله تعالى ولكنه مسالم مأمون الجانب. هذا يجب التعامل معه بالبر والإحسان ، طبقا لما جاء به فى الأيتين ( 8 ، 9 ) من سورة الممتحنة.[c1]*[/c] وهناك مشرك كافر فى عقيدته . ولكنه فى سلوكه يقتصر على الإستهزاء بآيات الله تعالى دون الإعتداء الجسدى على المؤمنين. هنا تأتى الخصومة معه فى حدود الإعتداء الذى يقوم به، ويكون التشريع هنا بنهى المؤمنين عن الجلوس معه حين يستهزىء بالله تعالى وآياته ، فإذا تحدث فى موضوع آخر فلا بأس بالجلوس معه . أى ليس التشريع بكراهيته كشخص وليس بإجتنابه تماما وليس بمنعه عن الحديث ومصادرة حريته فى الإيمان والكفر ، ولكن فقط بالإبتعاد عنه حين يستهزىء بالله تعالى ((70 / 42 ) ( 43/84 ) ، ( 6/68 ) ، (4 ،140 )) . [c1]*[/c] وهناك مشرك كافر فى عقيدته ومجرم قاتل يسفك دماء المسلمين المؤمنين ويطردهم من ديارهم ويطاردهم فى الأماكن الأخرى التى لجأوا إليها . هذا الصنف الذى جاوز الحدود يجب المنع من إبداء أى مودة له لأنه أعلن الحرب على الله تعالى ، فإذا وصل الإجرام إلى القتل والقتال واخراج المسلمين من ديارهم والإستمرار فى هذا البغى فلابد من قطع كل صلات المودة .( 58 /22 ) ولقد نزلت سورة الممتحنة فى أوائل استقرار المسلمين المهاجرين فى المدينة ، وقبل بدء هجوم مشركى قريش عليهم ؛نزلت تهيىء المؤمنين لما سيحدث ، وتنهاهم عن موالاة المشركين لأنهم - حتى هذه اللحظة - كفروا بالله تعالى واخرجوا النبى والمؤمنين من ديارهم ، وتخبرهم أن عداء المشركين لهم سيظهر حين يبدأ المشركون فى القتال . وهذا ما حدث فعلا، وتحمل المسلمون الأوائل هجوم القرشيين عليهم فى المدينة ، والمسلمون مستسلمون لا يدافعون عن أنفسهم ، الى أن نزل لهم الاذن بالقتال ، وكان من حيثياته أن أولئك المشركين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وأموالهم ثم قاتلوهم معتدين . ( 22 / 39 : 40 ).وقد استمر هذا الاعتداء ودارت حملات عسكرية بين المشركين والمؤمنين وتكرر نفس النهى عن موالاة المشركين العرب المعتدين ، والنهى عن مودتهم طالما يحاربون الله ورسوله حتى وإن كانوا من الآباء والأبناء والأقارب والأهل والعشيرة ( 58 / 22 ). واستمر هذا النهى إلى أواخر ما نزل من القرآن فى سورة التوبة ( 9 / 23 : 24 ). وحين تحالف كبار المنافقين مع زعماء اليهود والنصارى من قبائل العرب فى الجزيرة العربية نزلت آيتان فى النهى عن موالاة أولئك اليهود والنصارى وتعيب على المنافقين ذلك التحالف السرى بينهم وبين اولئك المعتدين ( 5/ 51 : 52 ) .[c1]*[/c] وهناك مسلم بعقيدته ولكنه يعصى ويقترف الإجرام والعصيان . وهذا الصنف موجود فى عصرنا وقبل عصرنا ، وقد كان موجودا فى عصر النبى محمد عليه السلام، وقد أمره الله تعالى بأن يتبرأ ليس من أولئك العصاة وإنما من أفعالهم الإجرامية فقط ، يقول الله تعالى ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ، فإن عصوك فقل إنى برىء مما تعملون ) ( 26 / 215 : 216 ) لم يقل فإن عصوك فاضربهم ، ولم يقل فإن عصوك فتبرأ منهم وإنما أمره تعالى أن يتبرأ من أفعالهم الإجرامية فقط وليس له أن يتبرأ من أشخاصهم.5ـ ولأنها صفات بشرية فهى صفات متغيرة تزيد وتنقص حسب رغبة الإنسان فى إصلاح نفسه أو إستسلامه لغرائزه وأطماعه .إن الله تعالى قد خلق النفس البشرية وألهمها الفجور والتقوى وجعل الإنسان مسئولا عن اختياره الفجور أو التقوى، واختياره الفجور معناه الهبوط بأفعاله إلى الجرائم ، كما أن إختياره التقوى يعنى الفوز والسمو الخلقى ( 91 / 7 : 10 ) والتقوى خشية الله تعالى فى العقيدة والسلوك، وخشيته تعالى فى العقيدة بمعنى أن لا تعبد سواه وخشيته فى السلوك بمعنى طاعته فى عمل الصالحات والإبتعاد عن الجرائم والآثام .ولأن الإنسان ليس معصوما من الخطأ ولأن نفسه قد ألهمت الفجور والتقوى فإن إيمانه يزيد وينقص وأعماله تتراوح بين الطاعة والمعصية وبين الوقوع فى الجريمة والتوبة منها أو الاصرار عليها والتفاخر بها. وهذا التدرج والتغيرينعكس على موضوع الموالاة وقد رأينا تدرج موقف المشركين من مجرد الشرك العقيدى دون الشرك السلوكى ثم تدرج الإعتداء من مجرد الإستهزاء بالله تعالى وآياته إلى إعتداء يصل إلى القتل والقتال ،ومن الطبيعى أن يتدرج الولاء والتبرؤ تبعا لذلك .وقد كان للظروف الخاصة للعرب وثقافتهم القبلية ( نسبة للقبيلة )أثره فى موضوع الموالاة . وقد سبق القول بأن إنتماء العربى لقبيلته ونسبه وأهله كان أوثق ما يكون فى غياب الدولة والوطن بالمعنى المألوف حيث حلت القبيلة محل الوطن والقومية ، ومن هنا كان التحلل من هذا الإنتماء القبلى لصالح الإنتماء للدين صعبا على المؤمنين الأوائل وكان الأمر بإجتناب المشركين والإبتعاد عنهم فى مكة عسيرا على النبى وأصحابة المؤمنين، ولذلك كان يتكرر الأمر دليلا على أن الأمر الأول لم يتم تنفيذه فاحتاج الأمر لتكراره .[c1]ونعطى أمثله :[/c] [c1]*[/c] فى البداية كان المشركون يجتمعون للسخرية من القرآن فى حضور النبى محمد عليه السلام فنزلت عليه آية تامره ان يبتعد عن المشركين حين يخوضون فى آيات الله متلاعبين مستهزئين. لم ينفذ النبى محمد الأمر فنزلت نفس الآية فى سورة أخرى بنفس الكلمات ( 70 / 42 ) ( 43 / 83 ).ومع نزول الأيتين فى فترتين متلاحقتين إلا أن النبى محمدا لم ينفذ الأمر فظل يحضر مجالس المشركين وهم يتلاعبون ويسخرون من القرآن الكريم ، فنزل تحذير شديد يقول له أنه إذا رآهم يخوضون فى آيات الله ويستهزئون بها فلابد أن يعرض عن الذين يقومون بذلك ولا يجالسهم حتى يخوضوا فى حديث غيره ، وأنه إذا أنساه الشيطان هذا الأمر الإلهى وتذكر فعليه ألا يجالس هؤلاء القوم الظالمين ( 6 / 68 ).وهاجر النبى محمد والمؤمنون الى المدينة، ونشأ تخالف بين المنافقين والمعتدين اليهود والنصارى المحيطين بالمدينة ضد المسلمين. والمنافقون داخل المدينة كانوا يعقدون مجالس علنية للاستهزاء بالله تعالى والقرآن فتوعدهم الله تعالى بالعذاب ( 9 / 57 : 58 ). وفى بعض مظاهر استهزائهم بالاسلام كانوا يتحينون أوقات الأذان للصلاة لدى المسلمين ليتندروا بالأذان ، وكان لهم أصدقاء من المسلمين يشهدونهم يفعلون ذلك ويوالونهم عليه يالسكوت دون الاعتراض أو الاجتناب ، لذا نزلت الآيات تمنع المؤمنين من حضور تلك المجالس وموالاة أصحابها ضد الاسلام .( 5 / 57 : 58 ).ومع ذلك فقد استمر بعض المنافقين فى حضور تلك المجالس غير آبهين بأوامر الموالاة والتبرؤ ، فنزلت فيهم آيات شديدة اللهجة تقول : (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ) ثم يأتى السبب (الذين يتخذون الكافرين أولياء دون المؤمنين ) ثم يأتى التحذير صريحا وواضحا يذكر المؤمنين بما نزل من آيات سابقة تحذرهم من مجالس الإستهزاء وموالاة أصحابها ( وقد نزّل عليكم فى الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره . إنكم إذا مثلهم. إن الله جامع المنافقين والكافرين فى جهنم جميعا) ثم بعد عدة آيات يكرر تعالى نفس النهى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) ثم يجعل المنافقين فى الدرك الأسفل من النار إلا إذا تابوا وأصلحوا وأخلصوا دينهم لله تعالى ( 4 / 138 : 146 ) .أى إن المنافقين إذا تابوا أصبحوا من المؤمنين؛ أى أنها موالاة لصفات الإيمان والعمل الصالح وبراءة وابتعاد عن الكفر بمعناه العقيدى ومعناه السلوكى أى ابتعاد عن الظلم لله تعالى والناس ، والإنسان الذى يقع فى الظلم يجب إجتنابه طالما يقع فى الظلم ويصمم عليه ، فإذا تاب عن الظلم فلا مجال لعدائه واجتنابه . وفى كل الأحوال فليس للدولة المسلمة أن تعاقبهم أو أن تصادر حريتهم . لأن حريتهم فى العقيدة وفى التعبير عنها مكفولة. وعليهم تحمل مسئولية ما يفعلون يوم القيامة. ولذلك كانت تنزل الآيات القرآنية تحذرهم من عذاب يوم القيامة ، ولا تطلب من النبى والمؤمنين إلا مجرد الابتعاد عنهم واجتنابهم حين يمارسون حريتهم فى الاستهزاء بالله تعالى ورسوله وكتابه. [c1]الموالاة أساس فى جوهر الاسلام ومعناه السلوكى[/c]أخلاقيات الإسلام تقوم على الإحسان فى القول والعمل والعدل فى التعامل مع الناس جميعاً. أما مع المخالفين فى العقيدة فلا بد من الصبر على الإيذاء والعفو والغفران إذا كانوا ظالمين بالقول واللسان، ولا بد من البر بهم والاحسان اليهم إذا لم يقاتلوا المسلمين ظلماً وعدواناً ولم يخرجوا المسلمين من ديارهم. وعليه فإن هذا الإحسان والصبر والغفران فى التعامل مع المخالف فى العقيدة يؤكد على أن الموالاة فى تشريع الإسلام هى فى الحقيقة موالاة للسلام والأمن، خصوصاً وأن معنى الإسلام هو السلام فى التعامل مع الناس، وأن معنى الإيمان هو الأمن والأمان فى التعامل مع الناس، وأن معنى المسلم هو الذى يسلم الناس جميعاً من لسانه ويده، وأن معنى المؤمن هو الذى يطمئن إليه الناس أو هو المأمون الجانب. وعليه فإنه فى إطار الوطن الواحد والدولة الواحدة حيث يجب أن يعم السلام بين الطوائف والجماعات فإن الانتماء الذى يجمع أولئك الناس هو العيش فى سلام، خصوصاً فى إطار حرية العقيدة ومسئولية كل إنسان على ما يختاره من مذهب أو دين، وإرجاع الحكم لله تعالى يوم القيامة أو يوم الدين، والموالاة هى بين أولئك المسالمين جميعاً ضد المعتدين الظالمين أو الإرهابيين بتعبير عصرنا.وهنا يرتبط تشريع الموالاة بالإسلام الظاهرى أو الإسلام فى التعامل بين الناس على اختلاف عقائدهم فكل إنسان مسالم هو مسلم مهما كانت عقيدته بوذياً أو قبطياً أو سنياً أو شيعياً أو ملحداً.. المهم أنه مسالم لا يعتدى على أحد ولا يجبر أحداً على اعتناق عقيدته، ومرجعنا جميعاً إلى الله تعالى يوم القيامة ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون. [c1]الموالاة أساس التحرك الايجابى في المجتمع المسلم[/c] قلنا أن الإسلام فى التعامل الظاهرى هو السلام، وفى التعامل العقيدى القلبى مع الله هو الطاعة والانقياد لله تعالى. ومن السهل الحكم على أى مجتمع يعيش أهله فى سلام بأنه مجتمع مسلم، وهنا يمكن تطبيق كل قواعد الإسلام وشرائعه على أساس القسط والعدل بين الجميع والإحسان والشورى، مهما اختلفت العقائد والمذاهب. أما من حيث الإسلام بمعناه العقيدى الباطنى فذلك ليس منوطا بالدولة الاسلامية ، بل مرجعه لله تعالى يوم القيامة، ولذلك نزل تشريع الله تعالى بتهذيب الناس واقامة العدل وحفظ حقوق الأفراد او حقوق الانسان وتأجيل الحكم فى العقائد لله تعالى يوم القيامة.إن الله تعالى وحده هو عالم الغيب وهووحده الأعلم بما تخفيه الصدور وهووحده الذى يملك الحديث عن عقائد الناس ومصيرهم يوم القيامة. وليس لأحد من البشر أن يأخذ لنفسه هذه الحق الالهى ، وإلا كان مدعيا للالوهية ، حيث لا اله مع الله ولا اله إلا الله . الله تعالى قد قسم كل البشر إلى ثلاثة أصناف، حسب الأعمال والنيات، وذلك مالا يعلمه ولا يحكم عليه إلا الله تعالى.طبقا لما جاء فى القرآن الكريم فإن البشر جميعا سيكونون يوم القيامة ثلاث درجات حسب ايمان كل فرد وعمله : السابقون فى الايمان والعمل الصالح ، وأصحاب اليمين ممن توسط فى ايمانه وعمله الصالح وتاب بعد معصية توبة حقيقية، وهذان الصنفان معا فى الجنة ، ثم الخاسرون أصحاب الشمال ، وهم أصحاب النار ( 56 / 7 : ـ ). هذا ما سينطبق يوم القيامة على أهل الكتاب والمؤمنين بالقرآن. أهل الكتاب سيكونون يوم القيامة ثلاث درجات، أعلاهم المؤمنون السابقون، ثم المقتصدون المتوسطون، ثم فى النهاية الأكثرية الفاسقة. (5 / 66) (3 /110، 113: 115).وهو نفس التوصيف للمؤمنين بالقرآن: سابقون ، مقتصدون معتدلون ، وفاسقون( فاطر 32).بل هو نفس التقسيم لما يعرف تراثيا بالصحابة الذين عاشوا عصر النبى محمد عليه السلام وقابلوه وتعاملوا معه. : منهم السابقون ومنهم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، ومنهم المنافقون الصرحاء والذين هم فى الدرك الأسفل من النار ومنهم من مرد النفاق وخدع النبى محمدا بتقواه وإخلاصه وهو أشد الناس حقدا على الاسلام ( 9 /97 ـ ) ( 4 / 136 ـ ) ولأن الله تعالى رب العالمين ورب الجميع، ولأن يوم القيامة (يوم الدينوية، يوم الدين) هو أيضاً للجميع فهى ثلاث درجات متاحة أمام الجميع حسب الإيمان والعمل وجوداً أو عدماً. وهم أحرار فى الاختيار، وكلهم إذا شاء وصل بإيمانه الحق وبعمله الصالح إلى الدرجة العليا ليسبق ويكون مقرباً من الله، وكل منهم إذا أراد وصل بكفره وظلمه إلى حضيض جهنم، يسرى ذلك على كل زمان ومكان، لأن الله تعالى رب كل زمان وكل إنسان وكل مخلوق فى كل مكان وزمان، ويسرى أيضاً على كل فرد فى مجتمع. ولهذا فإن المجتمع المسلم هو الذى يعيش أفراده فى سلام ووئام مهما اختلفت عقائدهم وأديانهم الأرضية. المطلوب منهم جميعاً أن يتنافسوا فى الاعمال الخيرية ليصلوا إلى أعلى الدرجات، مهما اختلفت مذاهبهم وشرائعهم السماوية. ومن هنا نفهم قوله تعالى عن المسلمين وأهل الكتاب لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَـَكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىَ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (5 / 48) أى أن مشيئة الله تعالى اقتضت أن يكون لكل فريق منهاجاً ليختبر كل فريق فيما أنزله عليه من كتاب، والمطلوب هو التسابق فى الخير وليس التعصب، ثم فى النهاية مرجعنا إلى الله تعالى يوم القيامة ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون من عقائد. وما الذى يعنيه التسابق فى الخير بين أهل الكتاب والمسلمين وهم يعيشون فى مجتمع آمن وفى سلام ووئام؟ إن ذلك يعنى التسابق لخير المجتمع ورفاهيته ورعاية المحتاجين فى أبنائه، ويعنى أن يتسابق المسلمون فى إقامة كنائس للمسيحيين، ويتسابق المسيحيون فى بناء مساجد للمسلمين.التسابق فى الخير بين أهل الكتاب والمسلمين يؤكده تعاون على البر والتقوى وتعاون ضد الاثم والعدوان أمر به الله تعالى. ( 5 / 2 ) هذا التعاون على الخير ضد الشر هو التطبيق العملى للموالاة التى هى موقف للدفاع عن الخير، والتبرؤ الذى هو موقف لمواجهة الشر. هذا التعاون بدوره يؤكده الايجابية الاسلامية فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والتى تجعل المجتمع كله متحركا ينصح بعضه بعضا بالتمسك بالمعروف أى المتعارف عليه على أنه الخير والمثل العليا والابتعاد عن المنكر أى الذى ينكره الناس من الشر والبغى.هذه الموالاة والانتماء للمثل العليا تحتاج الى عقد وميثاق والتزام ، حتى يمكن أن تتجمع قوى الخير فى مواجهة قوى البغى والاعتداء التى يمثلها الكفر ويقوم بها المعتدون أى ( الذين كفروا ) . وكما أن الذين كفروا يتحالفون معا فى الاعتداء والبغى فلا بد للذين آمنوا أن يتحالفوا ضد هذا البغى ، حتى تقام للعدل والحرية والتسامح أوطان فى هذا العالم .( 8 / 37 ) ولذا جاءت سورة الممتحنة باشارة الى البيعة؛ بيعة النساء للنبى محمد عليه السلام.[c1]البيعة أو العهد والميثاق[/c] سبق الإسلام فى تعريف الدولة بأنها عقد بين الفرد والنظام الحاكم، وأن هذا العقد يستلزم التزامات معينة من الفرد مقابل قيام الدولة برعاية الفرد وحمايته .وردت فى السور التى نزلت فى المدينة إشارات إلى وجود عقد أو ميثاق أو عهد بين افراد المسلمين والنبى يتضمن تعهد كل فرد بطاعة القائد وهو النبى محمد عليه السلام ؛ ليس طاعته كشخص وفرد ولكن طاعة القيم الأخلاقية المنبثقة عن إلايمان الحق بالله تعالى واليوم الآخر، تلك هى البيعة العامة . ثم هناك بيعة خاصة طارئة مؤقتة تستلزمها ظروف المواجهة العسكرية حين يتعرض المجتمع المسلم إلى هجوم لابد من صده ، وحينئذ يتطلب الأمر بيعة خاصة للإلتزام بالدفاع عن الدولة.وفى كل الأحوال ( البيعة العامة والبيعة الخاصة ) فإنها بيعة لله تعالى ؛ فمن يبايع النبى - أو القائد - إنما يبايع الله ، أى يلتزم أمام الله تعالى بالوفاء بالعهد والميثاق . وبالتالى فإن ضميره الشخصى هو الرقيب عليه فى مدى هذا الإلتزام بهذا العهد، أى أنه مسئول أمام الله تعالى يوم القيامة فقط فى مدى وفائه بهذا العقد أو العهد أو الميثاق أو البيعة.وفى كل الأحوال أيضا فإن تلك البيعة العامة والخاصة تشمل الرجال والنساء معا بما يعنى المساواة بين الرجل والأنثى .ذكرت روايات السيرة النبوية أن النبى محمدا عقد معاهدة سرية مع وفد من المدينة قبل الهجرة ،وعقد معاهدة أخرى مع وفد أخر فى العام التالى إلا أنها لم تذكر عقد معاهدة عامة مع أهل المدينة . القرآن الكريم فى تعليقه على تباطؤ أو تخاذل بعض المؤمنين فى الوفاء بهذا العقد كان يذكرهم بالعهد الذى التزموا به .الإيمان له معنى عقيدى هو الإيمان بالله تعالى ورسوله وله معنى سلوكى هو اختيار السلام والأمن والسكون والإبتعاد عن المشاكل ،وقد كان معظم من آمن من المستضعفين الذين اختاروا الأمن والأمان سلوكا مع بقاء عقيدتهم على المعتقدات المتوارثة بشكل مخالف للعقد الذى عقدوه مع الله تعالى . تلك المعتقدات المتوارثة المخالفة للإسلام كانت تؤثر على التزاماتهم فى الجهاد بالنفس والمال، إذ كانوا مطالبين بالإنفاق فى سبيل الله فيبخلون ، وكانوا مطالبين بالدفاع ضد عدو يعتدى فيتثاقلون تمسكا بالهوان وبالسلام السلبى مع عدو لا يجدى معه إلا دفع إعتدائه بالدفاع الصلب .فى أوائل السور المدنية نجد القرأن الكريم ينهى المؤمنين عن خيانة الله ورسوله ، وخيانة العهد والأمانة ، ويأمرهم بالإستجابة وطاعة رسول الله ( 8 / 24 : 27 ) وتعبير الخيانة للعهد يعنى وجود عهد قائم بين الله تعالى والمؤمنين وأنهم لم يقوموا بالإلتزام بهذا العهد . وفى أواخر السورة المدنية يتكرر الأمر للمؤمنين بطاعة الله ورسوله وأن يواجهوا إعتداء المشركين ، ليس بالوهن والإستسلام والحرص على حياة ذليلة وإنما بالدفاع البدنى والإنفاق المالى فى المجهود الحربى ، وإن لم يفعلوا فمصيرهم إلى الإستئصال ،وعندها يأتى رب العزة بمؤمنين آخرين خيرا منهم ( 47 / 32 : 38 ) .كان البخل شائعا بين هذه النوعية من المؤمنين وترتب عليه أن توعد الله تعالى بالعذاب اولئك الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل وذلك بعد أن كررلهم أوامر العهد والميثاق وهى عبادة الله وحده لا شريك له والإحسان للوالدين والأقارب واليتامى والجيران وأصحاب وأبناء السبيل والرقيق ( 4 / 36 : 37 ) وفى مواجهة ذلك البخل ونسيان العهد والميثاق والبيعة ينزل القرآن يذكر المؤمنين بالإيمان بالله تعالى ورسوله والإنفاق فى سبيل الله ثم يعيب عليهم أنهم لا يؤمنون قلبيا وعقيديا بالله تعالى وحده ، مع استمرار دعوة الرسول محمد عليه السلام لهم بأن يكون إيمانهم بالله تعالى وحده إلها، وبرغم أنهم عاهدوا الله تعالى ورسوله على ذلك الا أنهم كانوا ينسون مما يستدعى تذكيرهم وتأنيبهم (75/7:8 ) .وفى أواخر ما نزل من القرآن يتكرر نفس الموضوع فى تذكيرهم بالميثاق الذى عقدوه يوم بيعتهم ، وكيف أنهم قالوا سمعنا وأطعنا مع أن قلوبهم لم تكن مخلصة . ويحذرهم الله تعالى بأنه يعلم خفايا الصدور . (5 /7 ) .هذا العهد والميثاق أو البيعة العامة كانت لكل فرد يدخل فى إطار الدولة الإسلامية . وخلافا لما اعتاده العرب وما اعتادته ثقافة العصور الوسطى أعطيت المرأة نفس حق المواطنة الايجابية وحق المشاركة السياسية فى الدولة الإسلامية، فقد كان عليها أن تبايع نفس المبايعة ، وتضع يدها على يد النبى تعطيه البيعة. وهذا ما جاء فى سورة الممتحنة (60 /12 ) .ولأنه أمر جديد لم يكن معروفا من قبل فإن الخطاب نزل للنبى محمد يوضح كيفية بيعة النساء للنبى ، فالمؤمنات إذا أتين مهاجرات ليصبحن مواطنات فى الدولة الجديدة فعليه أن يبايعهن على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يقعن فى بهتان ولا يعصين النبى فى معروف ، فإذا بايعن النبى على هذه البنود فعليه أن يستغفر لهن الله على ما سبق من ذنوبهن، لأنهن قد دخلن فى مرحلة جديدة من حياتهن. وهذا ما ينطبق على الرجال أيضا. والواضح أن كل بنود البيعة للمؤمنين والمؤمنات تتلخص فى تطبيق الإسلام والإيمان فى العقيدة وفى السلوك . تطبيق الإسلام فى العقيدة بعدم الوقوع فى الشرك والكفر ،أى بعدم الإعتقاد إله إلا الله الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، والإيمان والإسلام سلوكا بمعنى طاعة الله تعالى فى التعامل مع البشر بعدم الإعتداء على حياة الأخرين وأعراضهم وأموالهم أى التمسك بالقيم العليا المتعارف عليها من العدل ومنع الظلم .إذن بنود البيعة تتلخص فى طاعة الله تعالى ، وهنا تكون المساواة بين المسلمين جميعا بما فيهم النبى نفسه، فهم مأمورون جميعا بطاعة الله الواحد عز وجل الذى لا شريك له فى الملك. وعليه فإن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو تناصح بالتمسك بالقيم العليا المتعارف عليها والإبتعاد عن الرذائل المستنكرة من جميع الناس، وهذا التناصح يعنى أن ينصح كل مؤمن أخاه أو أخته ، وأن تنصح كل مؤمنة أخاها أو أختها. وهنا مساواة المؤمنين جميعا رجالا ونساء ؛ كلهم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ( 103 / 3 ) ،أى ليست هناك طائفة تأمر الأخرين ولا يأمرها أحد.ليس فى الاسلام طائفة تحتكر إصدار الأوامر وتضع نفسها فوق القانون أو فوق الجميع بقوة القانون. بالتالى فليس هناك طاعة لشخص أو لحاكم حتى لو كان النبى نفسه . فالأية تقول عن أحد بنود البيعة عن النساء " ولا يعصينك فى معروف " لو قالت الأية " ولا يعصينك " فقط لكان ذلك فرضا بطاعة النبى طاعة مطلقة. ومصطلح النبى يعنى شخص النبى محمد وعلاقاته بمن حوله، لذا كان العتاب واللوم يأتى بصفة النبى بينما الطاعة تأتى مرتبطة بالرسول والذى يعنى أيضا الرسالة والقرآن. ولأن النبى هنا هو شخص النبى محمد فإن طاعته كشخص مرتبطة بأن تكون فقط فى "معروف "، والمعروف هو المتعارف عليه من القيم العليا التى جاء بها القرآن والتى تجلت فى سائر بنود البيعة . وإذا كانت طاعة النبى محمد - وهو القائد - مرتبطة بالمعروف وليست له طاعة كشخص ، فإنه لا يجوز لأى شخص أن يطلب من المؤمنين طاعته دون قيد أو شرط. ولذلك فقد اشتق الفقهاء المسلمون الأحرار قاعدة سياسية تقول " لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق " أى لا يصح الطاعة إلا فى إطار طاعة الله تعالى وحده ، فالمطاع هو الله تعالى وحده، ومن يطع القرآن ـ أو الرسالة الالهية الخاتمة بعد موت الرسول محمد ـ فقد أطاع الله تعالى ( 4 / 80 ) وكل من يأمر بما جاء فى القرآن فيجب طاعة ما ينطق به من القرآن ، وليس طاعته هو كشخص. وهذا معنى الأمر بطاعة الله ورسوله وأولى الأمر، ( 4 / 59 ) ليس هنا تثليث ،أو عبادة لله والرسول واولى الأمر، بل أن طاعة ولى الأمر وطاعة الرسول فيما يقال من أوامر جاءت من الله تعالى فى كتابه الكريم ونطق بها الرسول وبلغها ، ثم يقوم على رعايتها أولو الأمر. وإذا زاغ أحد منهم عن أوامر الله تعالى فلا طاعة له ، بل يجب اعلان العصيان لأمره وتوضيح أنه يأمر بما يخالف القرآن ، حتى نبرىء دين الله تعالى من استغلال دينه العظيم من سوء الاستغلال والفساد والاستبداد. باختصار : إن البشر عليهم أن يطيعوا الله تعالى وحده ويحرم عليهم طاعة أمر يخالف تشريع الله تعالى ومبادئه .يسرى هذا على البيعة العامة فى الدخول فى مواطنة الدولة الإسلامية كما يسرى على البيعة الخاصة التى تفرضها ظروف الحرب.[c1]( يتبع غداً )* مفكر اسلامي واكاديمي ازهري من مصر[/c]