محمد زكريافي 31أكتوبر 1914م أعلنت السلطنة العثمانية دخولها الحرب وانضمامها إلى ألمانيا القيصرية ضد فرنسا ، إيطاليا ، و إنجلترا . والحقيقة أن السلطنة العثماني ظنت أن دخولها الحرب بجانب ألمانيا وانتصارها في تلك الحرب سيمكنها أن تعيد أملاكها الكثيرة التي سُحبت من تحت قدميها وستلقن إنجلترا درسًا بسبب تجريدها لأهم أملاكها وهي عدن التي احتلتها سنة 1839م ، مصر سنة 1882م ، السودان سنة 1889م وغيرها من الأملاك الهامة . ولقد غضت أيضاً إنجلترا الطرف عن احتلال إيطاليا لطرابلس الغرب ( ليبيا ) سنة ( 1911ـ 1912م ) وذلك من خلال سكوتها إزاء ذلك الاحتلال الإيطالي للأملاك العثمانية كل تلك العوامل - في رأينا - دفعت السلطنة العثمانية الدخول الحرب ضد إنجلترا . والحقيقة أن الجزيرة العربية شهدت سباقاً محمومًا بين السلطنة العثمانية و إنجلترا لضم إمارات ومشايخ المنطقة لصفوفهما , ولكن النصر كان للأخيرة بسبب قوتها العسكرية حيث كانت تعد سيدة العالم والبحار حينئذ من ناحية والأوضاع التي سنحت لها في الجزيرة العربية حيث كان يسودها التنازع والتنافس بين القوى المحلية فيها من ناحية ثانية وضعف نفوذ السلطنة العثمانية في المنطقة من ناحية ثالثة وأخيرة . [c1]إنجلترا في الجزيرة العربية[/c]لقد تحدثنا قبل قليل أن الجزيرة العربية ، والخليج العربي شهدتا تنافسًا حادًا بين إنجلترا من جهة والسلطنة العثمانية من جهة أخرى وقلنا أيضًا أن كفة الميزان مال لصالح إنجلترا للأسباب التي ذكرناها قبل قليل ، وكانت إنجلترا تعتبر أن الجزيرة العربية جزء من مواصلاتها الهامة إلى الهند والشرق أو بتعبير آخر الشريان الحيوي إلى تلك المستعمرة التي كانت تنعتها بالدُرة الغالية في تاج جبين الإمبراطورية الإنجليزية . وعلى أية حال ، تمكنت إنجلترا أن تعقد عددًا من الاتفاقات مع أمراء ومشايخ الخليج العربي و الجزيرة العربية " مع الكويت في 3 نوفمبر 1914م ، ثم مع الإدريسي في 30 إبريل 1915م ، ومع سلطان نجد ابن سعود في ديسمبر 1915م ، وأعلن الشريف حسين ثورته ضد تركيا في يناير 1916م ، بعد المراسلات الطويلة المعروفة باسم مراسلات حسين - مكماهون ". [c1]السلطنة العثمانية وفشلها[/c]وأما السلطنة العثمانية التي كانت تحاول قدر المستطاع أن تكسب إلى جانبها أمراء ومشايخ الخليج العربي و الجزيرة العربية مثلما فعلت إنجلترا عدوتها اللدود ونجحت في ذلك نجاحًا كبيرًا - كما قلنا سابقاً - وحاولت أن تكسب إلى صفها شخصية تحتل مكانة دينية كبيرة وهو الشريف حسين ولكنها فشلت السلطنة العُثمانية في مسعاها ذلك فشلاً زريعًا . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : " وكانت تركيا بدورها تحاول من جانبها كسب أمراء الجزيرة العربية أيضًا إلى جانبها وعلى رأسهم الشريف حسين لمكانته الدينية وسط الجامعة الإسلامية التي كان قد دعا إليها السلطان عبد الحميد الثاني من قبل ، لكن لم تستطع أن تضم إليها سوى ابن الرشيد في حائل لعدائه لابن سعود. ومثلما فشلت السلطنة العثمانية أن تضم الشريف حسين إلى جانبها , فقد فشل العثمانيون في مسعاهم أيضًا بضم شخصية مؤثرة في الجزيرة العربية وهو ابن سعود . وكانت حجته بعدم الانضمام إلى صفها هو أنه " يخشى أن تضرب بريطانيا من البحر سواحله على الخليج الفارسي إذا انضم صراحة إلى تركيا " . وأما الإدريسي والذي كان مقر حكمه ودولته في جيزان ، فقد وجد في تحالفه مع إنجلترا فرصة ثمينة لتقوية جانبه ضد خصومه السياسيين . فقد " أسرع الإدريسي إلى التحالف مع بريطانيا لعدائه القديم مع تركيا ومع جاريه الإمام يحيى ، والشريف حسين . [c1]الإمام يحيى بين العثمانيين والإنجليز [/c]وبعد أن رأينا ولمسنا السباق الكبير المحموم بين إنجلترا من ناحية والسلطنة العُثمانية من ناحية أخرى على كسب ود الأمراء والمشايخ في جزيرة العرب إلى جانبيهما , وتبين لنا أن إنجلترا كسبت السباق في ضم هؤلاء الأمراء ، والمشايخ بسبب قوتها البحرية من ناحية وسخائها في مد هؤلاء وأولئك بالمال والسلاح مثلما حدث مع الإدريسي لمحاصرة القوات العثمانية في عسير . وفي واقع الأمر ، أن السلطنة العثمانية كانت ضعفها ماثل للعيان لهؤلاء العشائر ، الأمراء ، والمشايخ ولذلك انضموا إلى الجانب القوي وهو إنجلترا والتي كانت - بحق - سيدة البحار في العالم دون منازع حينئذ . وكيفما كان الأمر ، فقد حاولت إنجلترا أن تضم الإمام يحيى إلى صفها ضد العثمانيين ولكنها فشلت في مسعاها ذلك . ولقد أغرت إنجلترا الإمام بدفع المرتبات الذي كان يدفعها العثمانيونن للقبائل الموالين له , وأعلنت له صراحة أنها ستعترف بحكمه وباستقلال اليمن في حالة انضمامه إلى جانبها ضد العثمانيين في الحرب ولكن إمام اليمن وجد نفسه أن الأوضاع السياسية في اليمن تفرض عليه أن يقف على الحياد بين الطرفين في الحرب . والحقيقة أن الإمام يحيى كانت له رؤية صائبة ، ونظرة ثاقبة فهو يرى أن الجيوش العثمانية تجثم على صدر اليمن من ناحية . علمًا أنه أحاط بنفسه بهالة من القداسة الدينية تمنعه أن يعلن الحرب على الخلافة العثمانية من ناحية ثانية . ولكن الإمام يحيى من الذكاء بمكان أنه لم يقطع خطوط الاتصال مع الإنجليز , فقد كان في نفس الوقت يتصل بإنجلترا ليوضح أسباب عدم انضمامه بجانبها. ويذكر الدكتور سيد مصطفى سالم أن الإمام يحيى كان يميل إلى جانب السلطنة العثمانية وذلك للأسباب التي ذكرناها وهي أن قواتها رابضة فوق أرضه ولذلك سكت عن تأخير المرتبات المقررة للقبائل المرتبطة به . " كما أمدهم ( العثمانيون ) بالحبوب اللازمة لجيوشهم ، ولم يعارض مشاركة بعض القبائل الشمالية في الحملة التي قادها علي سعيد باشا إلى لحج وعدن " على مسئوليتهم الشخصية ، وليست على مسئولية الدولة . [c1]جزيرة الشيخ سعيد[/c]وعندما اندلعت الحرب بين إنجلترا والسلطنة العثمانية وانضمت الأخيرة إلى ألمانيا القيصرية - كما سبق وأن أشرنا - . كان من الطبيعي أن تضع إنجلترا كل ثقلها الحربي في جنوب البحر الأحمر والذي يمثل لها الشريان الحيوي الهام إلى مستعمراتها في الهند وذلك من خلال تصفية الوجود العثماني فيه حتى تقوم بتأمين جنودها من الهند وجنوب أفريقيا وإرسالهم إلى فرنسا الجبهة الرئيسة في أوربا حينئذ . فعملت على مراقبة الحاميات العثمانية المرابضة في بعض الجزر القريبة من ساحل اليمن مثل الشيخ سعيد التي قامت بضرب الحامية العثمانية فيها بعد إعلان السلطنة العثمانية الحرب على إنجلترا بأيام قليلة " وتكرر ضرب الشيخ سعيد مرارًا كلما شعرت بريطانيا بمحاولات تركية لإعادة تحصينها ، واستمر ذلك حتى منتصف يوليو 1916م نظرًا لأهميتها الاستراتيجية أمام جزيرة ميون ( بريم ) وباب المندب " . [c1]إنجلترا تراقب الجزر[/c]والحقيقية أن إنجلترا لم تلق بالاً إلى حملة علي سعيد باشا قائد الحملة العثمانية على لحج إلا بعد أن دخلت قواته الشيخ عثمان أهم ضواحي عدن ولكنها ردتها على أعقابها سريعاً وبعدها مكثت قواته جامدة في لحج نحو أربعة سنوات وخرجت منها بعد هزيمة السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى . ولقد رأت إنجلترا أنّ الضرورة العسكرية تحتم عليها أن تكون الجزر اليمنية الهامة والاستراتيجية تحت عينيها ومن أجل ذلك سيرت دوريات بحرية حربية لمراقبة تحركات القوات العثمانية المرابضة على الجزر . وبالفعل تمكنت من إفشال مخططات العثمانيين في تخريب الفنارات الواقعة على الجزر الثلاث وهي أبوعلي ، الزبير ، وجبل الطير . مما دفع بالبحرية الإنجليزية أن تضع يديها على تلك المنارات الثلاثة حيث أنزلت عددًا من جنودها على تلك الجزر لحمايته فناراتها من التخريب والعمل على الحفاظ على تشغيلها . " وقد استمرت هذه الجزر وفناراتها تحت السيطرة البريطانية عدة سنوات بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى " . [c1]تهدئة خواطر العرب[/c]والحقيقة كانت هناك آراء سياسية إنجليزية تؤيد بشدة احتلال إنجلترا للجزر اليمنية أبوعلي ، الزبير, وجبل الطير - كما أشرنا إليها سابقًا - , ورأي أخر يعارض احتلالها لكون ذلك الاحتلال ستكون له عواقب وخيمة على إنجلترا . وفي الأخير انتصر الرأي الذي يرفض احتلال تلك الجزر وكانت الحجج الذي ساقها ذلك الرأي هي عدم إثارة مشاعر العرب والمسلمين ضدها وبالتالي يؤدي ذلك إلى انضمامهم إلى السلطنة العثمانية والوقوف بجانبها ضد إنجلترا ، بل أن الأخيرة حرصت على تهدأت خواطر مشاعر العرب بأنها لا تسعى إلى احتلال مناطقهم . وفي نفس الوقت قامت بترهيبهم وهو عدم التعاون مع العثمانيين حتى لا يتعرضوا للمشاكل . وهنا ربما كان مناسبًا أن نقتبس فقرة من كلام الدكتور سيد مصطفى عن الرأي المؤيد لاحتلال جزر أبوعلي ، الزبير ، وجبل الطير ، والرأي الرافض لذلك الاحتلال ، فيقول : حتى " لا تثير ضدها ( أي إنجلترا ) مشاعر العرب والمسلمين ، وحتى لا تدفعهم إلى الانضمام إلى جانب تركيا . وحرصت بريطانيا - على عكس ذلك - على إصدار البيانات لطمأنة العرب على أنها لا تريد أن تحتل أراضيهم ولتطلب منهم عدم التعاون مع الأتراك حتى لا يتعرضوا للخطر " . [c1]مسلمو الهند[/c]وكان من أكبر المتحمسين لاحتلال إنجلترا تلك الجزر اليمنية هو المقيم الإنجليزي في عدن , ولكن كان نائب الملك في الهند يفهم تمامًا مشاعر المسلمين فهمًا عميقاً ، فقد " كان ضد هذا الاتجاه حتى لا يثير مشاعر مسلمي الهند وغيرهم خاصة بعد أن أعلن السلطان العثماني الجهاد الديني ضد الأعداء حتى يحرك مشاعر المسلمين في كافة المستعمرات البريطانية والفرنسية " . ولكن نرى بعد قليل أن إنجلترا تغير من سياستها تلك فتحتل الجزر اليمنية الثلاثة وهم الزبير ، أبوعلي ، وجبل الطير , وتعقد اتفاقاً مع الإدريسي على موافقتها ومباركتها على سيطرته على جزر فرسان تحت حمايتها وذلك لقطع الطريق على إيطاليا التي كانت ترنو إلى احتلالها بعد تأسيسها مستعمرة إريتريا سنة 1890م بموافقة ومباركة إنجلترا . ويفهم من ذلك أنّ مسلمي الهند كانوا يمثلون قوة ومركز ثقل كبيرين في المعادلة السياسية الإنجليزية ولذلك وضع الساسة الإنجليز ذلك الاعتبار في خططهم الإستراتيجية . [c1]الإمام يحيى وإنجلترا[/c]وحتى تكتمل الصورة عن سياسة إنجلترا تجاه احتلالها للجزر اليمنية الهامة ، نرى من الأهمية بمكان استعراض الأحداث التي جرت بين إنجلترا والإمام يحيى الذي كان قاب قوسين أو أدنى على حكم اليمن . والحقيقة أن إنجلترا أيقنت أن الإمام سيرث حكم العثمانيين في اليمن بعد انسحاب القوات العثمانية منها . فقد وجدت أنه الشخصية الوحيدة والمناسبة التي تستطيع التفاهم معه في إبان الحرب أو بعدها وبعبارة أخرى . ولقد ذكرنا سابقاً أنّ الإمام وقف من أطراف الحرب أي من العثمانيين والإنجليز موقف الحياد المشوب بالحذر والترقب . وكانت إنجلترا ترى أن على الإمام أن يعلن بوضوح في مارس 1918م انضمامه إلى إنجلترا والحلفاء ولكن كان للإمام يحيى رأي أخر مغاير تمامًا لرأيها . [c1]إنجلترا ووعودها للإمام [/c]وفي واقع الأمر ، لقد تفهم ( هارولد جيكوب ) المعاون الأول بعدن وجهة نظر الإمام يحيى السياسية في عدم إعلان الحرب على السلطنة العثمانية التي كانت قواتها الضخمة تتواجد على أرضه من ناحية . فضلاً عن ذلك أن الإمام معلق فوق الهضبة ويقصد صنعاء لا يستطيع أن يحرك ساكناً ، وأن تحركه ضد القوات العثمانية سيثير حتماً خصومه السياسيين من بعض القبائل بسبب تأييده للإنجليز النصارى ضد السلطنة العثمانية المسلمة . ولقد أشرنا سابقاً ، أن إنجلترا وعدت الإمام بأنها ستدفع المرتبات للقبائل الذي كان يدفعها العثمانيين لهم . وأنها ستعترف باستقلال بلاده بل أن إنجلترا ستسمح له باستخدام موانئ الإدريسي للتجارة . وأنه في الإمكان الإطلاع على المعاهدة المبرمة بينها وبين الإدريسي . ولكن الإمام يحيى أصر على وجهة نظره أنه لا يستطيع أن يميل إلى طرف على حساب الطرف الآخر وخصوصًا أن الطرف الذي سيقف أمامه وهو العثمانيين والتي مازالت قواتهم رابضة على أرضه , وأنه أبرم معهم اتفاق سلام مدته عشر سنوات وهو صلح ( دعّان ) في سنة 1911م . [c1]موقفه السياسي المعقد[/c]والحقيقة أن الإمام كان موقفه السياسي معقداً نظرًا أن عداءه الصريح والواضح ضد السلطنة أو الخلافة العثمانية الإسلامية سيثير عليه العداء من خصومه من ناحية والاهم من ذلك سيسحب بساط الهالة الدينية من تحت قدميه الذي صور نفسه فيها أمام اليمنيين والمسلمين . ولقد سبق أن أشرنا أن الإمام كان يميل إلى العثمانيين ودليل ذلك أنه سكت عن المرتبات التي لم يدفعوها إلى القبائل الموالين له وأيضًا غض الطرف عن مشاركة بعض القبائل اليمنية مع حملة علي سعيد باشا ضد الإنجليز في لحج وعدن - كما أشرنا في السابق - . ومن المحتمل أن ميله إلى العثمانيين قد يكون راجعاً إلى تعاطفه الديني الشخصي معهم من ناحية والعواقب السياسية الخطيرة التي قد ينتج عنها وقوفه ضدهم إلى جانب إنجلترا من ناحية أخرى.[c1]الخطوط الحمراء[/c]والحقيقة أن إنجلترا رسمت سياسة إستراتيجية للتعامل مع الإمام يحيى بعيد الحرب العالمية الأولى مباشرة واعتبرته في مربع غير الصديق بسبب موقفه الرافض الانضمام إليها إبان الحرب من ناحية ومطالبته أن تمتد سلطته إلى باقي اليمن ومن بينها المحميات وذلك ما أثار انزعاج إنجلترا من ناحية ثانية . وكانت تعتبر مطالب الإمام تلك قد تجاوزت الخطوط الحمراء . والحقيقة أن إنجلترا كانت على استعداد بالاعتراف باستقلال الإمام ولكن مقابل عدم التدخل في حقوقها في المحميات . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، إذ يقول : " وهي أن بريطانيا سوف تعترف باستقلال الإمام لكن عليه ألا يعارض حقوق بريطانيا في المحميات " . [c1]اليمن ومؤتمر الصلح[/c]وفي الحقيقة أن الإمام يحيى بُعيد الحرب أرسل الرسائل إلى عدد من الدول الأوربية منها فرنسا ، وإيطاليا ، والولايات المتحدة الأمريكية يطالب فيه " الاعتراف باستقلاله وبسيادته في اليمن . وطلب أيضًا الإمام أن يشارك في مؤتمر الصلح بباريس ولكن طلبه ذلك رفض . وهنا ربما يكون مناسبًا ، أن نقتبس فقرة من كلام الدكتور سيد مصطفى سالم في مطالب الإمام أن تشارك اليمن في مؤتمر الصلح ، فيقول " وفي 6 مارس ( 1919م ) أخبر مندوب إيطاليا في باريس وزير الخارجية البريطانية بلفور أن الإمام طلب أن يُمثل في مؤتمر الصلح وسأل ماذا تكون الإجابة ، فرد بلفور أن تمثيل الإمام في المؤتمر مرفوض نهائيًا . وفي 26مارس أخبر المقيم في عدن الإمام أن مسألة تمثيله في مؤتمر الصلح قد رفضت ، وأن المسائل الإقليمية ستكون في الاعتبار " . وكان من الطبيعي أن تشهد العلاقات بين الإمام يحيى وإنجلترا توترًا شديدًا . [c1]القوات اليمنية في الضالع [/c]لقد قلنا في السابق ، أن إنجلترا حاولت استمالة الإمام يحيى إلى جانبها بأن يعلن الحرب على العثمانيين في اليمن وبذلك بفتح جبهة أخرى ضدهم . ولكنه رفض ذلك رفضًا قاطعًا بسبب اتفاقية صلح ( دعّان ) التي عقدها مع العثمانيين من ناحية و أنهم فوق أرض اليمن , و كذلك لا يستطيع أن يجهر بعدائه ضد العثمانيين المسلمين لكونه حاكمًا مسلمًا ومدافعًا عن الإسلام والمسلمين . كل تلك الحجج الذي ساقها الإمام لإنجلترا لم تقنعها . فصنفته في مربع " غير حليف " ، " غير الصديق " . ومن الأسباب الرئيسة أيضاً التي زادت الأمور تعقيدًا بينهما والتي ذكرناها هى مطالبة الإمام بالمحميات لأنها كانت من تركة أسلافه أو بعبارة أخرى أنها جزء لا يتجزأ من تراب اليمن . والحقيقة أن الإمام يحيى زاد سخطه على إنجلترا بسبب مساعدة عدوه اللدود الإدريسي بالمال والسلاح ، وغضت الطرف عن استيلائه لجزر فرسان التي اعتبرها جزء من اليمن كل تلك العوامل مجتمعة ألهبت نار الصراع بين الإمام من ناحية وإنجلترا من ناحية أخرى . مما دفع الإمام أن يستولي على الضالع في سنة 1920م ، ولمزيد من توضيح تلك الأسباب الرئيسة والمباشرة التي أحدثت شرخاً واسعًا وعميقاً في العلاقة بين الإمام وإنجلترا ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : " ومن ناحية الإمام يحيى - الذي حاولت بريطانيا أن تستميله إليها أثناء فترة الحرب - والذي أبدى عن طموحاته المعارضة للمصالح البريطانية في المحميات منذ الأشهر الأخيرة من الحرب ( مارس - مايو 1918 ) - والذي تجاوزت قواته حدود المحميات بعد فشل بعثة جيكوب وعودتها في ديسمبر 1919م ، فإنه قد استولى على الضالع خلال عام 1920م - والذي زاد عداؤه لبريطانيا بعد أن سلمت الحديدة للإدريسي في 29 يناير 1921 ، فزاد هو من توسعه في شمال المحميات - فقد اعتبرته بريطانيا " غير صديق " و " غير حليف " ، وأنها لا تثق به لتسليمه الجزر رغم اقتناعها بأنها جزر يمنية " . [c1]إنجلترا تحتل الجزر اليمنية [/c]وفي واقع الأمر ، أن الحرب تطلبت من إنجلترا اجرءات حاسمة في البحر الأحمر لتأمين مواصلاتها إلى الهند وجنوب أفريقيا لنقل الجنود منها إلى مصر وفرنسا حيث كانت هناك تدور المعارك الحاسمة والمصيرية ضد ألمانيا القيصرية . على أية حال ، رأت إنجلترا أن احتلال الجزر اليمنية صارت من الضرورة الحربية والإستراتجية بعد أن كان هناك في السابق تردد من قبل المسئولين الإنجليز بعدم احتلالها حتى لا تثير وتهيج الرأي العام الإسلامي ضدها وخاصة أن السلطان العثماني أعلن الجهاد ضدها . [c1]الجزر اليمنية في عيون إيطالية[/c]وكيفما كان الأمر ، فقد رأت وزارة الخارجية الإنجليزية ، أنه صار من الأهمية بمكان احتلال الجزر اليمنية بسبب دخول إيطاليا الحرب إلى جانبها, وتخشى من الأخيرة أن تقفز إيطاليا حليفتها على الجزر اليمنية وخصوصًا أنه زاد الاهتمام بها ر بعد تأسيسها مستعمرة أرتيريا سنة 1890م في الساحل الأفريقي للبحر الأحمر . والحقيقة أن إيطاليا " الحليف المشاكس " لإنجلترا - كما نعتها وزير الخارجية الإنجليزية - . قامت بمحاولات استكشافية من خلال بعض الرحالة الإيطاليين " إذ قام الرحالة ريتزو مانزو بجولة في اليمن عام ( 1870م ) " . وبعدها بثمان سنوات في سنة 1878م ، قام تاجر الآثار الإيطالي اليهودي موسى شابيرو بزيارة اليمن . بل أن إيطاليا كشفت صراحة عن طموحاتها بالاستيلاء على بعض الجزر والسواحل اليمنية عندما هددت باستعمال القوة ضد الحديدة بضربها بالمدافع بسبب خلاف بينها وبين العثمانيين في اليمن وهو أن الأخيرين استولوا على سفينة إيطالية دون وجه حق وأنهم أي الإيطاليين يطالبون السلطات العثمانية في اليمن بدفع تعويضات للسفينة الإيطالية المصادرة . وكانت إيطاليا تختلق المشاكل الواحدة تلو الأخرى بينها وبين العثمانيين في اليمن بهدف الاستيلاء على موانيها وجزرها. وصعدت إيطاليا الموقف بينها وبين العثمانيين في سنة 1902م " فقد هددت إيطاليا بضرب موانئ الحديدة ، وميدي ، وخور الوحلة - الذي يقع إلى الشمال من ميدي بحوالي 33 ميلاً ، إذا لم يتم القبض على ثلاثة من شيوخ بني مروان وبني حكيم الذين يتزعمون - كما قيل - حركة القرصنة . وقد قصفت - من قبل الإيطاليين - ميدي بالمدافع في أكتوبر من هذا العام لكن لم يقبض على المشايخ المطلوبين ، وعندئذ أسرعت السلطات التركية إلى حشد القوات في ميدي خوفاً من نزول الإيطاليين إلى المدينة " . [c1]العلاقة العثمانية الإيطالية[/c]وفي سنة 1904م ، تحسنت العلاقات العثمانية الإيطالية , فأقامت الأخيرة قنصًلا عاما لها في الحديدة ، ونائب قنصل في المًخًا . ولكن كانت إنجلترا ترصد وترقب تحركات إيطاليا في الجزيرة العربية والبحر الأحمر بعين الشك وعدم الارتياح . وكانت إيطاليا تدرك أنها لم ولن تستطيع تحقيق طموحاتها في تلك المنطقة دون موافقة إنجلترا سيدة البحار . والحقيقة أن إنجلترا في خلال الحرب العالمية الأولى وضعت ثوابت أساسية في سياستها تجاه تلك المنطقة " وهو أنها لا تسمح لأية دولة أوروبية بأن تمد نفوذها إلى سواحل الجزيرة العربية " . [c1]إنجلترا وإيطاليا وجهاً لوجه[/c]وعلى ضوء ذلك بنت إنجلترا استراتيجيتها الحربية في سواحل الجزيرة العربية المطلة على البحر الأحمر بقطع الطريق على إيطاليا باحتلال الجزر اليمنية الهامة التي تحقق خططها ألإستراتجيتها العسكرية . والحقيقة أن نائب الملك في الهند كان يرى أن تطرح إنجلترا الأمر على حليفتها إيطاليا حول مسألة احتلالها للجزر اليمنية , ولكن وزارة الخارجية رفضت ذلك الرأي بشدة " خوفًا من أن تطلب إيطاليا المشاركة في هذا الاحتلال ، أو قد تضع شروطًا مقابل موافقتها على أن تستولي بريطانيا على تلك الجزر . وكانت إنجلترا قد شجعت وساعدت الإدريسي بالسيطرة على جزر فرسان وأن يرفع علمه مقابل أن يكون تحت الحماية الإنجليزية حتى لا تتجرأ إيطاليا من احتلالها لكون الإدريسي حليف إنجلترا الذي دخل الحرب العالمية الأولى ضد السلطنة العثمانية . وهذا ما أكده وزير الخارجية بالرسالة الذي بعثها إلى نائب الملك في الهند يقول فيها : " وأنه يجب الاعتراف باحتلال الإدريسي لجزيرة فرسان - بعد أن سحب الأتراك جنودهم منها ومن غيرها - والقيام باحتلال باقي الجزر مثل كمران ، وزقر ، وحنيش " . وفي السادس من يونيو سنة 1915م نزل الجنود الإنجليز إلى حنيش الكبرى ، ثم إلى زقر ثم إلى كمران " وفي الأخيرة تم أسر الهيئة الصحية التركية وأُرسل أفرادها إلى عدن " . [c1]انسحاب إنجلترا من الجزر اليمنية[/c]والحقيقة أنه بعد شهرين من احتلال إنجلترا لتلك الجزر التي ذكرناها وهي حنيش الكبرى ، وزقر انسحب جنودها منهما " لعدم توفر مياه الشرب بها ولانتشار المرض بين أفراد الحامية لسوء المناخ ، وقد تم الانسحاب في 30 يونيو من نفس العام مع الاكتفاء برفع العلم على الجزيرتين بصفة دورية منتظمة بواسطة سفن الدورية البريطانية " . " ثم جاءت برقية مؤرخة 10 سبتمبر من الهند أن يظل العلم مرفوعًا بصفة مستمرة على أن تطمئن سفن الدورية باستمرار على ذلك " . وبقيت كمران تحت الاحتلال البريطاني بحجة إدارة المحطة الصحية بها لخدمة الحجاج إلى عام 1967 عند استقلال الشطر الجنوبي من اليمن " . [c1]مراقبة إنجلترا للسواحل اليمنية[/c]والحقيقة أن الأسطول الإنجليزي في إبان الحرب العالمية الأولى كان لا يهدأ في مراقبة سواحل اليمن الذي كانت تتواجد فيه الحاميات العثمانية , ويعمل دائمًا على ضربها. فقد ضرب الشيخ سعيد ، والصليف ، ورأس الكثيب ، وضربت أيضاً اللحية. وكانت تطارد السفن الشراعية الصغيرة التي كانت تحمل على متنها مواد التموين للحاميات العثمانية على الساحل اليمني . ونورد ما قاله الدكتور سيد مصطفى سالم عن أنشطة الأسطول الإنجليزي أمام الساحل اليمني : " ولم تألُ الدورية البريطانية جهدًا في ضرب الشيخ سعيد ، والصليف ، ورأس الكثيب بشكل متكرر بمدافع السفن نظرًا لخطورة وجود الأتراك بها عل كل من ميون وكمران ، كما ضربت اللحية من البحر عندما حاصرها الإدريسي برًا . وواصلت تلك الدورية أيضًا طوال فترة الحرب مطاردتها للزوارق الشراعية والبخارية الصغيرة التي تقوم بتوصيل الماء والمؤن إلى الحاميات التركية على الساحل " . [c1]جزيرتا ميون وكمران[/c]ويلخص الدكتور سيد مصطفى سالم تدرج نشاط البحرية الإنجليزية التصاعدي في جنوب البحر الأحمر عند اندلاع الحرب العالمية الأولى وهي تشكيل دوريات بحرية في جنوب البحر الأحمر لتؤمن نقل الجنود من الهند إلى مصر وفرنسا . ضرب الحاميات العثمانية المرابطة على السواحل اليمنية لتقويض قوتها العسكرية وتجميدها فيها . احتلت جزيرتي ميون وكمران لأهميتهما الحربية لإنجلترا وللعثمانيين على حد سواء . استولت على باقي الجزر اليمنية الهامة خوفاً من محاولة إيطاليا الاستيلاء عليهم . [c1]الإمام يدخل صنعاء[/c]وعندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها ، وأعلنت السلطنة العثمانية استسلامها بعد هزيمتها على يد إنجلترا والحلفاء في الحرب . سارع آخر الولاة العثمانيين محمود نديم بك يدعو الإمام يحيى إلى استلام مقاليد الحكم في اليمن . وفي نوفمبر سنة 1918م دخل الإمام صنعاء ومنذ ذلك الحين صار الإمام الحاكم الفعلي لليمن والمعترف به من قبل السلطنة العثمانية وأيضًا رأت إنجلترا - كما أشرنا في السابق - أن الإمام الشخصية الوحيدة التي يمكن التحدث معها في المسائل السياسية العالقة بينها وبين اليمن . وبعد أن تولى الإمام أمور حكم اليمن طالب إنجلترا بالجزر اليمنية الذي أعتبرها جزء من نسيج أرض اليمن أو بعبارة أخرى كانت السلطنة العثمانية المتصرفة الوحيدة في تلك الجزء على الشاطئ الشرقي لجنوب البحر الأحمر ومن الطبيعي أن يرث ما تركه العثمانيين بعد انسحابهم من اليمن تلك الجزر . [c1]المطالبة بالجزر [/c]والحقيقة أن الإمام يحيى أوضح للإنجليز بجلاء أن تلك الجزر التي تخص اليمن هي التي احتلتها إنجلترا في يونيو 1915م مثل كمران ، زقر ، وحنيش ، والجدير بالذكر أن المواقف والمراسلات التي تمت بين الإمام وإنجلترا تعطينا صورة واضحة عن مدى تمسك الإمام بالجزر اليمنية التي احتلتها إنجلترا إبان الحرب العالمية الأولى . ونورد ما ذكره الدكتور سيد مصطفى سالم حول مطالب الإمام بتلك الجزر اليمنية من إنجلترا ، فيقول " أما إذا عدنا إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى فيمكن اعتبار ردّ الإمام في 5 مايو 1918م ، أول إشارة إلى مطالبته بأن يرث كل ما خلفه له الأتراك في البر والبحر أو بالأحرى الأرض والجزر ، ولو أنه لم يشر إلى تفاصيل تلك المطالب " . ويمضي في حديثه ، فيقول : " ويتأكد أن هذه المطالب قد تضمنت الجزر أيضًا بالرجوع إلى خطابه الذي وجهه إلى " رايلي " عند توقيع المعاهدة للتصديق عليها ، غير أن حكومة لندن لم ترد على هذا الخطاب - كما سيتضح فيما بعد - بالرفض أو بالإيجاب - . وقد طالب الإمام برد " الجزر اليمنية " - دون أن يذكر أسماءها كما رددت بريطانيا فيما بعد - وإن كان قد حددها بدقة بعبارته التي جاء فيها " التي استولت عليها بريطانيا خلال فترة الحرب العظمى "، فلا شك أن بريطانيا كانت تعرف جيدًا الجزر التي احتلتها بالتفصيل ، لكنها تجاهلت هذا الطلب أيضًا ، نظرًا لمصالحها الخاصة ولصراعاتها الدولية ، ولأنها دولة ضعيفة - غير صديقة - تجاه دولة قوية كانت تُعتبر سيدة العالم حينذاك " . [c1]معاهدة لوزران والجزر اليمنية[/c]في 24 يوليو 1923م ، عقد دول الحلفاء أو الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى مع السلطنة العثمانية المنهزمة معاهدة لوزان والذي يهمنا من نتائج تلك المعاهدة هو أثرها على الجزر اليمنية . والحقيقة كان هذا المؤتمر بين المنتصر والمنهزم , وكان الأول لا يهمه سوى بسط سيطرته على أملاك الشيخ المريض السلطنة العثمانية دون النظر إلى القوانين فالقضية كانت قضية مصالح سياسية ومادية في المقام الأول . وأما المنهزم وهي السلطنة العثمانية فقد كانت لا يعنيها من الأملاك التي فقدتها شيء سوى إنقاذ كيانها ذاته. وكانت في حالة انهيار كامل لم تعد تملك من نفسها شيء كل تلك العوامل كان لها أثرها السلبي والخطير على الجزر اليمنية . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، إذ يقول : " وهكذا يتضح أن معاهدة لوزان قد أبرمت في غياب صاحب الحق الأصلي في تلك الجزر ( أي الجزر اليمنية ) ، وأنها قد وضعت بين طرفي غريبين وبعيدين عنها . أحدهما كان منهزمًا لا يهمه مصير هذه الجزر ، وكل ما كان يهمه حينذاك هو أن ينقذ ما يمكن إنقاذه من كيانه الخاص - في الأناضول والبلقان من أيدي الاحتلال الأجنبي . وثانيهما كان منتصرًا لا يهمه سوى كسب غنائم الحرب وتحقيق مصالحه الخاصة . وقد تم هذا كله في وقت كان الساحل اليمني صاحب الحق في تلك الجزر - ضعيفًا ، تلعب في أوضاعه أصابع أجنبية لتزيد من ضعفه وتفتته " .[c1]الهوامش : [/c]اعتمدنا كلية على كتاب (( البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية )) لمؤلفه الأستاذ الدكتور سيد مصطفى سالم ، سنة الطباعة 2006م الناشر : صنعاء ـ دار الميثاق للنشر والتوزيع . وأيضاً على كتاب (( عدن والسياسة البريطانية في البحر الأحمر )) للدكتور فاروق عثمان أباظة ، الناشر الهيئة العامة للكتاب ، سنة الطبعة 1987م .
|
تاريخ
الصراع العثماني الإنجليزي في اليمن
أخبار متعلقة