غضون
- أيام زمان لما كان الناس مجرد قبائل يتعصب القبيلي لقبيلته وكان الرئيس هو شيخ القبيلة وكان العرف هو الشرع، كان ذلك الوضع التاريخي مقبولاً .. لكن هذا الوضع يفترض أن يكون قد ولى منذ زمن بعيد أو مع ظهور الدولة التي صار الجميع فيها متساوين في الحقوق والواجبات وصارت لها قوانين حديثة حلت محل الأعراف وصارت لها مؤسسات عدلية وتشريعية وتنفيذية .. ويبدو أن الوضع التاريخي القديم لايزال يلقي بتأثيراته في بعض المناطق الواقعة أقصى شمال الوطن، وهذه التأثيرات مردها إلى تقصير الحكومة وإلى مسعى بعض شيوخ في القبائل للاحتفاظ بمصالح خاصة يحققونها عن طريق فرض وضع خاص في تلك المناطق، وهذا أمر خطير للغاية لأن القبول به من قبل الحكومة سيؤدي إلى انتهاكات واختراقات جسيمة للصالح العام والدستور.- في غير مرة حصل أن سجل رجال القبائل نصراً كبيراً على دولة القانون لمصلحة القبيلة.. خذوا مثلاً .. شرطياً معنياً بتنفيذ القانون يقع في خطأ أو يخالف القانون.. كيف تعالج المسألة؟ جهاز الشرطة أو قسم الشرطة في تلك المنطقة القبلية يقبل تسوية الموضوع من خلال القبول بتحكيم قبلي فيأتي محكمو القبيلة في النهاية ليصدروا حكماً يقول إن تلك المخالفة التي قام بها الشرطي توجب على (الدولة) إرضاء (القبيلة) بالمهدعش .. و(المهدعش) يعني دفع تعويض مضاعف إحدى عشرة مرة .. أي أن تعويض حالة انتهاك معينة هو أحد عشر ثوراً أو إحدى عشرة دية .. وهذا يخالف مبدأ دستورياً ونصوصاً قانونية تقرر أن الضرر يقدر بحجمة .. وينسجم مع عرف قبلي يقرر أن قتل شخص واحد من قبيلة ما يوجب على القبيلة التي ينتمي إليها المقتول القبول بإزهاق أرواح أربعة (أوادم). - ذلك واحد من المظاهر المعيبة التي تقبل بها حكومة دولة القانون .. وهناك مظاهر أخرى مثل (الرهينة) ..حيث يقوم شخص ما في منطقة قبلية بارتكاب جريمة ثم يفر، وبدلاً من ملاحقته يكتفي مسؤولون عسكريون وأمنيون بالقبض على أشخاص من أسرة مرتكب الجرم أو من قبيلته وحبسهم بدعوى أن ذلك ضروري لإجبار المتهم على تسليم نفسه أو إجبار قبيلته على تسليمه لأجهزة الضبط القضائي.. مثل هذا التصرف قد تكون له نتائج مقبولة من وجهة نظر رجال الضبط القضائي، حيث يؤدي ارتهان الأبرياء لدفع المتهم الفار لتسليم نفسه .. لكن هذه المصلحة الآنية لها تبعات خطيرة أولها أن (نظام الرهائن) يتعارض مع الدستور ومع كل القوانين في البلاد. فالدستور وكذلك القانون يقرران أن المسؤولية الجنائية شخصية، أي أن مرتكب الجرم هو وحده الذي يساءل عن الجريمة ويتحمل عقوبتها، ولايجوز أخذ البريء بذنب المسيء .. لايجوز ارتهان والد بدعوى أن ابنه ارتكب جريمة فما بالك لو كانت الرهينة إنساناً آخر أبعد في درجة القرابة؟